مناهج التربية الدينيّة في زمن التعليم الإلكتروني

image_pdf

عقدت الرابطة العربيَّة للتربويِّين التنويريِّين، السبت الموافق 17 يوليو/ تموز 2021، وضمن فعاليّات مؤتمرها الخامس الذي يحمل شعار (الرسالة المعاصرة للدين)، ثالث ندواتها الفكريّة عبر تقنية الاتّصال عن بعد (مناهج التربية الدينيّة في زمن التعليم الإلكتروني) التي ترأستها الأستاذة  هبة عبد الجواد، واستضافت فيها الدكتور سمير بودينار، والدكتور محرز الدريسي.

 

ورحّبت الأستاذة هبة عبد الجواد بالحضور، مجدّدة التحيّة والشكر للرابطة العربية للتربويّين التنويريّين على تنظيم هذه الندوات ضمن مؤتمرها السنوي الخامس، لافتة إلى أهميّة موضوع الندوة (مناهج التربية الدينيّة في زمن التعليم الإلكتروني) في ظلّ ما يشهده العالم من توجّهٍ للتعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد  بسبب جائحة كورونا من جهة، والجدل الذي  تثيره قضيّة “تعليم التربية الدينيّة”  في المدارس العامّة بين الرفض والقبول من جهةٍ أخرى.  كما رحّبت بضيفي الندوة وعرّفت بهما للحضور.

 

وافتتح الدكتور محرز الدريسي مداخلته التي حملت عنوان (مادة التربية الدينيَّة في زمن التحوّلات الكبرى)، بالإشارة إلى أنّ العالم العربي الإسلامي، يعاني من أزمةٍ مزدوجة؛ هي أزمة المنظومة التعليميّة بشكلٍ عام، وفي الوقت نفسه أزمة مادَّة التربية الدينيّة أو الإسلاميّة؛ بوصفها أزمة مركّبة تحتاج إلى نوع من إعادة التفكير، لا فقط في ارتباط التربية الدينيّة بالمنظومة التعليميّة والتربويّة، ولكن أيضًا من حيث أهدافها  ومعجم مصطلحاتها وتصوّراتنا حولها؛ لأنّها ليست مجرَّد مادّة دراسيّة تعيش تحوّلات، بل بسبب ارتباطها بشبكاتٍ متنوّعة من الروابط الخفيَّة مع المجال السياسي والثقافي والإصلاحات الدينيّة وعمليّة التحديث وغيرها. لافتًا إلى أنَّ أزمة مادّة التربية الدينيّة لا تمسّ المجتمعات العربيّة الإسلاميّة فقط، لكنّها قضيّة مطروحة في أغلب دول العالم، هذا الجدل الذي قدّم نظرة جديدة للمسألة الدينيَّة، وقد اعتبر بعض الفلاسفة أنّ هذه العودة الكبرى للأديان نوع من النقد الضمني للحداثة، وأنّ المسألة الدينيّة قوّة تعبويّة ومحدّدة لملامح الهويّة، وأنّها تتضمّن موروثّا روحيًّا وثقافيًّا.

 

وناقش الدكتور محرز الدريسي، الإصلاحات التي  تناولت التربية الدينيّة في العالم العربي والإسلامي ، مؤكّدًا أنّ التحوّلات الكبرى التاريخيّة والاجتماعيّة تجعل من مراجعتنا لمسألة التعليم بشكل عام، والتربية الدينية بشكل خاص مسألة أساسيَّة. وهذا التحدّي يتضمّن مستويين: التحدّي المعرفي وذلك لأسباب منها: التغيّر في نمط التفكير، والمنهجيّات الجديدة، ووجود شبكة القيم، بالإضافة إلى تطوّرات في عمليّة الانتظام السياسي والانتظام العالمي، أمّا التحدي الثاني هو التحدّي القيمي؛ بمعنى هل يمكن أن تتفاعل موادّنا الدراسيّة وشبكة قيمنا مع التطوّرات التي أفرزتها العولمة في ظلّ التكنولوجيا الحديثة؟  وأضاف: هذا الشكل الموسّع بما فيها التربية الدينيَّة تسفيد من الإضافات التي قدَّمتها الحداثة والقيم والمناهج التربويَّة الجديدة. فالتطور ليس فقط في الجوانب الفلسفيّة والاجتماعيّة، ولكنّه  أيضًا مسَّ الجوانب النفسيّة والبيداغوجيّة والمنهجيّة التي بيّنت أنه لا يمكن تدريس مادة التربية الدينيَّة بالطريقة القديمة التي كانت قبل عقود، وإنّما من الضروري أن تتمّ زحزحة هذا التمشّي وإيجاد تمشّيات تستفيد من الإضافات الجديدة.

 

واستعرض الدكتورالدريسي، المعضلات الخارجيّة التي تواجه التربية الدينيّة،موضحًا أنّه توصّل إلى مجموعة من الاستنتاجات بعد أن اطّلع على مجموعة من الكتابات حول التربية الإسلاميّة وأساليب تدريسها، ومنها: أنّها لا تميِّز  بين العلوم الإسلاميَّة ومادة التربية الإسلاميّة وتعتبر الأهداف العامّة للتربية الإسلاميّة محسومة وواضحة، كما أنّها تتحدّث عن التربية الإسلاميّة وتنتقل للإسلام وكأنّها مسألة مزدوجة، فيما أنّ التربية الإسلامية كمادَّة دراسية لها مميّزاتها، هذا بالإضافة إلى  الاعتقاد بأنّ مادة التربية الدينيّة  مصدرها من الله وهذا فيه شطط كبير، لأنَّ هذه المادة مادة بشريَّة، تخضع لمجموعة من المعايير البيداغوجيّة ومعايير هندسة المناهج ، كما أنّنا عادة ما نتعامل مع هذه المادّة وكأنّها تؤثر على المجتمع بشكل عام، فيما تؤكّد العديد من تقارير التربية الإسلامية على تأثيرها في سلوك الفرد وليس في سلوك الجماعة.  ومن المعضلات الداخليّة كذلك، ما يتعلّق بتكوين المدرِّسا لذي تخرّج من منظومة تعليم جامعي تقليدي، وبالتالي فمعلّم التربية الإسلاميَّة يدرّس المادَّة وهو محمّل بمجموعة من المعارف الخاصّة بالأصول والفقه والتفسير والهدي النبوي بدون أن تكون لديه أدوات التواصل مع الطلاب. ومنها أيضا، معضلة السياق الثقافي والتجديد الديني؛ بمعنى أنّه  لا يمكن تطوير مادة التربية الدينيّة ما لم يكن هناك مناخ ثقافي يدعو إلى حرّيَّة التفكير ومراجعة تراثنا الديني.

 

كما لخّص الدريسي، المعضلات الداخليّة التي تواجه التربية الدينيّة في ثلاث نقاط: الأولى: استراتيجية التسمية، والتي تطرح إشكاليّة حول ماهيّة هويّتها الإبستمولوجيّة التعليميّة، لافتًا أن أوّل المداخل بالنسبة لتطوير وتعديل ومراجعة التربية الدينية، هو أن نتّفق حول التسمية. الإشكالية الثانية متعلّقة بمسألة المنهجيَّة؛ أي أنّ هناك الكثير من النقل والإطناب والحشو والاستطراد والرتابة، ولعل من الإشكالات المنهجيّة أيضًا، أنه مثلما هناك غياب للتسمية للتربية الدينيّة هناك عدم وضوح في الرؤيا للمادة في أذهان الفاعلين وهناك خلط بين ما هو مقدّس وبين ما هو تاريخي، بين ما هو قيمي وبين ما هو تعليمي، هذا الخلط يحتاج إلى نوع من التنقية والفرز لتنمية المهارات وليس فقط تقديم المعرفة، ومنها كذلك،غياب  الأدوات التكنولوجيَّة الحديثة في مجال التدريس، وتبخيس لصورة التربية الدينيّة واعتبارها مجرَّد مادّة ثانويّة معاملاتها محدودة،  وصورة تقديم مدرّس التربية الدينيّة وطريقة تقديمه  للمحتوى والمنهاج. وهذا يتطلب من تطوير مادة التربية الإسلامية أن لا يكون واجهة للاستشراق والتغريب، أوت وظيفها في غايات أيدولوجيّة غير تربويّة وغير منهجيّة.

 

وختم الدكتور محرز الدريسي مداخلته، باستعراض بعض الجوانب التي تتعلّق بتطوير مادّة التربية الدينيّة عبر تجربتي الجزائر وتونس، ففي التجربة الجزائريّة لاحظ بعض الجوانب النفعيّة والتعبويّة؛ بمعنى أن هناك إعلاءً غير مبرَّر ومفسَّر بالنسبة للقيم الإسلاميَّة، فيما الأصل تدريب الطالب على أن يتعامل مع المعرفة بشكلٍ موضوعي ودقيق،  وأن لا يكون نوع من تضخَّم الأنا والهوية الذاتيَّة. المسالة الأخرى في الخطاب الجزائري أنه خطاب انتقائي على سبيل المثال هناك تغييب للخطاب الصوفي، أو حتّى للمذهب الشيعي. وفي التجربة التونسيَّة التي طوّرت مناهجها بداية التسعينات، بتنقية الكتب الدينيَّة من كراهية الآخر، وإدراج مجموعة كبيرة من قيم التسامح والتفكير النقدي ونصوص المفكّرين الجدد، وعلى الرغم من هذه الإصلاحات إلا أن أكبر شريحة التحقت بالحركات الإرهابيَّة كانت من الشباب التونسي، موضحًا أنّه كلّما كانت الإصلاحات مفروضة وفوقيّة كلما كانت النتيجة عكسيّة، مؤكّدًا أنّ عملية التطوير الفعّالة هي التي تبنى على أساس مقاربة تشاركيَّة بين كل النخب والمثقّفين والمدرّسين، حتّى يتمكّنوا  من بناء هذه الأداة وتسليحها برؤية مستقبليَّة تساهم في إكساب المتعلِّم مهارات معرفيّة، وتمنحه التفكير المنهجي والنقدي.

 

وفي مداخلته تحت عنوان (الرسالة المعاصرة للتربية الدينيَّة وتحوّلات زمن التعليم الإلكتروني)، تناول الدكتور سمير بودينار، المضمون القيمي للتربية الدينيّة التي يسمح لها أن تؤدّي رسالتها في العصر الذي ننتمي إليه، لافتًا إلى أنّ الحديث عن الرسالة المعاصرة للتربية الدينيّة يقتضي أن نحدّد ملامح هذه الرسالة وماهيّتها في الزمن  في الجانب المتّصل خصوصًا بعمليّات بناء الشخصيّة التي تمكّن من تحقيق أعلى مستوى من المهارات والقدرات؛ أي تنمية القدرات بحيث تتم عمليّة بناء شخصيّة المتعلّم في مستوياتها المختلفة؛ التنشئة الاجتماعية، مستوى التعليم، مستوى التأديب، التدريب، التعلّم، أي المستويات المختلفة لبناء الشخصيّة، كذلك عن العمليّات الاجتماعيّة التي تتعلّق بالتنشئة الوالديّة وبالتثقيف الاجتماعي، خصوصا بالتعليم الأكاديمي، بالإضافة إلى المستويات الأخرى، مثل التدريب المهني أو الاحترافي، وتنمية المهارات ، كذلك القدرة على التعلّم الذاتي.

 

واستعرض الدكتور بودينار، المضامين التي قد تكون ذات أولويّة في التربية الدينية في التعليم الأكاديمي، منها فقضيّة التعامل مع التراث وهو لا شك مصدر مهم لهذه التربية الدينيّة، من مصادرها الأساسيّة، مؤكّدًا أنّه بإمكاننا الاستفادة من هذا التراث المهمّ من أجل البناء والتأسيس عليه، ثمّ تجاوزه إلى الأسئلة الراهنة،  لا أن يكون ملجأ للذات تسكن إليه أو تعود إليه ثم تبقى هناك.  كذلك طرح قضيّة الفصل بين التخصصات وتقسيم المعرفة، لافتًا أنّ هذا الفصل كان في الأساس تعليميًّا لإعطاء خريطة معرفيّة للمعارف وأصناف العلوم ومراتبها للمتعلّم، لكنّنا انتقلنا تاريخيّا في مراحل متطاولة إلى أن تحوّل هذا الفصل الذي بدأ مدرسيًّا وتعليميًّا إلى فصلٍ منهجي بل إلى فصل ذي طبيعة معرفيَّة. أمّا الإشكال الآخر، فهو متعلّق بكيف نتعامل مع قيم يفترض أنّها متضمّنة في المعارف والعلوم التي يتلقّاها المتعلّم في العلوم جميعًا، أي يفترض أنّها قيم متضمّنة في هذه العلوم بشكلٍ جماعي؟

 

وأضاف الدكتور سمير بودينار، أنّ التربية الدينيّة ينظر إليها بوصفها وسيلة لتحقيق مستويين في التعامل مع الإنسان؛ أولا: فكرة بناء الإنسان بالمفهوم الخلدوني وبالمفاهيم التي يتحدَّث عنها علماء التربية، أي هذا الإنسان الذي يكون موجودًا بالقوّة إلى أن يتعلّم كيف يصير موجودًا بالفعل؛ أي تعيد تعريفه لذاته، وتبني وعيه الخاصّ وتمكّنه من الترقي في السلّم الاجتماعي. أمّا المستوى الثاني، فهو بناء الإنسان المدني، الإنسان بوصفه عضوًا في مجموعة، مواطنًا في مجتمع، وهو ما تعالجه العلوم الاجتماعيّة في دراستها للقيم الإجرائيّة أي القيم التي تضبط العلاقات داخل نسق خاص، والقيم الجماعيّة التي تضبط العلاقات داخل المجتمع والأمّة، ثمّ وهذا الأمر في غاية الأهميّة، كيف تبني التربية الدينيّة اليوم قدرة الإنسان على تمثّل القيم الإنسانيَّة المشتركة؛  لأنّ  القيم الإنسانيّة المشتركة اليوم، لم تعد ترفًا فكريًّا وإنّما أصبحت ضرورة وجوديّة للإنسان في عالمنا، ومدخلًا لا غنى عنه ليكون الإنسان مدركًا لطبيعة العالم الذي ينتمي إليه أولا، ثمّ ليعيش مواطنته الكونيّة. لافتًا أنّه من أهمّ المداخل التي ينبغي التعامل معها في إدراك خصوصيّة التربية الدينيّة، هو أنّ التربية هنا تنتقل بمستويات بناء الشخصيّة من مستوى بناء الأفكار إلى مستوى القيم، وهذا أمر في غاية الأهميّة، أي كيف تمكّن التربية الدينيّة الإنسان من استجابة ترقّي أبعاد وجوده الإنساني كاملة وتتحقّق بها بالأحسنيّة؟ الجواب هو القيم المتضمّنة في التربية الدينيّة والتي تخاطب ملكاته ومهاراته ومستوياته الوجوديّة المختلفة.

 

ولفت الدكتور سمير بودينار، إلى أنّ المشكلة الأساسيّة التي تواجهنا عندما نحدّد أهداف التربية الدينيّة هي أدوار هذا التعليم الإلكتروني في علاقته بأداء رسالة التربية الدينيَّة. مؤكّدًا أن التعليم الإلكتروني بهذا الحقل تحديدًا ليس أكثر من مجرَّد حلول استثنائيَّة، أمّا القضيّة الأخرى هي التركيز على الصورة باعتبارها صانعة أساسيَّة في عالم القيم، وبذلك حتى طبيعة الذاكرة التي نعيش في ظلّها اليوم أصبحت ذاكرة بصريّة وليست ذاكرة تسجيليّة. الملاحظة الأخرى، أنّ خصوصيَّة التواصل الإنساني في مجال القيم الدينيّة هي أساسا تتّسع عن إمكانيّة استيعاب  التعليم الإلكتروني لها، وبالتالي من المهمّ جدا أن يدرك القائمون على التربية الدينيّة اليوم في عالم التعليم الإلكتروني أنّ مهمّة القيم الدينيَّة الأساسيّة هي أن يعيش الناس أفضل في هذا العالم. إذا كان الفكر الديني يعلّم الناس أو يعطي أجوبة على علاقاتهم الكونيّة وعلاقاتهم بأبعاد وجودهم، فإنّ القيم الدينيّة تمكّنهم من عيشٍ أفضل وتمثّل أفضل لهذه العلاقات، ومن فهم التحوّلات العميقة التي يشهدها العالم من خلال التمنيع ضدّ المخاطر، والإفادة من الفرص التي تتيحها عوالم الفضاءات المفتوحة، وخاصَّة فضاء التعليم الإلكتروني.

 

شهدت الندوة التي حضرها عدد من المهتمّين والفاعلين في مجال التنوير الديني، نقاشًا موسّعاً، أجاب فيه الدكتور محرز الدريسي والدكتور سمير بودينار على مداخلات الحضور واستفساراتهم، علمًا أنّ الندوات ستتواصل بشكلٍ دوري، ويمكن للمهتمّين متابعة منصّاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي نعلن من خلالها عن مواعيد الندوات، ونتيح المشاركة فيها.

 

 

جديدنا