ما بين التربية والبيداغوجيا: البيداغوجيا علم؟ أم فن؟ أم نظرية؟
“إذا كانت التربية فنا فإن هذا الفن لا يعمل في مادة جامدة، كفن النحت، بل في مادة حية تنطوي في ذاتها على مبدأ نموها ” توما الإيكو يني
مقدمة :
يطرح مفهوم البيداغوجيا (Pedagogy) إشكالية منهجية كبرى في مستويات استخدامنا وفهمنا لها. وهذا المفهوم أصبح اليوم من أكثر المفاهيم التربوية استخداما وشيوعا. وما يكتف هذا الاستخدام هو الغموض والتردد القلق، ونحن عندما نسأل أحد مستخدميه ماذا نعني بالبيداغوجيا نراه يصاب بالارتباك والتوتر وأحيانا يصاب بحالة من الغضب. إذ يجري اليوم استخدام مفهوم البيداغوجيا على طريقة الموضة فالكلمة لها رنينها الجميل المميز واستخدامها يوحي بأن الشخص قد بلغ درجة عالية من الثقافة. فأصبحت هذه الكلمة تستخدم بطريقة عبثية ملفتة للانتباه بين التربويين فتارة تستخدم صفة وتارة اسما وتارة علما وتارة على أنها نظام تربوي أو مدرسي.
وكثيرا ما يسألني بعض الباحثين عن جدوى هذا الاستخدام وعن الفرق بين البيداغوجيا والتربية؟ والسؤال بصورة أدق ما الذي يميز البيداغوجيا عن التربية؟ وهل البيداغوجيا علم أم فن؟ وكذلك لماذا يصرّ مستخدموها على إدمان استخدامها والمبالغة في توظيف مفهومها في الكتابات العربية الجارية؟ وقد أصبح واجبا علينا أن نخوض خوضا سريعا في تحديد معنى هذا المفهوم والكشف عن الملابسات المنهجية التي تحيط به والتمييز بينه وبين التربية وبينه وبين الفن والعلم.
وما لا شك فيه أن تحديد العلاقة بين مفهوم البيداغوجيا والمفاهيم المتداخلة معها أصبح ضرورة منهجية مطلوبة وأن الفصل بين البيداغوجيا وما يحيط بها من مفاهيم مسألة في غاية التعقيد والأهمية. وهذا السؤال يحتاج في حقيقة الأمر إلى بحث كامل مستقل وذلك نظرا للغموض الكبير الذي يشوب هذه المسألة.
وغني عن البيان أن الباحثين غالبا ما يصابون بحالة من الارتباك عندما يقاربون ذهنيا هذه المسألة الإشكالية: هل التربية فن أم علم أم علوم أم نظرية أم فلسفة أم ممارسة فلسفية؟ وقد شكلت هذه القضية موضوعا متواترا تناوله المفكرون، أمثال: دوركهايم في كتابه التربية والمجتمع الذي كان لنا شرف ترجمته إلى العربية، وهربرت سبنسر في بريطانيا، وألكسندر داغيت في سويسرا، وهنري ماريون في فرنسا، وغاستون ميالاريه في فرنسا أيضا. ونؤكد على أن هذا التساؤل يدور في أذهان أغلب المفكرين التربويين المهتمين بالمسألة التربوية وبعضهم يتناولها بعمق في حين يتجاوزها كثير من المربين دون الاهتمام بأبعادها.
منظور تاريخي:
ولهذه المسألة برأينا بعد تاريخي يتعلق بنشأة التربية كعلم أو كفن؟ فالتربية (Education) كفهوم يدل على نشاط إنساني مستمر عبر التاريخ الإنساني. فهناك أنظمة تربوية وتعليمية تعتمد في تربية الناشئة والأجيال في مختلف المجتمعات الإنسانية. ومثل هذه الأنظمة التربوية لا تعتمد الطرائق العلمية التي نعرفها اليوم منهجيا في التدريس والتعليم. إذ غالبا ما كان التعليم في المجتمعات القديمة يتم على نحو عفوي يستجيب للخبرات التاريخية المتناقلة في هذا الميدان. لذا كان دائما يطلق على الفعالية التعليمية تسمية فن التربية والتعليم. ولم يكن المعلم يحتاج إلى إعداد تربوي في تلك العصور لأن التعليم على مدى العصور القديمة كان يشكل نوعا من التعليم التلقيني – نقل المعلومات – وهذا لم يكن يحتاج إلى مهارات علمية متقدمة. ولذا كان الحديث عن علم للتريبة ممتنعا بمعنى لا ضرورة له ولا أمر يقتضيه.
وكما يرى دوركهايم فإن العلم – بسماته الحديثة – لا ينشأ إلا إذا اقتضت الحاجة حضوره وضرورته. وفي تلك العصور القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر لم يكن هناك أي حضور لما يمكن أن نسميه بعلم التربية أو علوم التربية. ولكن الحاجة إلى توليد هذا العلم أو تلك العلوم بدأت مع بداية الثورة الصناعية وانتشار التعليم ضمن أنظمة حكومية مترامية الأبعاد والأطراف.
لذا دعونا نستقرئ ولادة علم التربية تدريجيا. في البداية نقع على ما يسمى بالنظريات التربوية مثل النظرية الطبيعية التي دعا إليها كل من ابن طفيل الأندلسي وجان جاك روسو ومن بعده رواد المدرسة الطبيعية أمثال بستالوتزي وغيره من المربين، وعلى الأثر ظهرت نظريات كثيرة مثل البرغماتية والوجودية والواقعية والمثالية. وتمثل هذه النظريات توجهات فلسفية في مجال التربية والتعليم. ومن الواضح أن هذه النظريات لا تقوم على أسس علمية راسخة. وهي ليست علما بالتأكيد.
ومع بداية القرن التاسع عشر وتطور الأنظمة التعليمية واتساع التعليم وتعاظمه، بدأت معالم البيداغوجيا التربوية بالظهور. والبيداغوجيا (Pedagogie) مصطلح إشكالي يشير إلى علم التربية وأحيانا نظرية التربية ومرة أخرى إلى التربية بوصفها علما وفنا في آن واحد. ولكن الأمر الثابت أن البيداغوجيا هي علم التربية وهو العلم الذي يباشر عملية النمو الانفعالي والتربوي عند الطفل ويبحث في أفضل السبل للعملية التربوية. وكما يتضح من لفظ الكلمة فإن كلمة بيداغوجيا مشتقة من كلمة “بيداغوغ ” وهو العبد الذي كان يشرف على الأطفال في بلاد الإغريق القديمة.
في مفهوم البيداغوجيا:
والبيداغوجيا تعريب للكلمة الفرنسية Pédagogie وقد ترجمت إلى العربية بمعنى نظرية التربية أحيانا وعلم التربية أحيانا أخرى بمعنى فن التربية مرة وعلمها مرة ثانية ومن أجل تجاوز هذه الازدواجية تجري العادة على استخدام اللفظة الأجنبية “بيداغوجيا ” وهو المفهوم الذي حاول دوركهايم تحديده وتحديد معالم تجانسه وتمايزه مع علم التربية Science de l’éducation ومفهوم التربية Education.
وغالبا ما يتداخل مفهوما التربية Education والبيداغوجيا Pédagogie ومع ذلك فإن الفصل بينهما بدقة وعناية أمر تقتضيه الضرورة المنهجية. فالتربية Education تعني الفعل الذي يمارسه الآباء والمعلمون على الأطفال، وهو فعل يتميز بديمومته وعموميته. إذ لا توجد مرحلة ما في الحياة الاجتماعية، إذا لم نقل لحظة من لحظات الحياة اليومية، لا يتعرض فيها الأطفال لعملية الاتصال مع الراشدين ولتأثيرهم التربوي.
فالتأثير التربوي لا يحدث في إطار اللحظات القصيرة فحسب، التي يتواصل فيها الآباء والمعلمون بشكل واع مع صغارهم عن طريق التعليم، والذي ينقلون من خلاله لهؤلاء الأطفال حاصل خبراتهم الحياتية. إذ توجد هناك تربية غير مقصودة عرضية تتميز بخاصة الديمومة والاستمرار. وهذا يعني أننا – نحن الكبار – نمثل نموذجا تربويا يتجلى في أحاديثنا وأفعالنا التي نقوم بها في إطار حياتنا الاجتماعية. وهو نموذج نؤثر من خلاله في عقول أطفالنا بشكل دائم.
فالممارسات التربوية هي شيء آخر غير “البيداغوجيا” التي تتجسد في إطار متكامل من النظريات والآراء والأفكار التربوية، كما تتجسد في وجهات نظر تدور حول التربية وهي شيء آخر يختلف عن الممارسة التربوية العملية.
ويمكن لنا في هذا السياق تحديد مفهوم البيداغوجيا بشكل جيد عندما تتم مقابلته مع مفهوم الممارسة التربوية. فالتربية التي يعلن عنها رابليه Râblais، وهذه التي يبديها روسو Rousseau، والتي رسمها بستالوتزي هي نظريات تتعارض مع التربية الواقعية التي كانت سائدة في أيامهم. فالتربية Education موضوع يخضع لدراسة البيداغوجيا Pédagogie التي تتمثل في بعض اتجاهات التفكير الخاصة بالقضايا التربوية.
فعلم التربية Science de l’éducation يسعى إلى معرفة التربية Education بوصفها موضوعا للدراسة، وهو لا يتداخل مع النشاط الانفعالي للمربي أو مع نظرية التربية Pédagogie الذي تقوم بتوجيه النشاط التربوي. فالتربية كممارسة تشكل موضوعا لعلم التربية Science de l’éducation وهذا يعني أن علم التربية لا يسعى إلى تحقيق الغايات نفسها التي تسعى إليها التربية، بل وعلى خلاف ذلك، يقدم للتربية مختلف المعلومات والمعارف المناسبة لعملية التربية. وهنا لا يعترض دوركهايم أبدا في أن يشكل علم النفس ركيزة لعلم التربية بالمعنى الواسع للكلمة. إذ يمكن لعلم النفس، وحده، باستناده إلى البيولوجيا والطب أن يدرك لماذا يحتاج الطفل إلى التربية، وكأننا بدوركهايم يتنبأ بعلم النفس التربوي الذي سيتشكل لاحقا كعلم رديف للتربية وأصيل فيها.
بيداغوجيا دوركهايم
لقد حدد دوركهايم علم التربية Science de l’éducation على نحو بالغ الوضوح، بأنه علم اجتماعي. إن ما يعنيه دوركهايم بالبيداغوجيا ليس نشاطا تربويا أو علما تأمليا بل ما يعنيه بالبيداغوجيا هو تأثير الجانب الثاني التأمل في الجانب الأول النشاط، وهذا يعني أن المهمة الأساسية للتأمل الفكري تكون في عملية البحث، التي تجري في إطار معطيات علم النفس وعلم الاجتماع، عن المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني. وتأسيسا على ذلك نقول إنه عندما تكون لدينا، في واقع الأمر، معرفة جيدة بطبيعة الأشياء فإن فرص استخدامها بشكل فعال تكون أكبر على المستوى العلمي. وعندما يقوم المربي بمعالجة اهتمام الأطفال فإنه سيكون أكثر قدرة على التحكم، إذا كان يعرف بدقة طبيعة الطفل. وهذا يعني أيضا أن علم النفس يشتمل على إجراءات تطبيقية، وأن علم التربية يقوم بتشكيل القواعد والمبادئ الأساسية للعمل التربوي وتهيئتها.
ولكن علم التربية لم يكن قد تشكل فعليا في زمن دوركهايم وما زال حتى اليوم في صيغة مشروع يمكن تحقيقه. وهذا يعني أنه يمكن لفروع علم الاجتماع أن تأخذ على عاتقها مساعدة “البيداغوجيا” على تحديد هدفها وتوجيه مناهجها. ويمكن أيضا لعلم النفس أن يؤدي دورا بالغ الأهمية في تحديد تفاصيل العملية التربوية وتوجيه مساراتها. ويبدو لنا هنا أن البيداغوجيا أصبحت لاحقا وثيقة الصلة بعلم النفس ولاسيما بعلم النفس التربوي، وقد شكل الاتحاد بينهما أشبه ما يكون بعلم التربية الحديث الذي لم يكتمل بعد.
وقد أشار دوركهايم إلى هذه القضية بوضوح في القاموس التربوي لفرديناند بويسون إذ يقول “إن البيداغوجيا أصبحت علمًا للتعليم ولكن ما زال علما لم يكتمل بعد ويتعين بناؤه بالكامل كي يصبح “العلم الذي يجعل من الممكن معرفة ما يجب أن يكون التعليم وذلك لمعرفة طبيعة التعليم وتحديد الشروط التي يجب أن يعتمد عليها ورسم القوانين التربوية التي يتوجب أن يهتدي بها”.
وكأن دوركهايم كان يتنبأ بالحديث عن علم أصول التدريس الذي نشأ واضحا بالاعتماد على معطيات علم النفس واستكشاف القوانين الفضل لعملية نقل المعلومات وتعليميها للطلبة. ومن هذا المنطلق يمكن تسمية علم أصول التدريس بعلم التربية ببساطة لأنه يحدد المعايير وأفضل السبل في توجيه العملية التعليمية. وهذا هو الأمر الذي أشار إليه هنري ماريون (1883)، خلال محاضرته الافتتاحية في جامعة السوربون في ندوة مخصصة لعلم أصول التدريس إذ يقول “هناك علم حيثما يوجد نظام مترابط ومتكامل من الحقائق والافتراضات الواقعية ووجود نسق متكامل من المفاهيم والتفسيرات الصحيحة التي يستند فيه إلى العقل والتجربة وتؤدي إلى نتائج إيجابية أثناء الممارسة والتطبيق “، وهذه هي الأصول التي يقوم عليها علم أصول التدريس أو ما يمكن تسميته بمناهج التدريس.
وعلينا الآن أن نأخذ بتطور التربية الحديثة الذي ارتبط بتطور المناهج والطرائق والأصول، وضمن هذا السياق تآلفت مجموعة من العلوم التربوية التي تضافرت في مجال تأصيل العمل التربوي. في زمن دوركهايم كانت البيداغوجيا التي تطورت إلى علم التربية ممثلة في أصول التدريس، أما اليوم فيمكننا الحديث عن مجموعة متآزرة من العلوم التربوية – هذه المرة بصيغة الجمع – Sciences de l’éducation.
ووفقا لـجاستون ميالاريه تتكون علوم التربية من جميع التخصصات الأساسية التي نعرفها اليوم مثل: علم الاجتماع التربوي، وتاريخ التربية، واقتصاديات التعليم، وعلم النفس التربوي، والاثنولوجيا التربوية، والتربية المقارنة، وأصول التدريس، ومناهج البحث التربوي، وعلم الاجتماع المدرسي، والإدارة التربوية، وغيرها من العلوم التربوية. ويلاحظ في هذا السياق أن التربية تقوم على نسق من العلوم التربوية البينية المساندة التي أصبحت ضرورية وحاسمة في تطوير العملية التربوية. ويلاحظ في هذا السياق أن التربية ليست علما بالمعنى الدقيق للكلمة بل هي نشاط ضخم يعتمد على مجموعة من الأنساق العلمية المختلفة.
وبالعودة إلى زمن دوركهايم (نهاية القرن التاسع عشر)، كان الحديث يجري عن علم التربية ” بيداغوجيا ” الذي ارتبط بعلم النفس وهو العلم الوحيد الذي تم تأسيسه علميًا، ليكون قادرًا على تسليط الضوء على التعليم، من حيث نظريته وكذلك نظرية ممارسته. ولكن مع تطور العلوم الإنسانية وبعد فترات طويلة من التجارب المهمة والتطورات اللاحقة في الحقل التربوي تبين أنه يمكن التأسيس على عدد آخر من العلوم الإنسانية البينية كالتي أشرنا إليها آنفا.
أصل الكلمة:
ومن جديد علينا القول بأن كلمة “بيداغوغ” أصلها إغريقي وكانت تعني العبد الذي يقود الأطفال إلى المدرسة. ولكن هذه الكلمة بدأت تغتني بمضامين جديدة لتدل على معاني سامية فـ “البيداغوغ” هو اليوم الذي يعنى بتربية الأطفال والشباب وتنمية ذكائهم.
ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن التربية (Education) تشكل موضوعا للبيداغوجيا (Pedagogy). فالتربية كموضوع للبيداغوجيا هي ممارسة وفن توجيه وتنمية الإنسان، وهذا يشمل الكائنات الحية، حيث يقال على سبيل المثال: تربية النحل، وتربية دودة القز، وتربية الحيوانات، وتوظف أسمى توظيف عندما يقال تربية الإنسان.
وعندما نأخذ البعد الإنساني في مفهوم التربية نقول: التربية منظومة العمليات والفعاليات التي توظف في تحقيق الكمال الإنساني للطفل عبر تنمية مختلف القوى والقدرات والقابليات الإنسانية الكامنة فيه إلى أعلى حدّ ممكن. وتهدف التربية كما يقول ستيورات ميل إلى تنمية مختلف القدرات والقابليات المضمرة في الإنسان من أجل أن يحقق أعلى درجة من درجات تكامله وكماله الإنساني المتجذر في ذاته. وفي حقيقة الأمر فإن الإنسان يحقق ذاته تربويا ليس بقوة الأشخاص والمربين الذين يحيطون به بل بتأثير مختلف الظروف والأحوال والقوة التي تحيط به وتشكله إنسانيا وأخلاقيا: القوانين والأعراف والتقاليد وظروف الحياة المتنوعة. وعندما يشب الطفل عن الطوق يقوم هو ذاتيا بتربية نفسه وتطويرها نحو الأفضل الممكن على مدى الحياة، لأن الإنسان يتميز بقابليته التربوية المستمرة وينزع إلى النمو المستمر نحو الأفضل من المهد إلى اللحد.
ويمكننا التمييز بين عدة أنواع من التربية مثل: التربية البدنية، والتربية العقلية والروحية، والتربية الأخلاقية. ويمكن الحديث أيضا عن التريبة المهنية التي تعدّ الأفراد لممارسة مهنة فنية أو صناعية أي المهنة التي سيمارسها الفرد خلال مسيرة حياته. ومن المعروف أن التربية تستمد أهميتها من موضوعها وهو الإنسان، فهي تتعلق بالإنسانية وبكل ما يتصل بها من معطيات ومن سعادة، ويمكن القول في هذا السياق أن السعادة ليست هدفا وحيدا للتربية وليست هي الهدف الأسمى للحياة: فالتربية تتميز بغاية إنسانية أخلاقية عليا تتعلق بالفضيلة والقيم قبل كل شيء.
ومن الواضح تماما أن التربية بوصفها ممارسة تستمد طاقتها من علوم مختلفة مثل علم النفس والأخلاق وعلم الاجتماع. فالأخلاق على سبيل المثال تقدم كثيرا من الدعم والمساندة للتربية وليس من الضرورة الـتأكيد على هذا الجانب لما يتميز به من وضوح. إذ لا يمكن أن نتصور التربية من غير أساس أخلاقي، فالأخلاق هي التي تقدم للتربية نموذجها الأخلاقي الذي يجب أن تسعى إليه.
وفي هذا السياق لابد من القول بأن علم النفس لا يقل أهمية عن الأخلاق. فعلم النفس يقدم للتربية الكيفيات التي تعتمدها من أجل توجيه الطفل إذ لا يمكن أبدا للمربي أن يوجه الطفل ويحقق ازدهاره من غير المعطيات التي يقدمها علم النفس. إذ لا بد للمربي من أن بعرف الطفل قبل أن يعلمه ومن أجل معرفة الطفل وتعيين قواه وتحديد كيفياته النفسية يساعد علم النفس المربي في الكشف عن الجوانب النفسية والمعرفية للمتعلم. ويضاف إلى ذلك أن علم النفس يعلمنا كيف نفهم أنفسنا وكيف نوجه سلوكنا نحن أنفسنا. وهكذا فإن علم النفس يكون ضروريا جدا بالنسبة للمعلم والمربي الذي يتوجب عليه أن يعنى بالطفل ويتعرف إلى قدراته وميزاته النفسية. فعلم النفي على سبيل المثال يكشف عن طبيعة مشاعر الطفل وذكائه وقدراته وميوله وطباعه واتجاهاته وهذا كله يكتسب أهمية كبيرة بالنسبة للعمل التربوي حيث يتوجب على كل مربي أن يكون عالم نفس كي يستطيع أن يدي دوره التربوي على أكمل وجه.
وأخيرا هل البيداغوجيا فن أم علم؟
من المعلوم أن المرء أحيانا كثيرة لا يحتاج إلى ركام من الدراسات والبحوث من أجل أن يؤدي دوره التربوي تجاه أطفاله، إذ يكفي أن يمتلك المرء بعض أفكارا واضحة وعاطفة قوية جياشة من أجل تربية مثلى. وهذا الأمر يتعلق بمسألة اللطف والرقة والعاطفة، فالأم تقوم بتربية أطفالها تربية تعتمد على هدي قلبها وعاطفتها الأمومية وهي لذلك قد تكون دائما أفضل مربية ومعلمة على الأطلاق.
ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن التربية فن وهذه حقيقة لا يمكن الشك فيها، وهي بوصفها فنا فإنه تستلهم العاطفة والقلب والمشاعر، وهي فن لا يمكن تعليمه بل يكتسبه المرء بالممارسة الوجدانية المستمرة. ولا يمكن لأية أية معرفة لا يمكنها أن تكون بديلا لهذه السمات الإنسانية التي تتعلق بالقلب والوجدان.
ولكن أليس من الأفضل أن يعمل المربي على إغناء هذه الطاقة الوجدانية وتطويرها عبر المعرفة العلمية والتأمل الفكري؟ فالفرد لا يهدر مواهبه الطبيعية من أجل الحصول على كفاءات ومواهب مكتسبة. وإذا كان يستطيع الاستغناء عن القوانين والمعارف الضرورية فإن ذلك يكون بواسطة القدرة الفنية العالية التي يمتلك عليها بالعفوية والبداهة والفطرة حيث يجب عليه الاهتداء بفطرته وعفويته. وهنا تكمن العبقرية الحقيقية. فالأم غير المثقفة غالبا ما تمتلك حسا عبقريا في عملية التربية، وهي عبقرية تصدر عن القلب ودواعيه الإنسانية والوجدانية، حيث يتكهن المربي بما يناسب الطفل عبر معرفة بديهية بحاجاته وقدراته. ومع أهمية المعرفة الحدسية فإن المعرفة العلمية تكون ضرورية وحيوية وضرورية لتطوير العملية التربوية وإعطاء المربي قدرات أكبر على توجيه الأطفال والناشئة نحو الأفضل بما يحقق نماءهم وازدهارهم. ومن الأفضل دائما للمربي والمعلم أن يحلل ويفهم ما يقوم به عبر المعرفة العلمية والمنهجية. فالفطرة قد تكون خير معلم ولكن المعرفة تضفي نوعا من القدرة والأهلية والكفاءة.
غالبا ما تأخذ النظرية صورة معرفة تأملية في طبيعة الأشياء أما الممارسة فتعني ممارسة الفعل في الواقع الحي الذي يكتنف الأشياء. فالنظرية فكر وتأمل والتطبيق ممارسة وفعل وحقيقة حيّة تجسد الفكر والتأمل.
وعلى نحو عام يمكن القول بأن قوتنا تصدر عن معرقتنا. حيث يقول الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون وفي قوله تكمن قوة الحقيقية: الإنسان يستطيع بقدر ما يعرف أن يسيطر على الطبيعة وأن يفسرها، وكلما عرف أكثر كلما ازدادت قوته وسطوته على الأشياء ” ففعلنا يصدر عن معارفنا النظرية، وهذا ما يعبر عنه كشعار فلسفي: المعرفة من أجل التنبؤ والسيطرة. ومن السهل بمكان اختبار مصداقية الرؤية الفلسفية في مضمار الحياة العملية. فكلما ازدادت معرفتنا كلما زادت قدراتنا ومهاراتنا العملية. ومن هنا تنشأ ضرورة المعرفة النظرية حتى هذه التي لا يبدو أنها يمكن أن تقود إلى ممارسة عملية مباشرة.
والمعرفة العلمية تكون غالبا معرفة بالأسباب، كما أنها معرفة بمداخل الأشياء ومخارجها، والكشف عن طبيعة الظروف التي تصاحب ظاهرة ما وتحديد أسبابها ومتغيراتها ونتائجها. وعندما يستطيع الإنسان الكشف عن ملابسات الظاهرة وأن يدرك أسبابها فإنه يستطيع أن يدرك نتائجها، فنحن اليوم ننتج الحرارة بإرادتنا وكذلك ننتج الآثار المترتبة على الحرارة برغبتنا أيضا مثل عملية صهر المعادن وغليان السوائل. حتى في اللحظة التي يكون فيها السبب خارج سيطرتنا مثل أسباب الفيضانات والأعاصير فإنه لمن السهولة بمكان عندما نعرف هذه الأسباب أن نتنبأ بها وأن نتجنبها على الأقل. فلا أحد على سبيل المثال ستطيع أن يؤخر فيضان النيل الدوري، ولكن يمكن التنبؤ بذلك ومعرفته والاستفادة منه أيضا. ونحن أيضا لا نستطيع أن نفعل شيئا إزاء الصواعق المطرية، ولكن يكفينا أننا نعرف أسبابها وطبيعتها كي نحرفها عن مسارها عبر موانع الصواعق كي نتجنب آثارها القاتلة. إذا كانت الحقائق النظرية قد تشكلت، فمن الطبيعي، أنه يتوجب علينا أن نعرفها وأن نبثها ونعلمها للأطفال منذ نعومة أظفارهم، مثل الاحترام الديني، وحب المعرفة، والنزاهة.
خاتمة:
وبعد هذه الجولة القصيرة نقول بأن التربية ( Education) تأخذ طابع نشاط تنموي يعمل على تنمية الكائن وهي غالبا تكون أشبه بالفن الخاص في ظل غياب النظرية. ونقول بأن علم التربية (ٍSciences de l’education) التربية المنظمة التي تقوم على أساس العلوم ولاسيما العلوم النفسية والاجتماعية، ونعتقد أن البيداغوجيا (Pedagogy) تأخذ الحلقة الوسطى بين العلم والفن فهي فن ونظرية في آن واحد. فالبيداغوجيا غالبا ما ستستخدم اليوم بوصفها علم تربية الطفل تحديدا وهي أكثر ارتباطا بالنظريات التربوية المتعلقة بتنمية الطفولة والأطفال. وهنا لا بد لنا من القول أن مفهوم البيداغوجيا هو مفهوم وسط بين النظرية التربوية والعلوم التربوية بين العلم والفن.
والمهم جدا القول بأن استخدام المفهوم يجب أن يكون قائما على فهم جدوى الاستخدام إذ يجب أن نميز ما بين استخدم البيداغوجيا بوصفها صفة أو اسما أو علما أو نظرية. وهنا أقول إن أغلب الاستخدامات التي تجري في العالم العربي هي استخدام وصفي بمعنى تربية وتربوي عنما نقول: بيداغوجيا الأطفال غالبا ما نعني بها تربية الأطفال وليس النظرية التربوية للتربية عند الأطفال.
__________
*علي أسعد وطفة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مقال رائع دكتور