اجتماعالتنويريسلايدر

الخيال واللغة وأنساق المجتمع

1

التحولات الرمزية في اللغة تمنح العلاقاتِ الاجتماعية القُدرةَ على إعادة صياغة إفرازات العقل الجمعي. وإعادةُ الصياغة تعني توليد نظام معرفي يُوظِّف عناصرَ الفِعل الاجتماعي في سياق التحولات الشعورية للفرد والجماعة، ويُوازن بين التفاعليةِ الذاتية ( صورة الذات في مِرآة الذات ) والهُويةِ المُجتمعية ( شرعية المجتمع في عملية توحيد الذات والموضوع ). وتَصَوُّرُ الفردِ عن نَفْسِه يُحدِّد طبيعةَ التعامل معَ مُجتمعه، أي إنَّ الفرد ينتقل من شُعوره الوجداني الشخصي إلى شخصية المجتمع الذي ينتمي إلَيه، وهذا الانتقال ضروري لتكريسِ الخلاص الجماعي في السلوك الإنساني، وتجذيرِ المشاعر الفردية الجُزئية لإنقاذ الكُل المُجتمعي. وإذا نجح العقلُ الجمعي في تطهير المجتمع من ثنائية ( الاستغلال / الابتزاز )، استغلال الفرد للمجتمع كرافعة للأحلام الشخصية، ووسيلة لتحقيق الخلاص الفردي، والهروبِ من المسؤوليات والتحديات، وابتزاز المجتمع للفرد من أجل تحويله إلى آلةٍ بلا رُوح، ومُجرَّد رَقْم مَنسي في أرشيف التغيرات الاجتماعية، فعندئذ ستتحوَّل أُطُرُ البناء الاجتماعي إلى تيارات ثقافية ديناميكية، تقوم على الحركة الفكرية والنشاط العقلاني والحيوية الواقعية من أجل تحقيق التكامل والانسجام بين الفرد والمجتمع، وهذا يَحمي الفردَ مِن التحوُّل إلى كَبش فِداء، ويحمي المجتمعَ مِن التحوُّل إلى خشبة مَذبح. والعلاقاتُ الاجتماعية لا تقوم على حسابِ أعداد الضحايا، وتحويلِ الضحايا إلى أرقام، وتأسيسِ ظواهر حياتية قائمة على المُتاجرة بالتضحيات، وإنما تقوم على بناءِ المفاهيم الأخلاقية وتطبيقها على أرض الواقع، وبناءِ المعنى الوجودي المُتماسك، والمُتَّصِل بتوحيد الزمان والمكان، وعدم الفصل بين التاريخ والجُغرافيا. والوجودُ الإنساني ينبعث في الماضي والحاضر والمُستقبل بشكل تزامني، لأن القوة الذهنية لا توجد فيها فواصل زمنية ولا حُدود مكانية، وهذا هو سِر أهمية الخَيَال، لذلك كانَ الخيالُ أهم مِن المعرفة، وهو أساس الفكر الإنساني، والطريق إلى الإبداع. والطريقُ أهم من الغاية، لأن الغاية معروفة، لكن كيفية الوصول إلَيها غير معروفة. ووظيفةُ البُنى الاجتماعية ليست البحثَ عن الغاية، وإنما البحث عن الطريق إلَيها. ومَن وَجَدَ الطريقَ الصحيح سيصل إلى غايته مَهما كان بطيئًا. وبِقَدْر ما يُؤَثِّر الفردُ في الزمان والمكان، يتأثَّر بهما نَصًّا ورُوحًا. والتأثُّرُ النَّصِّي ينبع من إشارات اللغة ورموزها والآليات المعرفية التي ينتهجها الخِطَابُ الاجتماعي، والتأثُّرُ الروحي ينبع مِن الدَّلالات المعنوية التي تتمركز في أعماق الأفكار العابرة للتجنيس بسبب تحرُّرها من القوالب الجاهزة والأنماط المُعَدَّة مُسْبَقًا.

 

2

يَنبغي النظر إلى العلاقات الاجتماعية من داخلها لا خارجها، لأنَّ الدَّاخل يشتمل على الجوهر الإنساني والبراءة الأصلية والفِطْرة النَّقِيَّة، أمَّا الخارج فهو خليط من الأضداد، ومزيج من الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية، وكَومة من التناقضات المُشتملة على الحق والباطل، والصواب الخطأ، بسبب التأثُّر بإفرازاتِ البيئة المُحيطة، وضُغوطاتِ الواقع المُعاش، ومُشكلاتِ الحياة اليومية. وهذا التلوث الاجتماعي لا يمكن تنقيته إلا بتفعيل مركزية الخَيَال ورمزية اللغة، وإيجاد مكان لهما في جُذور الهُوية الثقافية للمجتمع بعيدًا عن إفرازات النظام الاستهلاكي، لأن الثقافة وَحْدَها هي القادرة على احتضان الخيال واللغة، وتوظيفهما في مُستويات التفاعل الإنساني، والقِيَمِ المِعيارية المُنعكسة عن طريقةِ تفكير الأفراد، وطبيعةِ مُكوِّنات الظواهر الاجتماعية، التي تربط بين شُعور الفرد بأهميته وتجربته الوجودية في أنساق المجتمع. ومركزيةُ القِيَم تستمد سُلطتها الاعتبارية من اتصال الأفراد بالأشياء، وتفاعلهم معها، لذلك كانت الأحكامُ في المجتمع نابعةً من تأثير الأفراد في الأشياء وتأثُّرهم بها. وكما أنَّ الخِبرة الحياتية لا تنفصل عن تجارب الفرد المعنوية والمادية، كذلك القِيَم الإنسانية لا تنفصل عن المنظورِ اللغوي، والتَّصَوُّرِ الفكري، والمَدلولِ العاطفي.

 

 

3

التأثيراتُ المعرفية المُتبادلة في أنساق المجتمع تَؤُول إلى أشكال إبداعية ومفاهيم تعبيرية، تَزرع الخَيَالَ في الفِعل الاجتماعي كَكَائن عُضوي، وتزرع اللغةَ في السلوك الإنساني كَكِيان وُجودي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إنتاج مناهج عقلانية تستطيع رؤيةَ الحقائق الاجتماعية مِن كُل الزوايا، وتكوينَ تفسيرات منطقية للصراعات الذاتية والأحداث الواقعية، والوُصولَ إلى مصادر المعرفة القادرة على تفكيك معاني الأشياء وإعادة تركيبها ضِمن نظام القِيَم الثقافية. وبما أن الثقافة نِيَّة مُبَيَّتة ووَعْي معرفي وفِعْل قَصْدِي لا تِلقائي، فإنَّ القِيَم الثقافية القادرة على إنقاذ المجتمع مِن مأزقه الوجودي، ستكون نابعةً مِن الإرادةِ الواعية، والإدراكِ الحِسِّي ( المَلموس )، والدافعيةِ المعنوية ( غَير المَلموسة ). وبالتالي، ينتقل المعنى الإنساني مِن الغَيبوبة الاجتماعية إلى الفاعلية الحياتية.
_________
* إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة