التنويريسلايدرفكر وفلسفة

نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة؛ تنظير الغرب في منظومة الخشت

تسعى هذه الدراسة إلى تعيين الأسس المعرفيّة لنقد الغرب في المشروع الفكريّ عند المفكِّر المصريّ البروفيسور محمد عثمان الخشت؛ ولأجل الإحاطة بهذا المسعى، تمضي الدراسة التي كتبها المفكِّر اللبناني د. محمود حيدر إلى استقراء منهجيّته النقديّة من خلال سلسلة ثريّة من أعماله في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع واللاَّهوت النقديّ وفلسفة الدين. ولسوف يتبيَّن للناظر في منظومة الخشت النقديّة إلى أيّ مدى اقترن نقد الغرب الحديث بمراجعة عميقة لذهنيّة النخب العربيّة والإسلامّية التي عاشت دهشة الحداثة ولمّا تتخلّص من سطوتها بعد.

المحرِّر
__________

لو أطللنا على أعمال المفكِّر المصري محمد عثمان الخشت لَلاَحَظْنا أنّه يستمع إلى خطبة الغرب بأذن واعية، ثم أن يقرأها بعناية من أجل أن يقف على ما تختزنه من مسائل ومشكلات. وأميل إلى القول إنّ الرجل لمّا كتب على نفسه متاخمة الغرب انطلاقًا من خصوصيّته العربيّة والإسلاميّة، كان يدرك أنّ الحداثةَ هي لغةٌ من قبل أن تكون بنيانًا حضاريًّا، وأنّ لغة الغرب هي الوعاء الحضاريّ للشعوب الأوروبيّة والأميركيّة، وهي حاوية لكلّ ما يعرب عن مذاهبهم وميولهم وأهوائهم. ولمَّا قَصَد إلى فهمها فلثلاثة دواعٍ: أولًا، ليقف على اختباراتها ومعارفها، وثانيًا، ليعاين وينقد ما استتر منها من معاثر، وثالثًا ليتحرّى مآلات الحداثة بعدما آل أمرُها إلى ظلاميّة السلطة الكولونياليّة ومظالمها.

سوف يأخذ محمّد عثمان الخشت بهذه المنهجية وهو يجول محاريب الحداثة وقيمها. ولقد بدا للناظر في أعماله النقديّة لثقافة الغرب أنّه وهو يهاجر إلى منازلها القصيّة في اختباراتها والتباساتها ومطارحها الغامضة، لم ينفصل عن مشرقيّته وثقافته الإسلاميّة. الأمر الذي سيكون له مكانة حاسمة في تشكيل دربته الجامعة بين منهجين يبدوان متناقضين لأهل العقل المحض: منهج الوحي، ومنهج الاستدلال العقليّ.

في المنهج وآليَّات النقد

لأجل تظهير غايته التنظيريّة، أخذ محمّد عثمان الخشت بمنهجيّة مركّبة تقوم على تفعيل ثلاثة خطوط متوازية ومتلازمة في الوقت عينه:

الأوّل: التعرّف على المجتمعات الغربيّة كما هي في واقعها، من خلال مواكبة تطوّراتها العلميّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، وكذلك عبر ما تقدّمه نخب هذه المجتمعات من معارف في سياق إعرابها عن القضايا والمشكلات التي تعيشها في مطلع القرن الحادي والعشرين.

الثاني: التعرّف على المناهج والآليّات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلاميّة على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء كثير من الحقائق وتبديد الأوهام التي استحلّت تفكير شريحة واسعة من المثقّفين العرب والمسلمين بسبب الاستشراق الكولونياليّ.

الثالث: وهو خطّ المراجعة النقدية لقيم الغرب ومعارفه التأسيسية.

وتبعًا لهذه المنهجيّة سعينا إلى تظهير مشروعه الفكري ضمن ثلاث دوائر رتَّبناها على الوجه الآتي:

1 -السؤال المؤسِّس كمنهج للتنظير – 2- نقد البيان الفلسفيّ للحداثة، وفيه مساجلة لظاهرتين فلسفيّتين: نقد العقلانيّة النقديّة عن كانط، ونقد العقلانيّة المنحازة عند هيغل- 3- نقد أطروحات هيغل حول الإسلام.

الدائرة الأولى: السؤال المؤسّس كمنهج للتنظير

يجاوز المسرى الذي سرت فيه مجهودات البروفسور الخشت، ما أَلِفَته الدراسات والأبحاث الأكاديميّة الكلاسيكيّة. مال إلى مساجلة الأسئلة المؤسِّسة التي أخذت بها الميتافيزيقا وحوَّلتها إلى أيقونة لا تقبل المجادلة والنقض. وهذه خاصِّية لا ينالها إلّا الأقلّون ممن امتهنوا الدرس الجامعيّ أو انشغلوا بالمقرّرات التعليميّة الصارمة، بهذه المجاوزة جازت مناظرته بوصف كونه منظِّرًا يمسك بناصية السؤال استمساك السائل المسؤول. أدرك أنّ التنظير في مآلاته القصوى غير موقوف على توصيف ظواهر الأفكار والأحداث، وأنّه قبل أيّ شيء، مجهود متبصِّر يروم معاينة القابليّات الكامنة وراء الظواهر، والمفضية من ثمّة إلى ولادتها؛ من أجل ذلك يمتدّ الأفق الذي يتّخذه المنظِّر مسلكًا له، إلى عمق الفكرة ومنشأ الحدث ليستظهرَ منهما ما يشقَّ على الفهم. أدرك أيضًا أنّ الأمر نفسه ينبغي أن يجريه التنظير حيال الزمن العربيّ الراهن وأحداثه، من أجل أن يعاين ما يحتجب في تحوّلاته، وجلاء ما يحيط به من لَبْسٍ واشتباه، وعليه فإنّ مهمّته كمنظِّر سلكت في اتجاهين متلازمين: أنطولوجيّ وتاريخيّ. ومثل هذا التلازم هو شأن أصيل وجوهريّ في الجهود التي يبذلها المنظِّر حتى يتعرّف على العالم وفهم حقائقه المعلنة والمستترة؛ من أجل ذلك حقّ التفكّر بهما معًا، وذلك خلافًا لما درج عليه الفصل القهريّ الذي اقترفته الفلسفة الأولى وامتداداتها المعاصرة بين الظواهر ومصدرها الأصيل. بهذا المعنى رمى مسلكه في التنظير النفاذ إلى قلب الحوادث التاريخيّة لاستكشاف أسباب ظهورها، أي متاخمة المبدأ الذي بسببه ولدت الأحداث من الأفكار، والأفكار من الأحداث، ثمّ أن ينتقل إلى طور أعلى ليتاخم ما لا يتناهى التفكُّر فيه، وتلك مهمّة مركبة تستحثُّ على التقدّم نحو فتوحات فكريّة تملأ مناطق الفراغ في الحيّز الحضاريّ الذي تنشط فيه، مثلما تسهم في تخصيب فعاليّات التفكير على نطاق الحضارة الإنسانيّة ككلّ.

في سيرته المعرفيّة لم يكن الخشت غافلًا عن استعادة سؤال التنظير كضرورة للتفكير الخلاَّق. فهو من الذين انبروا إلى القيام بتظهير هذا السؤال في حقل العمل، ولم يأخذه الادعاء بالإحاطة الشاملة بالموضوعات الداخلة في مجال عمله، فالمنظِّر الأصيل في دربته عقلانيّ بقدر ما هو أخلاقي، وبقدر ما يسعى إلى رؤية الأشياء كما هي في الواقع، فإنّه لا يحكم على شيء إلّا وجد فيه إضاءة، ولو كان من عند خصمه، فالمنظِّر العقلانيّ الأخلاقيّ يدرك أنّ الذات المفكِّرة قادرة على الفعل والإيجاد متى غادرت كهفها وتكاملت بالغير.

في معرض متاخمته للغرب سيمضي الخشت إلى فهم أسئلته الكبرى ومبادئه الأولى ونقدها، وهذا بطبيعة الأمر شرط أساسيّ من شروط المهمّة التنظيريّة، فإذا كان للتنظير غاية تأسيسيّة لأفق جديد في التفكير، فبديهيّ أن يجري البحث عن سؤال مؤسّس يكون من طبيعته وسلالته، وما ذاك إلّا ليقين عند صاحب السؤال المؤسّس بأنّ خطبة الحداثة قاصرة عن الإفلات مما أنتجه عقلُها الأداتيّ وأسئلته الفانية، فالسؤال المؤسِّس راسخ وأصيل ومجاوز لما هو عابرُ وعارض من أفكار وأحداث، بيد أنّه وهو يغتني بهذه السمات المفارقة لا ينأى من دنيا التحوّلات، بل هو يُقبِلُ نحوها ويشملها باهتمامه ورعايته باعتبارها حقلًا ضروريًّا لبلوغ أهدافه الكبرى. هكذا يكتسب السؤال المؤسِّس القدرة على التمهيد للما بعد، ثم يواصل امتداده الخلاَّق على نحو لا يحدّ من نشاطه وديمومته فوضى الوقائع وغموض الآثار المترتبة عليها.

كان الفيلسوف الألمانيّ فرانز فون بادر (Franz Von Baader) (1756- 1841) (وهو أحد أهم فلاسفة عصر المثالية الألمانيّة) يتحدّث عن فجوات الحداثة ومعاثرها، ويعيد أسبابها إلى الانفصال المريع عن المبدأ الذي يؤسِّس ويؤسَّس عليه، وقد قارب موضوعه الشائك على نحوٍ فارقَ فيه معظم فلاسفة الحداثة من ديكارت مرورًا بكانط وصولًا إلى هيغل ومن تبعهم[1].

على سبيل المثال، تبتدئ الفلسفة عند بادر بالسؤال عن الذي يؤسّس بنية الكينونة والتفكير، ويقصد بذلك المبدأ الأساسيّ الذي يُحدِثُ الكينونة ويؤيّدها ويرعاها، هذا المبدأ يجيء إثر النسيان الذي اقترفته الميتافيزيقا الأولى بحقّ الوجود ثمّ سرى بالوراثة إلى أزمنة الحداثة، فالمحدِث والمؤسّس الأوّل لا يمكن أن يُحدِث ويؤسّس غيره من قبل أن يُحدِث ويؤسّس نفسه أوّلًا، ومن خلال كونه مؤسِّسًا لذاته فقط، يمكن لذاتيّ التأسيس أن يؤسِّس. لقد رأى أنّه لا يمكن لسببية أُولى لا تكون مؤسَّسة بذاتها أن تكون سببيّة أُولى. وأي تفكير لا يكون تفكيرًا نابعًا من ذاته وواعيًا لذاته وللغير، لا يمكن أن يكون مؤسِّسًا ومُحدِثًا للتفكير والوعي، فالسببيّة الأولى سببيّة أولى؛ لأنّ الإحداث يعني التأسيس بالذات، والتفكير بالذات والوعي بالذات، وهذا الإحداث للذات وإنشاء الذات لا يمكن أن يحدث بأيّ شكل في العالم المتناهي، وانّما في حياة الحقيقة الإلهية اللاَّمشروطة والأزليّة والتي لا بداية لها[2]، أمّا النتيجة التي يتوصّل إليها فون بادر، فهي التنظير لمنظومة معرفيّة تقوم على الوصل بين الموجود والواجد، وعلى الرعاية التامّة التي يؤدّيها المبدأ المؤسّس للموجودات ويجيب على أسئلتها أين كانت وكيفما صدرت: وبناء على هذه النتيجة يصبح كلّ تفكير ذاتيّ للموجود المحدود مفكَّرًا فيه، ويعرِف أنّه مفكَّر فيه في الوقت نفسه،  بذلك يكون بادر أوّل من أماط اللثام عن الخلل المعرفيّ في ذاتيّة الكوجيتو الديكارتيّ، على أساس أنّ «الأنا أفكر» (الكوجيتو) هي دائمًا في الوقت نفسه «أنا مفكّرٌ فيّ إذا أنا أفكِّر (cogitor ergo cogito)[3].

الدائرة الثانية: مساجلة البيان الفلسفيّ للحداثة

تزخر أعمال الخشت بمتاخمة القضايا التأسيسيّة للحداثة، وهنا يتبيّن لنا من خواص هذه المتاخمة رؤيته كيف تهافتت المفاهيم التي حكمت مذاهب التفكير، وكيف راحت تفتقد تدريجًا إلى الجاذبيّة التي حظيت بها طيلة القرون المنصرمة. وما ذلك على غالب الظن، إلّا لأنّ هذه المذاهب بلغت درجة الاشباع، الأمر الذي أُتيح فيه للتفكير النيوليبراليّ فرصة إعلان نهاياتها في ختام القرن العشرين. ولو كان لنا أن نتجاوز عن الدوافع والمتكّآت والغايات الأيديولوجيّة لهذا الإعلان، لوجدنا أنّ المآلات التي بلغها التطوّر العالميّ في بدايات القرن الحادي والعشرين ستوفّر الشروط الضروريّة لولادة فكرة النهايات. كان واضحًا أنّ الإعصار الذي عصف بعالم الأفكار لم ينحصر بأرض الغرب، حيث أذيع بيان نهاية التاريخ، بل مضى ليشمل الشرق بعامّة، والعالم العربيّ والإسلاميّ بصفة خاصّة. ومن المفارقات التي تثيرها هذه النقطة بالذات، أن نشأ ضربٌ من الفراغ الفكريّ المتوازي شمل الغرب والشرق معًا، وأعرب عن نفسه بضمور فكريّ لا يمكن إحياؤه إلّا بفتح الآفاق لتنظير يؤسّس لقيم ومعارف مستحدثة.

قرَّر الخشت أن يبتدئ رحلته التنظيريّة من الأسئلة التأسيسيّة التي انبنت عليها الحضارة المعاصرة، فقد استشعر باكرًا الأثر غير المحمود الذي أحدثته معارف الغرب في وعي النخب العربيّة والإسلاميّة؛ لذلك سنجده يتّخذ من البيان الفلسفيّ للحداثة منفسحًا لاستقراء تشكّلات الوعي الغربيّ حيال الإسلام والشرق؛ لذا جاءت أعماله أقرب إلى حفرٍ معرفيّ يستظهر ما يختزنه العقل الغربيّ من تنظيرات مهَّدت لثقافة الهيمنة والاستحواذ، ولو كان من مقاربة إجماليّة لمساعيه في هذا المضمار فسيتبيّن لنا أنّها تخطَّت التوصيف المحايد لتتموضع على جبهة المساجلة العلميّة والتفكيك المنطقيّ للأفكار. وما هذا إلّا ليقينه أنّ الأحكام الأيديولوجيّة القطعيّة -على أهمّيّتها في لحظات الاحتدام والصراع على الهويّات- تبقى قاصرة عن إنجاز إحيائيّة فكريّة ذات آفاق حضاريّة شاملة؛ من أجل هذا سنجد أنّ أحد أبرز مكوّنات المشروع الفكريّ عند الخشت هو الانطلاق من فرضيّة مؤدّاها أنّ الفكر الإقصائيّ الغربيّ هو حيِّزٌ متأصِّلٌ في فلسفة التنوير، والدليل على هذا المدّعى ما درج عليه عدد من الرواد المؤسِّسين من فلاسفة وعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه (kARL VON LINNE)  إلى هيغل (HEGEL)[4]، وإلى من تلاهما من رموز الحداثة الفائضة، فقد عكف هؤلاء على وضع تصنيفات هرميّة للجماعات البشريّة وفقَ مبدأ الأرقى والأدنى وثنائيّة السيد والعبد، وكان لهذا الشيء عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة -على سبيل التمثيل لا الحصر- إلى فلسفةٍ سياسيّةٍ عنصريّةٍ.

أمّا أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربيّة، فهي تلك التي تزامنت مع نموّ الإمبرياليّات العابرة للحدود وتمدُّدها نحو الشرق، وتحديدًا باتجاه الجغرافيّات العربيّة والإسلاميّة. كانت ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة هي إحدى أشدّ التمظهرات المشهودة. لم تشأ الملحمة الاستشراقيّة أن تنظر إلى كلّ آخر حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص؛ لهذا ليس غريبًا أن تتحوّل الغيريّة الإنكاريّة في الغرب إلى عقدة «نفس حضاريةٍّ» صار شفاؤها مع الوقت أدنى إلى مستحيل. وما جعل الأحوال على هذه الدرجة من الاستعصاء أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج أيديولوجيا كونيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه[5].

المسألة الأكثر استدعاءً للنقد هي تلك المتعلّقة بالتأسيس الميتافيزيقيّ لثقافة الغرب الحديث، فقد كان للتنظير الفلسفيّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مفعول حاسم في ترسيخ ثقافة الإنكار، وثمّة من المؤرّخين ممن قد يتّفق معهم البروفسور الخشت، من عزا اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا من صرح الفلسفة الغربيّة إلى تظافر عاملين:

الأوّل: الذهنيّة الحصريّة لبعض مدوِّني الفلسفة لمَّا عمدوا إلى تظهير الفلسفة كخطٍّ ينتهي امتداده عند نقد المثاليّة الكانطيّة للميتافيزيقا.

العامل الثاني: التفكير الاستعلائيّ لدى رهطٍ من مفكّري وفلاسفة أوروبا لمّا حصروا الفلسفة بالعرق الأبيض، الأمر الذي نلاحظه ببيان شديد الوضوح في كثيرٍ من مصنّفات كانط وهيغل.

هذان العاملان سيشكّلان مدار مساجلات الخشت، ولا سيّما تلك التي أوردها في أبرز كتبه التي نذكر منها على سبيل المثال: «أقنعة ديكارت العقلانيّة تتساقط»[6] -«العقلانيّة والتعصّب»[7]– و «الميتافيزيقا -قراءة نقديّة»[8] – و «الفلسفة الحديثة – قراءة نقديّة»[9]؛ هذا فضلًا عن رسالة الدكتوراه: «المعقول واللامعقول في الأديان، بين العقلانيّة النقديّة والعقلانيّة المنحازة»[10]. وفي الجملة الجملة فقد تمحورت مقارباته النقديّة المذكورة في اتجاهين: اتجاه ميتافيزيقيّ، واتجاه متّصل بالفكر التاريخيّ الغربيّ وفلسفته السياسيّة.

في كتابه «المعقول واللامعقول في الأديان» يفصح الخشت عن متاخمة انتقاديّة معمّقة لأنطولوجيا الحداثة بجناحيها الكانطيّ والهيغليّ، وعلى غالب التصوّر فإنّ ذهابه إلى هذا المطرح النقديّ لميتافيزيقا الحداثة، يُقصد منه الوقوف على عيوبها التأسيسيّة، وخصوصًا في نظرتها للأمر الدينيّ، فقد بذل في دراسته المشار إليها جهدًا ملحوظًا ليدرس ظاهرتين حاسمتين؛ الأولى درس العقلانيّة النقديّة التي تبنّاها «كانط»، والثانية «العقلانيّة المنحازة» التي تشكّل عصارة التجربة الفكريّة للفيلسوف الألمانيّ فريدريك هيغل.

وفي ما يلي بيان إجماليّ للكيفيّة التي جرى التعامل فيها مع كلّ من هاتين الظاهرتين:

الظاهرة الأولى: نقد العقلانيّة النقديّة

1ـ اضطراب كانط

نحا الخشت حيال الكانطيّة نحوًا فارق ما اعتكف إليه جمعٌ وازن في المجتمع الأكاديميّ والفكريّ في العالم العربيّ، وقد تمحورت متاخمته لميتافيزيقا كانط حول التساؤل عن مدى انسجامه مع نفسه، في هذا المطرح يتساءل: إذا كان كانط قد عرَّف فلسفته بأنّها ألغت المعرفة لكي تفسح مجالًا للإيمان، فهل كان في هذا القول يعبّر بصدق وموضوعيّة عن مضمون هذه الفلسفة؟

لا شكّ -حسب الخشت- بأنّه يوجد في هذا المضمون من الدلائل والقرائن ما يشير بقوّة إلى أنّ كانط استبعد الإيمان التقليديّ لكي يجعل الطريق خاليًا أمام العقل. بإزاء هذا المشكل الميتافيزيقيّ يرى أنّ مهمّته المحوريّة تكمن في تصديع التأويل الشائع لموقف «كانط» من الدين، فقد ألغى كانط المعرفة لكي يفسح مجالًا للإيمان، استنادًا إلى تفرقته بين عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها، الذي يعبّر عن وجود ميتافيزيقيّ مستقلّ بصورة مطلقة، وبما يتجاوز الإدراك الإنسانيّ، الأمر الذي يفتح الطريق أمام الإيمان الدينيّ القادر وحده على إدراك كنه العالم، لكن هذا التأويل ليس هو الوحيد الممكن -كما يرى الخشت-؛ ذلك لأنّ قول «كانط» بالأشياء في ذاتها وعدم قابليّتها للمعرفة قد يعني أنّ الأشياء في ذاتها يستحيل الوصول إليها عقليًّا، لا لأنّ ثمّة وسيلة أخرى لمعرفتها؛ وإنّما لأنّها ليست موضوعات جوهريّة يمكن الإمساك بها برهانيًّا، بل هي لا تعدو أن تكون مجرّد حدّ منطقيّ، أو هي دوالّ منطقيّة تحوّلت بفعل إنشائيّة العقل إلى جواهر، وما هي كذلك، لعدم وجود مقابل واقعيّ لها[11]. إنّ ما نلاحظه من استقرائه لموقف كانط من الدين هو استبعاده دين الوحي المتعارف عليه لكي يسود العقل الذي يقضي على مفاهيم الدين الرئيسة، مثل مفاهيم الوحي والمعجزة والغيب، وهي المفاهيم التي يزخر بها عالم الأشياء في ذاتها، ومع هذا فثمّة إيمان يبقى عند «كانط» هو الإيمان الأخلاقيّ، أي إيمان العقل العمليّ المحض، وليس إيمان دين الوحي التقليديّ[12].

يأخذ الخشت على كانط اضطراب فهمه للعلاقة بين العقل والإيمان، وهو اضطراب يسفر في النهاية عن كون «كانط» على عكس ما يقول هو عن نفسه قد استبعد عالم الأشياء في ذاتها لحساب العقل[13]. وهنا يطرح الخشت مجموعة من الأسئلة الموازية على النحو الآتي: هل كان متن الفلسفة النقديّة متسقًا دائمًا مع بعضه؟ ألا توجد نصوص أخرى في «نقد العقل المحض» تقدّم فهمًا آخر لعالم الاشياء في ذاتها، كقوله مثلًا في أكثر من موضع: «إن الموضوع المدرك هو مثول للشيء في ذاته»، ألم يظهر عالم الأشياء في ذاتها – في «مقدّمة لكلّ ميتافيزيقا مقبلة» على أنّه أساس لعالم الظواهر؟ ومن ثمّ فإنّ عدم الاتساق هذا يثير كثيرًا من علامات الاستفهام التي تسوّغ إعادة البحث والنظر في المسألة برمّتها[14].

2ـ دحض الميتافيزيقا المتدنِّية

في المنفسح النقديّ الذي خصّه لميتافيزيقا الحداثة قد يكون علينا أن نرجع مع الخشت إلى الحقل الأوّل الذي منه نَبَتَتْ معاثر الكانطيّة وتناقضاتها. داخل هذا الحقل بالذات يعيد الخشت المشكلة إلى أصلها اليونانيّ وتحديدًا إلى الانعطافة الأرسطيّة على المدرسة الأفلاطونيّة وما قبلها، فقد كان على كانط -لكي يحمل الفلسفة إلى بدء جديد- أن يعيد تعريفها على خلاف ما عرَّفها الأسلاف اليونان، هذا المشكل يظهر جليًّا عند كانط في مفتتح كتابه الذي صدّره عام 1763 بعنوان «بحث في وضوح مبادئ اللاَّهوت الطبيعيّ والأخلاق». في الكتاب المذكور يعرِّف كانط الميتافيزيقا بأنّها تمثّل أكثر الحدوس الإنسانيّة قوّة لكنّها لم تُكتب بعد»، وبناء على هذا التعريف سوف يستهلّ «ناقد العقل الخالص» رحلته في لجّة التفلسف… أراد أن يستظهر الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدّة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة. شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنّما امتلك عقلًا حرًّا، بعدما ظنّ أنّه تحرَّر تمامًا من رياضيّات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصية الميتافيزيقا ليدفعها نحو منقلب آخر، لكن حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيّل أنّ «الكوجيتو الديكارتيّ» رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها أبدًا. ربما غاب عنه يومئذٍ أنّ تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضيّ لن ينجيه من سطوة «الأنا أفكر»، ولو اصطنع لنفسه منهجًا آخر. كانت قاعدته الأولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضيّ، بل البحث عما يمكن إدراكه في كلّ موضوع عن طريق البرهان المباشر، كأن يقوم المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أما قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كل الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن من ألّا يكون أيّ منها متضمَّنًا في الآخر، وأخيرًا وضع الأحكام الباقية كأوّليّات أساسيّة ينبغي بناء كلّ المعرفة اللاحقة عليها»[15].

سَينجلي لنا جرّاء ما سَلَفَ أنّ النقد الكانطيّ للميتافيزيقا، لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشكّ الديكارتي بوسائل وتقنيات أخرى. فالمشروع النقديّ الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعليّ امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ «أنا أفكر» المؤكِّدة لوجودها بالشكّ، وهو المشروع الذي أسّس لسيادة العقل، وَحَصَر الهمّ المعرفيّ الإنسانيّ كلّه بما لا يجاوز عالم الحس. انهمام كانط بالعقلانيّة الصارمة سيقوده راضيًا شطرَ الكوجيتو الديكارتيّ، حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ على منظومته الفلسفيّة أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا[16].

في استقرائه لعثرات المنجز الكانطيّ لا يفصل الخشت بين البعدين الأنطولوجيّ (النومين) والظاهراتيّ (الفينومين)، وهذا منطقيّ لكون البعد الثاني هو ثمرة البعد الأوّل باعتباره الحصيلة الأبستمولوجيّة للأنطولوجيا الكانطيّة.

وتبعًا لهذا الربط بين البعدين يصحّ لنا إبداء الفَرَضية الآتية: بسبب من انسحار كانط بالظواهر وعزوفه عن استكمال رحلته في استكشاف سرّ الشيء في ذاته، راح ينحو بالكامل وجهة دنيا العقل، ونتيجة لهذا سيمضي بلا هوادة نحو الاستبعاد التدريجيّ لإلهيّات المعرفة، وقد أخذت هذه الانعطافة الكانطيّة قسطها المبين في أعمال الخشت. لقد رأى أنّ تاريخ تطوّر الفكر الدينيّ عند كانط يعكس نفورًا تدريجيًّا وابتعادًا مستمرًّا عن كلّ عنصر لاهوتيّ أو روحانيّ مفارق، سواء في تفسير المعرفة البشريّة أو في تفسير الوجود أو في فلسفة الدين. هو في ذلك – والكلام للخشت- على عكس «هيغل» الذي بدأ كانطيًّا عقلانيًّا، لكنّه انتهى مسيحيًّا عنصريًّا بروسيًّا منحازًا، دليله إلى هذا الحكم أنّ هيغل أفنى الواقع الموضوعيّ، فجعله تجلّيًا للروح المطلق، وجرّد العقل من فعاليّته الحقيقيّة من أجل أن يعليَ من شأن الديكتاتوريّة الملكيّة البروسيّة، ويلبس المسيحيّة قسرًا ثوبًا عقلانيًّا لا تعرفه. وعليه فالتتبّع المتأنّي لمؤلَّفات كانط قبل النقديّة، وهي المؤلَّفات التي لم تحظَ بنصيب وافر من دراسة الباحثين، يكشف عن ابتعاد كانط التدريجيّ والمطرد عن اللاهوت الدينيّ؛ إذ إنّه في كلّ كتاب أو مقال في تلك المرحلة يعمل على تخليص تصوّر الألوهيّة من كلّ المضامين اللاَّهوتيّة التي التصقت به عبر تاريخ الفكر البشريّ، ولا سيّما تاريخ الفكر المسيحيّ، فقد أخذ كانط شيئًا فشيئًا في التخلّي عن أيّ نوع من الإيمان البرهانيّ النظريّ بالله، وأخذت براهين وجود الله توضع في فلسفته موضع النقد الواحد تلو الآخر، حتى انتهى من المرحلة قبل النقديّة وقد تخلّص من كلّ البراهين التي تثبت وجود الله عدا برهان واحد يقبله على مضض، لكنّه سرعان ما سيتخلّص منه في «نقد العقل المحض»[17].

3ـ نقائض ديفيد هيوم

لم يأخذ كانط نقائضه عن ديكارت وحسب، ففي عام 1756 انصرف إلى أعمال الفيلسوف الإنكليزيّ ديفيد هيوم وأُسِرَ بها حتى الانسحار. جاءه كلام هيوم كانعطافٍ حاسم: «إنّ أيّ فيلسوف لا يقدر على تفسير «قدرة الأسباب وقوّتها السرّيّة»، وإنّ القوّة القصوى وفاعليّة الطبيعة مجهولة تمامًا بالنسبة إلينا، وإنّ البحث عنها في كلّ الصفات المعروفة للمادّة مجرّد هباء.. وبالتالي فإنّ القدرة التي تسبّب النتائج الطبيعيّة واضحة لحواسنا، ولا بدّ ان تكون هذه القدرة في الله، والله ليس هو الذي خلق المادّة أولًا ووهبها حركتها الأساسيّة فقط، وإنّما أعطاها القدرة الكلّيّة ليدعم وجودها ويمنحها كل تلك الحركات الموهوبة لها.. ثم يتساءل: «إذا لم يكن عندنا فكرة كافية عن «القدرة» و»الفاعليّة» و»السببيّة» يمكن تطبيقها على المادّة، فأين يمكننا أن نحصل على فكرة تنطبق على الله؟..

يقول الخشت: «ربما تكون فكرة النقائض أشهر أفكار كانط على الإطلاق، وهذه الفكرة إنّما هي من الأفكار الهيوميّة الأصليّة التي استند إليها هيوم في تحديد موقفه من عالم الشيء في ذاته، وكل ما فعله كانط هو أنّه قد تمكّن من عرضها ببراعة عرضًا فلسفيًّا جذّابًا ومتميّزًا جعل كثيرين ينسون جذورها في فلسفة هيوم، بل عند بعض الفلاسفة القدماء؛ ومع ذلك فقد كان ولا يزال عرض كانط لهذه النقائض من أعظم ما أنجزت الفلسفة النقديّة». يضيف: «ولعلّ أهمّيّة هيوم بالنسبة للنقائض الكانطيّة تظهر منذ اللحظة الأولى التي يتحدّث فيها كانط عن فكرة النقائض في كتابه «المقدّمات لكلّ ميتافيزيقا مقبلة»، حيث يقول: «إنّ تناقض العقل المحض يفيد كعامل قويّ جدًّا في إيقاظ الفلسفة من مِسْباتها الدوغماطيقيّ، وينبّهها إلى العمل الشاقّ المنوط بها في القيام بالامتحان النقديّ للعقل نفسه». ثم يشير في خطاب متأخّر جدًّا إلى جارفي – إلى أنّه استغلّ تناقض العقل مع نفسه استغلالًا جيّدًا في تكوين الفلسفة النقديّة»[18].

بسبب هيوم وشكوكيّته سيهتزّ إيمان كانط بشرعيّة المعرفة الميتافيزيقيّة، من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفيّ، فقد أعرب عن ذلك بكلمات دالَّة في مؤلَّفه «مقدّمات نقديّة»: «لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائيّ»، ثم انبرى إلى الحكم على الميتافيزيقا ـ كمعرفة إيجابيّة ـ بالموت.

اضطر كانط لمواجهة اليأس من التعرّف على «سرّ الشيء في ذاته»، إلى أن يبتني أسس المعرفة الميتافيزيقيّة بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجرّدة بالملاحظة التجريبيّة، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنّه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقرّ في محراب الفيزياء، وليس كلامه عن أنّ «المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدّمه نيوتن في العلوم الطبيعيّة»، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائيّة.

في اليوم نفسه الذي كتب فيه هذه الكلمات البسيطة، تجاوز كانط خطّ النهاية الذي تكمن خلفه الأرض القاحلة التي يستحيل فيها استكناه السرّ الذي منه ظهرت الأشياء إلى عالم الوجود، ففي هذه الأرض سيجري تعيين علم معياريّ جديد كقاضٍ أعلى على الفلسفة، وحين صارت الميتافيزيقا عنده على هذه السجيّة، سوف يتبيَّن -لمجايلي كانط وللكثرة التي جاءت من بعده- أنّها لم تعد قادرة لا على البرهان الفيزيائيّ ولا على البرهان الرياضيّ في آنٍ؛ لذا لمَّا قال كانط إنّ كلّ ما هو موجود، هو في مكان ما وزمان ما (irgendwannirgendwo und)، لم يكن يتوقّع أنّ موقفه هذا سيؤدّي إلى التخلّي عن الميتافيزيقا ـ بوصفها تعرّفًا على ذات الموجود وسرّه ـ وأنّه سيخلي الساح للفيزياء بوصفها وقائع يدركها الفكر، أو بما هي موضوعات تنوء تحت سطوة الحواس الخمس..

توسّل كانط مرجعيّتي هيوم ونيوتن لتسويغ «رغبته» في تحويل الميتافيزيقا إلى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقيّة للعالم الحديث. وقد أدرك منذ اللحظة التي سيتحوّل فيها مشروعه إلى عمل رساليّ، أنّ للميتافيزيقا مقامًا غريبًا بين العلوم، وأنّها علم لا ينتهي رواجه ابدًا بوصف كونها حاجة طبيعيّة للبشر، مثل هذا الفهم جاء ليدحض ما قرّره الفلاسفة الوضعيّون لجهة إقصاء الفلسفة من مهمّة تدبير العالم. لقد رأى أنّ إلغاء الميتافيزيقا تمامًا سيكون مستحيلًا، وأنّ أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسمّيه بالعقيدة العلميّة الجديدة، وهي العقيدة التي سيضعها كانط تحت عنوان «الإمكان الميتافيزيقيّ» في العالم الطبيعيّ، وتقوم على التمييز المنهجيّ بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهيّة وعالم الطبيعة.

لكنّ التمييز الكانطيّ بين هذين العالمين وإن جاء خلّاقًا على المستوى الأبستمولوجيّ، إلّا أنّ أثره التأويليّ سيجاوز الحدود والمقاصد المرسومة، فالتمييز الأبستمولوجيّ سيغدو في ما بعد تفريقًا بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخيّ ثاوٍ في الزمان والمكان، مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدّد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ تَقَويٍّ توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشريّ…

وهكذا فإنّ منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره سوف تستدرج إلى تناقض بيِّن في أركانها الكبرى، ولنا هنا ان نتساءل مع البروفسور الخشت: كيف يمكن كانط أن يستخدم العقل وسيلة للبرهان على أنّ هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعليّة بالأشياء كما هي واقعًا؟ وكيف يمكن أن يعلن أنّ المرء لا يستطيع تحصيل المعرفة بالشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمرّ في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أنّ كلّ حجج كانط -كما يبيّن الفيلسوف الألمانيّ فرانز فون بادر (Franz Von Baader) (1756 ـ 1841)- لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو حقيقة، وهذا لا ينطبق على كانط فحسب، بل على جميع الحالات الشبيهة، فإذا كنّا لا نعرف إلّا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنّا لا نعرف إلّا الظاهر فقط، فهل ثّمة معنى، في التحليل النهائيّ، لقولنا إنّنا نعرف شيئا ما؟ وأمّا سبب هذه التناقضات -وفقًا لبادر- فتكمن في حقيقة أنّ الفلسفة النقديّة استثنت معرفة اللَّه والدين النظريّ من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل[19].

في سياق تحليله لنقائض العقل والعجز عن معرفة الله يرى الخشت أنّ هذه النقائض عند كانط قائمة أساسًا في طبيعة العقل الإنسانيّ المقيد بعالم الظاهر، وهي تنشأ عندما يتوسّع في علاقة المشروط بالشرط إلى حدّ لا تصل إليه التجربة، ومن هنا فإنّ العقل لا يمكن أن يكون متيقّنًا فيما يتعلق بعالم الشيء في ذاته، لأنّه لا يملك أيّ تجربة عنه، وإذا حاول ذلك فإنه يقع في الوهم والخرافة.[20] لقد قيل بصدد هذا المُشكل أنّ هدف كانط من نقده لأدلّة وجود الله لم يكن من أجل ترسيخ الإنكار النظريّ التامّ لوجود الله، بل لتمهيد الطريق لإثباتٍ أكثرَ أصالةً لوجود الله، ولكنّ الأثر المترتّب على هذا المدَّعى سيفضي إلى خلاف ذلك؛ إذ من خلال قصر كانط لمعنى «المعرفة» على الفهم العلميّ للأشياء الظاهريّة وقوانينها، وبإنكاره لإمكانيّة امتلاكنا المعرفة النظريّة بوجود الله، كان يُنكر إمكانيّة معرفة الله بالطريقة نفسها التي نُدرك من خلالها أيّ شيءٍ مادّيّ. وبما أنّ الله ليس جزءًا من العالم المادّيّ بأيّ شكل من الأشكال، فلا يُمكن على نحوٍ أدقّ إثبات كونه موضوعًا للمعرفة النظريّة. وإذا أردنا إثباته، فلن يكون ذلك من خلال بيئة المعرفة العلميّة، بل عبر نوع من الإثبات الذي يتجاوز المعرفة العلميّة ويمكن إطلاق صفة الإيمان المنطقيّ عليه بسبب الافتقار لمصطلح أفضل.

بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنّه كان عدوًّا للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنّه أسس لـ «مانيفستو فلسفيّ» يقطع صلات الوصل المعرفيّة بين الله والعالم، وبالتالي بين الدين والعقل، هذا هو الإجراء «الكوبرنيكيّ» الذي شقّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (دينيّ ـ دنيويّ)، وما سينتهي إليه من غلبة الدنيويّ على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة. مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنّه فتح الكوّة التي ستتدفق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقيّ ولا تقيم له وزنًا في عالم الإمكان الفيزيائيّ.

تهافت النزعة “العلمويّة”

في قراءته لكانط وسواه من فلاسفة العقلانيّة الحديثة لم يكن الخشت ينتمي إلى ذلك الرهط العربيّ الذي استطاب الدرس الكانطيّ ليعيد – ربما من غير علم- إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. كذلك لم يحرص كما فعل هؤلاء على وقف مهمّة الميتافيزيقا عند حدود الحاجة الابستمولوجيّة حينًا، ومن أجل استخدامها كعلم حينًا آخر، أو كهندسة معرفيّة في عمليّة التوظيف الإيديولوجيّ للعلمنة.

كان أنصار «العِلمويّة»، في صنفيها – سواء ذاك المستقطب من صفوف العلماء، أو ذاك المتأتِّي من صفوف المفكِّرين -يُظهرون دوغمائيّة ضيّقة الأفق هي في منتهى التحليل نقيض الفلسفة الأصيلة، فهم عميٌ عن رؤية أنّ العلم يقتضي الميتافيزيقا (أو يفترضها مسبقًا)، وأنّ دور الفلسفة معياريّ  (normatif)، بمقدار ما هو وصفيّ- وأنّ كلّ الأشياء، ومن ضمنها العلوم، تقع تحت عينها الناقدة. غير أنّ ما تستطيع العلوم التجريبيّة إطلاعنا عليه، في أحسن الأحوال، هو الوضع بكيفيّته الراهنة، لا بـ «كيف يجب أن يكون»، أو «ما يمكن أن يكون». الميتافيزيقا هي من يتعاطى مع الممكنات. فقط عندما نضبط مدى الممكن، نستطيع أن نرجو تحديد الفعليّ تجريبيًّا؛ لذا ستكون العلوم التجريبيّة في مثل هذه الحالة عالة على الميتافيزيقا ولا يكون للتجريبيّة أن تسطو على دور (الميتافيزيقا) اللائق بها وحدها. سوف يسري الالتباس والغموض بعمق في نظاميّة كانط جرّاء هذا الفصل الوظائفيّ بين ما هو أنطولوجيّ عصيٌّ على الإدراك وما هو فينومينولوجيّ قابل للفهم، والذين نظّروا إلى هذا الالتباس وجدوا أنّ الفصل المومىَ إليه تعدى حدود الوظائفيّة لتتحوّل الهندسة المعرفيّة الكانطيّة بسببه إلى نقائض، وهذه النقائض هي عند كانط نفسه غير قابلة للحلّ؛ لأنّها تنطوي على علاقة غير واضحة بين النومينا (الشيء في ذاته) والفينومينا (الظاهرة) وهي في التحليل الأخير غير منطقيّة[21]

ومن أجل أن ينجو من معثرة الانفصال والتناقض بين «النومين» و»الفينومين» راح كانط ينظر إلى الانسان كموجود مفارق لكي يستعيد الوصل لينهي التناقض بينهما. ويشير الخشت في قراءته لهذه المعضلة الميتافيزيقيّة إلى أنّ للإنسان عند كانط دورًا مزدوجًا؛ أوّلًا باعتباره يتبع عالم الظاهر، وتاليًا باتّباعه عالم الأشياء في ذاتها (أي أنّه فينومينا ونومينا في آن واحد)؛ وإذ يُخضع الانتماءُ إلى عالم الظواهر الإنسانَ لكلّ مظاهر الآليّة في الطبيعة، فإنّ هذا الإنسان بفضل انتمائه الآخر إلى عالم الأشياء في ذاتها، يشعر بحرّيّته في اتّباع العقل العمليّ، ويتوق إلى التوافق مع القانون الأخلاقيّ تحت إلحاح صوت الواجب والشعور الخلقيّ أو الضمير، ومن هنا نفهم كيف أنّ الأخلاق هي نومينا؛ وبالتالي مجاوزة للعقل النظريّ المحض الذي لا يستطيع أن يتجاوز عالم الظواهر (الفينومينا)[22].

مقاصد كانط هذه لم تفلح في ما بعد في جعل الأخلاق جوهرًا يحلّ محل الدين. ومن الملاحظات البيِّنة التي ظهَّرها الخشت جاءت في سياق نقده المباشر وغير المباشر للتوظيفات الأيديولوجيّة التي أجرتها سلطة الحداثة على منظومة كانط، ونشير في هذا الخصوص إلى ما ستوفِّره الكانطيّة من تغطية ميتافيزيقيّة للفردانيّة (individualisme) التي تعني في حقيقتها إنكار أيّ مبدأٍ أعلى فوق الفرد (individualite)؛ ذلك بأنّ مثل هذا الإنكار سيكون السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، وبالتالي يكون محرِّكًا للتطوّر الحصريّ للإمكانيّات السفلى للإنسانيّة.

ولعلّ ما ضاعف من ارتدادات الإمكان الميتافيزيقيّ الكانطيّ في صيرورة الميتافيزيقا علمًا متاخمًا للعلوم الإنسانيّة وسيَّالًا في ثناياها، هو النزوع العقلانيّ الذي طغى على الثقافة الغربيّة منذ أفلاطون إلى يومنا هذا، فقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه إلى دفع الميتافيزيقا نحو نشأة جديدة تعرِض فيها عن «النومين الأعلى» وتتوجّه بكامل همتِّها إلى الموجودات الحسّيّة، لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العملية الإدراكيّة للموجود بذاته والموجود بغيره، راح كانط يفصل بين العالمين ليبتدئ زمنًا مستحدثًا تحوّلت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضيّة محضة.

الظاهرة الثانية: نقد العقلانيّة الهيغليّة المنحازة

على منقلب آخر وبالتوازي مع نقد الكانطيّة سيقارب الخشت إشكاليّات تأسيسيّة في الفكر الغربيّ الحديث، منها وأخصّها نقدُه منظومة هيغل بوجهيها الأنطولوجيّ والفينومينولوجيّ. يتساءل الخشت -مثلما جرى الأمر مع كانط- عن مدى اتساق «هيغل» مع نفسه وهو يتصدّى للمسألة الدينيّة، حيث يقول: «هل كان هيغل عندما صرّح بأنّه تجاوز الدين إلى الفلسفة، يعبّر بموضوعيّة عن حقيقة ممارسته وطبيعة نسقه، أم أنّه ظلّ في إسار الدين، وبالتحديد الدين المسيحيّ، وحوَّل الفلسفة إلى ديانة تتحدّث بلغة فكريّة مجرّدة، وقدّم مذهبًا ظاهره الفلسفة وباطنه المسيحيّة؟ ثمّ يستطرد: يعتقد «هيغل» أنّ الدين يتطوّر فيصبح فلسفة، والفلسفة هي المرحلة الأخيرة من مراحل تطوّر الروح المطلق، قد يكون هذا صحيحًا -والكلام هنا للخشت- ولكن من حيث الشكل العام للمذهب الهيغليّ كما يذكر البروفسور الخشت، لكنّ المتأمّل في مضامين المذهب يجد أنّ «هيغل» لم يبدأ من الدين لكي ينتهي إلى الفلسفة، وإنّما بدأ من الدين لينتهي إلى الدين، وما الفلسفة إلّا جسر انتقل إليه «هيغل» من المرحلة اللاَّهوتيّة إلى الديانة المعقلنة، فحركة السير الفعليّة -والتي تختلف عن الحركة المعلنة الظاهرة- ليست من الدين إلى الفلسفة، بل من الدين إلى الفلسفة إلى الدين مرة أخرى، لكن ليس الدين بالمعنى الإنسانيّ العام، وإنّما الدين المسيحيّ على وجه التحديد، فإذا كان مذهب «هيغل» ظاهره الفلسفة، فإنّ باطنه المسيحيّة، وذلك من أوّل التقسيمات الثلاثيّة للمذهب وفروعه حتى الروح المطلق المتجسّد في التاريخ[23].

قارب الخشت الهيغليّة بوصفها امتدادًا أصيلًا للتجربة الفلسفيّة الغربيّة. على المستوى الانطولوجيّ كان هيغل أمينًا لأسلافه من كانط رجوعًا إلى ديكارت ثم إلى الجذر اليونانيّ المؤسِّس، كلّ ما فعله هيغل أنّه أعاد هندسة الميتافيزيقا الإغريقيّة لتكون هاديًا أيديولوجيًّا للوريث الجرمانيّ في القارّة البيضاء. وقد أومأ إلى ذلك وهو يساجل هيغل، معتبرًا «أنّ الروح الجدليّة لمنطقه العظيم كانت تحتّم عليه ألّا يقع في مثل هذا التناقض الضخم الذي كان في غنى عنه لو سار مع تلك الروح الجدليّة حتى آفاقها المنطقيّة غير النهائيّة دون أن يقف عند مرحلة تاريخيّة معيّنة، ففكرة السلب الهيغليّة -وما أعمقها!- تجعل التاريخ مفتوحًا غير مكتمل دومًا، لكن الانحياز الأيديولوجيّ -وما أقوى ضغطَهُ على المرء!- هو المسؤول عن تخلّي بعض الفلاسفة عن أسمى منجزاتهم العقليّة من أجل بناء مذهب فلسفيّ منحاز، وعندما ينحاز المذهب فما أكثر عثراته وتناقضاته[24]. بالطبع لم يأتِ حكم البروفسور الخشت على هيغل في معرض انفعال أيديولوجيّ، بل في سياق استقرائه للمنهج الهيغليّ لمَّا أقامه في اتجاهين متوازيين: اتجاه يعتني بروح التاريخ وغايته، واتجاه فوق تاريخيّ يرمي إلى معرفة المطلق، ولأن التباين بين الاتجاهين هو حصيلة منطقيّة لديالكتيك التناقض، فقد ظَهَرَا على أرض المفاهيم في وضعيّة شديدة الالتباس، ولأنه كان شغوفًا بميتافيزيقا المطلق، موصولًا في عين اللحظة بشغف موازٍ بفلسفة التاريخ، راح هيغل يسعى إلى التوليف بينهما، مع ما سيلحق بالاتجاهين معًا جرّاء ذلك من أضرار فادحة.

لقد حَوَى كتابه «فينومينولوجيا الروح» (1807) هذين الشَّغَفَينْ المتناقضين معًا. ربما لم يكن هيغل يدرك ما قد يترتّب على ما ذهب إليه من معاثر، إلّا أنّ الذين اتَّبعوه على غير هدى، سيوسِّعون من «فجوة التناقض» في نظامه الفلسفيّ. التاريخ بالنسبة إلى هيغل هو صيرورة للعقل المطلق، لكن هذا العقل ليس ذاك الذي يتجلّى في الفرد، بل الذي يطوي الفرديّة بين جناحية ويُذيبُها في الروح اللامتناهي للجماعة الحضاريّة، فالعقل الذي يريده لا يطابق الآراء الفرديّة ولا صيغ الأنماط الفرديّة للوعي بالذات؛ ذلك أنّ هذه الأنماط عنده ليست إلّا لحظات مارّة في التاريخ؛ أمّا حضور الفرد فمما لا يعوَّل عليه ما دام منفصلًا عن الكلّيّ. الفرديّة لا تقرّر معنى التاريخ ولو أنّها تحققت في قلب هذا المعنى، ولكي يتجنّب التناقض يرى أنّ الفكرة المطلقة هي موضوعيّة بقدر ما هي ذاتيّة، أي أنّها فكرة راعية للتاريخ الكلّيّ للجماعة، وراعية للفرد في الآن عينه، ومع ذلك – وهنا المفارقة- فهي لا توجد إلّا من خلال أنماط الوعي الفردّية التي تصبح أدوات في متناول الفكرة المطلقة[25].

إقصاء الفرد

عند هذا النحو من التنظير يبدو الالتباس الهيغليّ حول موقعيّة الفرد في التاريخ صارخًا في تناقضه، فهل فكرة محو الفرد محايثة للتاريخ فعلًا وغايته التي يتحقّق فيها حضور الإنسان كفرد، أم أنّها العقل المطلق أو الروح الذي فيه، بحيث يكون هذا الفرد مجرّد حامل أو حارس، وهو ما يعبر عنه هيغل نفسه بتيه التاريخ وضلاله؟

نستشعر هنا مع البروفسور الخشت أنّ هيغل يمارس لعبة الجمع والتفريق من دون أن يهتزّ له إحساس بانقلاب الفكرة على نفسها، إذ لا شيء أغرب عند هيغل من الفصل بين الفكرة المطلقة وتجلّيها في التاريخ، فالذي جاءنا منه يفضي عكس ذلك للوهلة الأولى، أي وحدة المطلق والمحدود التاريخيّ من غير انفصال. ولنا في الصدد أن نسأل: كيف له إذن أن يقترف مثل هذه المفارقة الغريبة؟ ربما تبلَّغ فيلسوف النقائض مثل السؤال إلّا أنّه لم يعثر على مستخرج مثير للشبهة حين يتحدّث عن مكر العقل وخديعته، ثمّ ليلقي باللّائمة على القدر المحتوم لمسار التاريخ البشريّ. فالعقل الماكر -كما تبيّن المنحوتة الهيغليّة- هو الذي يقود التاريخ بمعزل عن إدراك الإنسان. إنّه العقل نفسه الذي يظهر على شكل روح مطلق يسري في الزمن يستعمل الرجال العظام ليؤدّوا وظائفهم دون أن يتمكّنوا من السيطرة عليه، ولكن من أي مصدر أتى هذا العقل ليمارس مكرًا كلّيّ الجبروت» على الإنسان وتاريخه؟

سؤال استبطنه هيغل ولم يصرّح بالجواب عليه، إلّا أنّه على الرغم من إقراره بالعناية الإلهيّة وتدبيراتها يعود إلى «دَنْيوَة» هذا الإقرار، حجّته في هذا، أنّ الاعتناء الإلهيّ بالعالم بات ساريًا فيه ولم يعد ثمّة ضرورة للنظر إليه كتدبير مستقلّ بذاته. زد على ذلك اعتقاده أن لا فجوة بين المحدود والمطلق ينبغي سدُّها عبر جدل منطقيّ يعتمد على السببيّة؛ ذلك لأنّ وجود المطلق ثابت في جدليّات الفكر الإنسانيّ ذاته عندما يكشف عن العلاقة الحقيقيّة بين المحدود والمطلق، وعند هذه النقطة بالذات ينعطف هيغل -وبتأثير من سابقيه-  نحو «علمنة» الحضور الإلهيّ ليحصره بالفكرة المطلقة التي يتولّاها الإنسان في سياق حلوله بالروح المطلق، فالتاريخ، من وجهة نظره، ليس مكانًا لسعادة الفرد منفردًا بذاته بل هو قدر الأفراد مجتمعين، وهذا القدر هو فكرة التاريخ المطلقة، هذه الفكرة المطلقة لا تعترف بالفرد كفرد؛ ذلك لأنّ التاريخ الكلّيّ ليس موضع هناء للفرد، وحقب السعادة فيه هي الصفحات البيضاء منه. وهكذا ينجز الفرد شيئا آخر في التاريخ هو غير ما يعتقده تمامًا أو يريده تمامًا.

لقد رمى هيغل من كتاب «فينومينولوجيا الروح» إلى التمهيد للمعرفة المطلقة، وسيذهب فيه إلى أنّ وضعيّة الإنسان تبدو مختلفة تمام الاختلاف عمّا هي عليه من منظور فلسفة التاريخ الكلاسيكيّة. فليس الإنسان -برأيه- هو الذي يؤِّول الوجود، بل إنّ الوجود هو الذي يعبّر عن ذاته عن طريق الإنسان، بهذا الفهم لن يكون الإنسان هو المطلق أو الغاية الأسمى، وإنّما ملتقى الطرق، فالإنسان في النطاق المتقلّب للعقل المتناهي(الدنيويّ) كائن متلقٍّ ويعمل كواسطة وبها فقط يكون ثمّة عقل أو روح مطلق[26].

خديعة العقل

لكي يفارق هيغل الإشكال الناجم من غموض فكرته حيال إنسان يتلقّى القدر دون أن يكون بوسعه ردّه أو تبديله، ابتكر ما يسمّيه بـ «مكر العقل وخديعته»، إلّا أنّه سيقع في أفخاخ هذه الفكرة ليسوغ ما لا يمكن أن يكون مقبولًا منطقيًّا، وذلك بذريعة مؤدّاها: «أنّ كلّ ما هو واقعيّ هو عقلانيّ بالضرورة» ولو كانت نتائجه مكتظّة بسوء العواقب، والمعنيّ بالخديعة والمكر هي الوسائط التي يعتمدها العقل المطلق وبمعزل عن إرادة الانسان، من أجل تمرير غاياته أنّى كانت النتائج المترتّبة عليها غير أخلاقيّة. وعلى الرغم من كون هيغل لا يقصد تبرير الخداع كمعصية أخلاقيّة، إلّا أّنه يتعامل معه بوصفه أساسًا لفلسفة التاريخ، وتجلّيًا للعقلانيّة التي تتجذّر في حياة الأمم وتاريخ الحضارات البشريّة. وعلى الرغم من أنّ الخديعة مرفوضة عمومًا من الزاوية الأخلاقويّة (moraliste)، فقد أعطى هيغل فلسفتَه صدىً عارمًا من خلال إنشاء الصورة الباهرة لخديعة العقل التي تَحكم تطوّرات العالم البشريّ وتحوّلاته[27].

ما الخديعة.. وما الآثار التي سوف تتركها على الفلسفة الحديثة بعامة وعلى فلسفة هيغل نفسه بوجه خاص؟

تدلّ الخديعة على فكر مُعقّدٍ ومَخفيٍّ؛ ولأجل فهمها لا مناص من التمييز بين حجّتين يخلط هيغل بينهما، خلطًا عجيبًا: خديعة الإنسان من خلال نشاطه وعمله تجاه الطبيعة، وخديعة عامّة تُمارَس على الجميع لتؤلّفَ منهم مجتمعًا تاريخيًّا. لكن السؤال الذي يُلقى في وجه هيغل ولم يجب عليه هو هل تبقى هذه الخديعة العامّة محايثة للحياة الاجتماعيّة، أو يجب أن تُنسَب إلى كائن مُتعالٍ؟ وكيف استطاع هيغل أن يصِل إلى هذا المفهوم الغريب ليجعله أساسًا أصيلًا في فلسفته للتاريخ؟ وهل كان بإمكانه أن ينتصر على المفارقة التي كان يُواجهها؟

يجري ذكر «خديعة العقل» عادةً من قِبل الذين يودّون دحض العقلانيّة المُفرطة التي قد تكون الهيغيليّة دُمِغت بها، فهي قد تكون النتيجة المنطقيّة -والمُخزية- لمُعادلة هيغل التي تقول إنّ كلّ ما هو واقعيّ هو عقلانيّ، وكلّ ما هو عقلانيّ هو واقعيّ، وهذه الفكرة تندرج في إطار نظريّات الحداثة التي تميل إلى إنكار البعد «فوق الميتافيزيقيّ» للموجود الظاهر، وتُبرّر موضوعيًّا وبصورة مُسبقة، مجمل العيوب التي ارتُكبت باسم العقل التاريخيّ.

في الخديعة التي يمارسها العقل العمليّ الهيغليّ تُترك السيادة للأهواء التي تحدّد فعل الناس، بمن فيهم القادة العظام الذين تتطابق خصوصيّتهم الذاتيّة وأهواؤهم مع المضمون الموضوعيّ لروح الزمن. وهكذا فإنّ خديعة العقل، بعيدًا من إعرابها العميق عن هُوَام توتاليتاريّ، تبدو مُتضامنة مع مفهوم التجلِّي التاريخيّ للعقلانيّة التي تتجذّر في نهاية المطاف في لاتأريخيّة التفكير. وبهذا المعنى لا تكون الخُدعة سوى وسيلة قتال ضدّ عدوّ أقوى أو أكثر عزيمة، هي ملاذ الضعفاء والجبناء. يتعلّق الأمرُ في كلّ مرّة بالنسبة إلى الخُدعة بحمْل الغير، من دون أن يفهمَ ذلك، على فعل ما لم يكن ليقوم به بِمعرفة الوقائع وبِمِلء إرادته. وفي كلّ الأحوال، تسخر الخُدعة من الحرّيّة، وتُحوّل الأفراد فضلًا عن الكتلة الحضاريّة إلى مجرّد عبيد صاغرين، حتى بزعم خيرها، بفضل سذاجتها أو ولائها، فالمَخدوع يجد نفسه مُختزلًا إلى شيء بسيط، للاستعمال بلا حياء[28].

لست أظنّ ألّا يشاطرنا الخشت الرأي بوقوع العقل الهيغليّ في تهافت مريع حيال أطروحة الخديعة. الاعتراض على هيغل في هذا الصدد سيكون بديهيًّا ومنطقيًّا: أفلا تعدّ أطروحة الخديعة العقليّة، معاكسة تمامًا للمطالب الأساسيّة للعقل.. حيث ينبري هيغل إلى القبول بوسائط احتياليّة، والإعراض عن الإقناع بحجج عقليّة تنطوي على الاستقامة الأخلاقيّة والوضوح؟…

ما من شكّ أنّ «خديعة العقل» سوف تصدم قرّاء هيغل، لا سيّما أولئك اليَقظين الذين وجدوا فيه الوريث الشرعيّ للماكيافليّة؛ فالذي أقام ديالكتيكه كلّه على النسبيّة والتضادّ السلبيّ للوجود ولمفهوم الإيمان بالله لن تؤول مقاصده إلّا إلى العقلانيّة المفرطة وأهوائها[29]، وعليه ستكون إشكاليّة الخديعة في العقل الهيغليّ إحدى أهمّ الدوائر التي استند إليها الخشت في مقاربته لفلسفة هيغل السياسيّة. ويمكن أن نشير إلى ما بيَّنه في «المعقول واللامعقول في الأديان» لجهة الانعطافة الهيغليّة في الموقف من الدين، بحيث لم يعد جوهر المسيحيّة هو الأخلاق -كما كان بالنسبة إليه أيّام الشباب- خصوصًا عندما كتب «حياة يسوع» تحت تأثير كانط. لقد صار هيغل بعد هذه الانعطافة ينظر إلى الدين من منظار نقد السلطة اللاَّهوتيّة التي درج عليها فلاسفة ومفكّرو العلمانيّة ممن جايلوه أو جاؤوا من بعده، نقصد على وجه التحديد أولئك الذين رأوا إلى البعد التديّنيّ كعامل اغتراب للإنسان وتجريده من كلّ كينونته، وهذا ما يطلق عليه «هيغل» اصطلاح الوعي الشقيّ، أي الذي ضاعت فيه القيمة الداخليّة لشخصيّته، ولم يعد لديه أيّ ثقة في الدين، أو في تماثيل الآلهة التي هربت منها روحها، وصارت عنده كلمات الأناشيد مجرّد ألفاظ هجرها الإيمان، وكذلك لم تعد الاحتفالات والألعاب والأعياد تعيد للوعي وحدته السعيدة مع الجوهر. وسيطر عليه روح قدر المأساة الذي يستجمع كلّ الآلهة الفرديّة في البانثيون[30].

تأليه الدولة

لم يكن أمام هيغل وهو ينظر إلى الحداثة كيف تتداعى أواصرها إلّا أن يجد في الدولة المقتدرة تجسيدًا خاصًّا لفينومينولوجيا الروح. أراد أن يستعيد ألَقَ التنوير عن طريق إرادة الاقتدار التي يحلّ فيها كلّ فرد في جسد الجماعة الحضاريّة. سوف نرى كيف تظهر ماكيافليّة هيغل على نحو صريح في تأليه الدولة بوصفها تمثيلًا لـ «فينومينولوجيا الروح»، فلو انطلقنا من فكرة أنّ كلّ فرد يسعى وراء أغراضه ومصالحه الخاصّة بمعزل عن الآخرين، فإنّ المجتمع السياسيّ (أو الدولة) يبدو وجودًا يعلو على الأفراد، مناقضًا لوجودهم وقيدًا على حرّيّتهم، لكن المجتمع السياسيّ سيحظى بمبرّر وجوده من كونه يوفّر الشروط الضروريّة لسعي كلّ مواطن وراء مصالحه من دون خشية مضايقة الآخرين؛ هذا فضلًا عن القدرة التي توفّرها الدولة للدفاع عن المواطنين كوجود مشترك ضدّ أيّ اعتداء خارجيّ يشنّه مجتمع آخر. الدولة، على هذا الاساس، تعتبر أداة ضروريّة لتحقيق التوافق والانسجام بين مصالح متناقضة، والدفاع عن المتّحد التاريخيّ[31].

لهذا ترى الهيغليّة إلى الواقعيّة التاريخيّة بما هي حالة عاقلة؛ ذلك بأنّها تؤلّف حياة الكائن اللامتناهي، أو العقل حين يحقّق ذاته في الطبيعة وفي التاريخ الإنسانيّ؛ من هذا النحو من المقصود الهيغليّ يبقى التاريخ، برغم ما يعتريه من طوارئ، حركة عقلانيّة مستهدفة، وأمّا الفلسفة التي هي، عند هيغل، جزء من المعرفة المطلقة ذاتها، تستطيع إدراك النموذج العقلانيّ للتاريخ. والتاريخ هو الزمن الذي يعرب عن كلّ روح قوميّة تعبّر عن ذاتها في مؤسّسة الدولة الموضوعيّة.

هنا سوف نتعرَّف إلى أحد النوافذ المغلقة التي تفصح عن صلة فلسفة هيغل السياسيّة بالميتافيزيقا، فهو يرى أنّ المتناهي يوجد في اللامتناهي، وبتعبير لاهوتيّ أنّ المطلق اللامتناهي، ينوجد في الوقت نفسه في المتناهي، صحيح أنّ الكائنات المتناهية أو الفانية تزول، بينما الكائن اللامتناهي يبقى وتمتدّ حياته في الديمومة، إلّا أنّ حياته هذه ليست شيئًا منفصلًا عمليًّا عن الحياة المتناهية أو فوقها أو نقيضًا لها. ولئن بدأ هيغل قريبًا مما طرحه فيلسوف التاريخ الإيطاليّ جامباتيستافيكو بصدد العناية الإلهيّة للتاريخ البشريّ، إلّا أنّه سينتهي إلى حصر الإقرار بهذه العناية في الدولة التي هي عنده تعبير عن اللامتناهي، ولها حياة مستمرة بذاتها ولا يمكن اختصارها في مجموعة من المواطنين وُجِدوا في فترة معيّنة من الزمن.

ربما كان هيغل على دراية من أنّ الذي يعيش الخديعة ويعاينها هو الأقدر على معرفة السرّ المحفوظ بمكر العقل وخديعته؛ لهذا السبب سينحو في آخر عمره إلى الانخراط في قلب الحدث ويمضي إلى الحدّ الأقصى من التحيُّز للأمّة الجرمانيّة من أجل أن يفقه الروح المطلق وتجلّياته العقليّة.

لم تفلح الحداثة التي أخذت عن هيغل فلسفتها السياسيّة الحادّة في تجاوز الأفق الجيو – دينيّ لأوروبا، وحتى حين أُبعدت الكنيسة عن عرشها السياسيّ ظلّت المسيحيّة حاضرةً ولكن بروحها الأيديولوجيّ في مجمل المنجزات المعرفيّة والفلسفيّة، سواء ما تعلّق منها بمعرفة ذاتها الحضاريّة، أو لجهة التعرُّف على صورة الآخر وما تعلّق بهذه الصورة من أحكامٍ. تلقاء هذا الحضور، سيظهر الإسلام في الفلسفة السياسيّة التي أسهم هيغل في رسم معالمها كآخرَ مستنكرٍ. ومع الهيغليّة بصفةٍ خاصةٍ تموضعت رؤية الغرب الفلسفيّ إلى الإسلام بوصفه شرقًا، ثم شيّدت على هذا التموضع تناظرًا بين غربٍ ممتلئٍ بلاهوته ومزهوٍّ بحداثته، وشرقٍ هو بالنسبة إليها مجرّد مكان فسيح لامتحان رغباتها.

الدائرة الثالثة: نقد أطروحات هيغل حول الإسلام

يسعى الدكتور الخشت إلى معاينة الرؤية الهيغليّة حيال الإسلام والشرق، مستظهرًا ما تختزنه من مضامين عنصريّة هي في حقيقتها حاصل منطقيّ لمجمل منظومته الفلسفيّة. في دراسة له تحت عنوان: «نقد صورة الإسلام عند هيغل» يستقرئ ما حوته محاضرات هيغل التي ألقاها عام 1831، حيث تعدّدت إشارات هيغل إلى الإسلام، واصفًا إيّاه بأنّه لا يزال على هامش تاريخ الأديان[32]. في تلك المحاضرات لم تكن رؤيته للإسلام حاصل دأبٍ ذاتيٍّ في التعرّف على واحد من أبرز أديان الشرق، بل هو نتيجة تحقيقات استشراقيّةٍ ولاهوتيّةٍ في الغالب الأعمّ، فقد استعان هيغل ببعض هذه التحقيقات ليعزّز متونه بهوامش عن الشرق والإسلام في سياق محاضراته في فلسفة التاريخ. وما يجدر ذكره في هذا الصدد أنّ ما سمّي بـ «علم اللاهوت المتحرّر» للقرن التاسع عشر، الناشئ عن التلاقي بين ليبراليّة المجتمع المدنيّ الأوروبيّ وبين علم اللاهوت الإنجيليّ، قد وَجَدَ بشائره التاريخيّة تحديدًا في علم اللاهوت عند شلايرماخر وفي فلسفة الدين لدى هيغل[33].

ولكن أين المسلمون أو العرب في هذه العمليّة التاريخيّة؟

في منظور «فلسفة التاريخ الهيغليّة – ينتمي العرب والمسلمون إلى الماضي في إطار تطوّر الروح البشريّة، فقد حقّقوا مهمّتهم بالحفاظ على الفكر الفلسفيّ الإغريقيّ ونقله، أي بتسليم شعلة التطوّر الحضاريّ إلى الآخرين[34].  قد يعود السبب في عدم دقّة التصوّر الهيغليّ حيال الإسلام -حسب عدد من الباحثين- إلى خلطٍ جهولٍ وقع فيه هيغل، فلم يميّز بين الإسلام والأتراك العثمانيّين، أو على نحوٍ أدقّ بين الإسلام بوصفه دينًا وحيانيًّا ورؤيةً شاملةً للوجود والحياة الإنسانيّة وبين بعض الممارسات التاريخيّة لقسمٍ من أتباعه. وقد كان على هيغل بوصفه فيلسوفًا كبيرًا أن يعمل على تحرير التصوّر الغربيّ للإسلام، حتى يبرأ الأصل من شبهات الصور المزيّفة له[35].

هيغل -حسب رؤية الخشت- ينزع الإسلام من سياق التطوّر التاريخيّ، وذكره كشيءٍ عارضٍ على هامش تطوّر الروح المسيحيّ في الحضارة الجرمانيّة، وإن كان هذه المرّة أكثر حظًّا؛ إذ أعطى له ما يقارب خمس صفحات من مجلّد تجاوز 450 صفحة. ونظرًا لأنّ تحليل هيغل للحضارة الإسلاميّة ليس موضوعنا الآن، فإنّنا سنكتفي بتحليل هيغل للإسلام بوصفه دينًا فقط[36]. غير أنّ تجاهل هيغل للإسلام في فلسفة الدين وعرضه كشيءٍ هامشيٍّ عرضيٍّ في فلسفة التاريخ، يعكس- كما يضيف الناقد- روح التعصّب الأوروبيّ تجاه الإسلام بوصفه معتقد الآخر، ويؤيّد هذا أيضًا تلك الرؤى المحرّفة للإسلام -على الرغم من أنّها متجاورةٌ مع بعض التحليلات العميقة والصائبة- التي أثارها هيغل في فلسفة التاريخ، فالإسلام مرتبطٌ عنده بالمبدأ الشرقيّ السالب للذاتيّة، وهو ذو هدفٍ سلبيٍّ يتمثّل في تطوير عبادة الواحد الأحد، كما أنّ الإسلام في منظوره قد انحلّ سريعًا مثلما صعد سريعًا[37].

هكذا يقدّم هيغل مجموعةً من الأغاليط المركّبة عن الإسلام، ويجهل أنّ الإسلام مختلفٌ من حيث البنية والتكوين عن أديان الشرق الأقصى السالبة للذاتيّة، كما يجهل أنّ عبادة الواحد الأحد لا تنطوي على أيّ سلبٍ للذات الإنسانيّة مثل أديان الهند، وإنّما عبادة الواحد الأحد تحرّر هذه الذات وتضعها أمام نفسها وأمام مسؤوليّتها الكاملة عن هويّتها ومصيرها.

وفي الأحيان التي يسجّل فيها هيغل شيئًا إيجابيًّا للإسلام، فإنّه يردّه إلى عوامل بالغة التبسيط تبخس الإسلام حقّه، فالتجريد الإسلاميّ عنده لا يعود إلى ترقّي الوعي بالإلهيّ، وإنّما يعود إلى الانبساط الصحراويّ الذي لا يمكن أن يتشكّل فيه شيءٌ في بنيةٍ ثابتةٍ![38].

وما من شكّ في أنّ تفسير هيغل يفتقر إلى الدقّة- بحسب الخشت-؛ ذلك لأنّه لو كان الانبساط الصحراويّ هو المسؤول عن نبذ التجسيم والتشكّل في الإسلام، لما وُجدت عبادة الأصنام وتجسيد الإلهيّ في البيئة الصحراويّة قبل الإسلام، فالعرب هم العرب، والصحراء هي الصحراء قبل الإسلام وعند ظهوره، ومع ذلك كان هناك تجسيمٌ وبنياتٌ ثابتةٌ، فإذا ما جاء الإسلام بالتنزيه والتجريد، فليس من المقبول عقليًّا تفسير ذلك تفسيرًا جغرافيًّا سطحيًّا، ولا سيّما إذا كان هذا التجريد كما هو معلومٌ من التاريخ النبويّ مصادمًا بعنفٍ لطبيعة الشعور عند عرب الجاهليّة والذي كان مرتبطًا بالتجسيم الوثنيّ للإلهيّ قبل الإسلام[39].

الواضح أنّ هيغل -كما يقرّر الخشت- لم يدرك حقيقة الإسلام؛ لأنّه أسقط فهمه المسبق عليه تبعًا لفهمه لليهوديّة والمسيحيّة[40]، وهذا يعود إلى أنّه عاين هاتين الديانتين من خلال ظهورهما في التاريخ، أي بما هما معطيان تاريخيّان لا يمكن التعرّف إليهما إلّا على قاعدة الديالكتيك المادّيّ. وأمّا اضطراب فهمه للإسلام، فإنّما هو وليد جهله ببعده فوق الميتافيزيقيّ الوحيانيّ وخصوصيّة مفهوم التوحيد كمنطقةٍ محوريّةٍ في هذا البعد. ومهما يكن من أمر، فلو كان لنا من نعتٍ لهيغل وهو يفلسف تعالي روح الغرب على الآخر اللّاغربيّ، لصحّ نعته بفيلسوف الإمبرياليّة المؤيّدة بـ «فينومينولوجيا الروح»، وذرائعيّتها، ولو أنّ أحدًا وجد له مبرّرًا لتحيُّزه العنصريّ للعرق الجرمانيّ عبر ميتافيزيقا محكمة الاتقان، فما لَه إلّا أن يقرأ المنجز الهيغليّ بعناية ليرى كيف تحوّلت فلسفته الموروثة من أسلافه إلى كهف أيديولوجيّ للمطلق الغربيّ.

*      *     *

يمكن القول في كلّ حال، أنّ مقاربات الخشت لهيغل ومن قبله كانط، تشكّل حاصل جهوده التنظيريّة والنقديّة لفلسفة الحداثة. ولفضلٍ يعود إلى دربته المخصوصة في التفكير لم يكتفِ ببيان الخلل الأصليّ في بنية الميتافيزيقا، وإنّما سيمضي إلى الأرض التي سرت فيها ميتافيزيقا الغرب وتحوّلت معها إلى وثنيّة مستأنفة.

المصادر والمراجع

  1. خوليو أولالا، أزمة العقل الغربي، السمة الاختزالية للعقلانية، ترجمة: كريم عبد الرحمن، فصلية «الاستغراب» العدد الأول- خريف 2015.
  2. عدنان سيلاجيتش، مفهوم أوروبا المسيحية للإسلام، تاريخ الأديان، نقله عن اللغة البوسنية جمال الدين سيد أحمد، المركز القومي للترجمة – القاهرة ـ الطبعة الأولى، 2016.
  3. محمد عثمان الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 2006.
  4. محمد عثمان الخشت، نقد صورة الإسلام عند هيغل، فصلية «الاستغراب» العدد العاشر- شتاء 2018.
  5. محمد عثمان الخشت، “الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم”، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة، 1997.
  6. محمود حيدر، الغيرية البتراء، فصلية «الاستغراب»، العدد العاشر-شتاء 2018.
  7. محمود حيدر، فجوة هيغل، فصلية “الاستغراب”، العدد الرابع عشر – شتاء 2019.
  8. محمود حيدر، الميتافيزيقا المثلومة، في إطار المجلد الجماعي الجزء الأول بعنوان: “الأبستمولوجيا عند إيمانويل كانط، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، بيروت-2019..
  9. جان هيبوليت، الإنسية والهيغلية، ترجمة: فؤاد بن أحمد، الفكر العربي المعاصر، العدد 116-117، خريف وشتاء 2000-2001.
  10. هيغل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم: ناجي العونلِّي، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، 2006.

المصادر بالأجنبيّة

  1. Franz von Baader، Fermenta cognitionis (abbr. FC)، in SW، Vol. II.
  2. Franz von Baader، Schelling، Paderborn 7115; Emmanuel Tourpe, L’Audace théosophique de Baader: premiers pas dans la philosophie religieuse de Franz von Baader (5671- 5485), Paris 7115.
  3. Jaques D’handt, La Ruse de la raison revue laval théologique et philosophique, Juin 1995.

[1] – Franz von Baader، Schelling، Paderborn 7115; Emmanuel Tourpe, L’Audace théosophique de Baader: premiers pas dans la philosophie religieuse de Franz von Baader (5671- 5485), Paris 7115.

[2] – IPID,

[3] – IPID, P. 179.

[4] – خوليو أولالا، أزمة العقل الغربي، السمة الاختزالية للعقلانية، ترجمة: كريم عبد الرحمن، فصلية «الاستغراب» العدد الأول- خريف 2015.

[5] – محمود حيدر، الغيريّة البتراء، فصليّة «الاستغراب»، العدد العاشر»، شتاء 2018.

[6] – صادر عن دار قبان، القاهرة – 1997.

[7] – صادر عن دار نهضة مصر القاهرة – 2007.

[8]– صادر عن دار الثقافة العربيّة، القاهرة – 2009.

[9]– صادر عن دار الثقافة العربيّة، القاهرة – 2009.

[10]– صادر عن دار نهضة مصر – 2006.

[11]– محمد عثمان الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة – 2006. ص3.

[12]– المصدر نفسه.

[13]– المصدر نفسه، ص 4-5.

[14]– المصدر نفسه.

[15]– أنظر: محمود حيدر، الميتافيزيقا المثلومة، في إطار المجلد الجماعيّ الجزء الأوّل، بعنوان: «الابستمولوجيا عند إيمانويل كانط – المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة، بيروت – 2019، ص 15.

[16]– المصدر إياه، ص 16.

[17]– محمّد عثمان الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، مصدر سبق ذكره، ص15-16.

[18]– محمّد عثمان الخشت، «الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم»، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 1997- ص63.

[19]–  Franz von Baader، Fermenta cognitionis (abbr. FC)، in SW، Vol. II، p. 178.

[20]– م. ع. الخشت، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، مصدر مسبوق الذكر، ص72.

[21]– م. حيدر، الميتافيزيقا المثلومة، المصدر نفسه، ص17.

[22]– الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، المصدر السابق، ص105.

[23]– المعقول واللامعقول في الأديان، المصدر نفسه، ص8.

[24]– محمد عثمان الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، مصدر مرّت الإشارة إليه، ص 6.

[25]– نقلًا عن جان هيبوليت، الإنسية والهيغلية، ترجمة: فؤاد بن أحمد، الفكر العربي المعاصر، العدد 116-117. خريف وشتاء 2000-2001.

[26]– انظر: هيغل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة وتقديم: ناجي العونلِّي- المنظّمة العربيّة لترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربيّة- بيروت 2006- ص

[27]– Jaques D’handt, La Ruse de la raison revue laval théologique et philosophique, Juin 1995.

[28]– Jacques D’Hondt. Ipid.

[29]– محمود حيدر، فجوة هيغل، فصليّة «الاستغراب»، العدد الرابع عشر – شتاء 2019.

[30]– انظر: الخشت، المعقول واللامعقول في الأديان، مصدر سبقت الإشارة إليه، ص311.

[31]– م. حيدر، المصدر نفسه.

[32]– محمد عثمان الخشت، نقد صورة الإسلام عند هيغل، فصليّة «الاستغراب» العدد العاشر – شتاء 2018.

[33]– عدنان سيلاجيتش، مفهوم أوروبا المسيحيّة للإسلام، تاريخ الأديان، نقله عن اللغة البوسنيّة جمال الدين سيد أحمد- المركز القوميّ للترجمة، القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ  2016، ص 155.

[34]– المصدر نفسه، ص158.

[35]– المصدر نفسه.

[36]– محمّد عثمان الخشت، نقد صورة الإسلام عند هيغل، مصدر سبقت الإشارة إليه.

[37]– المصدر نفسه.

[38]– Hegel، Lectures on the Philosophy of History، New York، Dover Publications، 1956. P. 357.

[39]– الخشت، مصدر مرّت الإشارة إليه.

[40]– الخشت، المصدر نفسه.
__________
**محمود حيدر: مفكر وأستاذ في الفلسفة والإلهيات – لبنان.

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

محمود حيدر

مفكِّر وباحث لبناني في الفلسفة والإلهيات. دكتوراه في الفلسفة. وأستاذ محاضر في نقد الفكر الغربي والتصوف النظري.له دراسات عليا في الأديان المقارنة. أستاذ زائر في عدد من المعاهد والجامعات العربية والدولية. يشغل حاليا منصب رئيس مركز دلتا للصحافة والأبحاث المعمَّقة، ومدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب". مؤسِّس ومدير دار الرؤى للنشر والتوزيع 1986. رئيس تحرير مجلة "مدارات غربية" - بيروت - باريس 2009-2004. مستشار علمي لعدد من مراكز الأبحاث والجامعات في لبنان والعالم العربي. من مؤلفاته: تحولات المشروع الاسرائيلي في لبنان. اللاّيقين السلمي - أحوال لبنان بعد الحرب، نهاية الجدار الطيب، الأرض المغلولة، نهاية الجدار الطيب، الإعلام والأخلاق، لاهوت الغَلَبَة، الفقيه الأعلى، الحكمة البالغة في الحكمة المتعالية، مفهوم الدولة، هيرمينوطيقا الوحي، ما بعد العلمانية.

مقالات ذات صلة