التنويريفكر وفلسفة

التكفير… قصّة الاستيلاء على العقول

يؤمن العالم كله بتطبيق نظرية الخريطة المعرفية، وهي نظرية تفيد ممارسة عملية التفكير في موضوع مشكل، بل وإعادة التفكير مرتين أو أكثر في الموضوع الواحد. ومما لا شك فيه أن المجتمعات الإنسانية المعاصرة لم تعد تسير في طريقها نحو التقدم والتطور بصورة تلقائية عفوية ، بل تحاول أن تدرس مراحلها ومواقفها السابقة لتقف على حاضرها ، وتستشرف مستقبلها وتحدياتها القادمة.

ومن منطلق ما سبق حرصت بعض التيارات السياسية في الوطن العربي ومنها مصر وعلى رأسها الحزب الوطني الديموقراطي المنحل ـ على سبيل المثال ـ في مراجعة مراحله السابقة، بل وعمل على تجديد أفكاره وسياساته ، وهو ما نتج عنه رفع شعار فكر جديد، واستحداث أمانة السياسات التي ترأسها آنذاك نجل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك صاحب الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر المجيدة.

ولم يكن الحزب الوطني وحده رائداً في هذا، فالمتابع للشئون السياسية الإسلامية في مصر يدرك ما قامت به جماعة الجهاد الإسلامية، وهي الجماعة الأشهر سياسياً في مصر منذ بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات من مراجعة لأفكارها ولأيديولوجياتها الفكرية والدينية. وسارت على نهجها جماعة التكفير والهجرة وإن كانت الأخيرة الأكثر تزييفا وزورا وبهتانا وتكفيرا للوطن والمواطن على السواء  لما ادعى أعضاؤها بمسألة المراجعات الفقهية وأنهم تبرأوا من مقتل الرئيس المصري الخالد محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام في القرن العشرين المنصرم.

وقد قامت الجماعة تلك في هذا السياق وهي تراجع أفكارها بإصدار عدة كتب تتضمن مراجعات طويلة لأيديولوجياتها الدينية، وكما يذكر السيد يس حول هذه الإصدارات أنها لم تحظ باهتمام كاف من الأوساط السياسية والثقافية في مصر، وربما أرجع شخصيا هذا المشهد إلى تأويل يشارف اليقين بأن مثل هذه الجماعة وغيرها من الشوقيين والتكفير والهجرة والإخوان المسلمين وجبهة النصر وأنصار بيت المقدس وعشرات الجماعات والتيارات الأخرى المتناثرة في ربوع مصر لا يمكن تصديق هذه المراجعات من باب أنه كيف يمكن تغيير عقائد راسخة تم تكريسها عبر سنوات بعيدة ومحوها في يوم وليلة.

بل كيف نزعم تصديق المراجعات الكاذبة والخادعة التي قام بها زعماء وقيادات جماعة الجهاد والتكفير والهجرة بمجرد إعلانهم تخليهم عن أفكارهم ومعتقداتهم القديمة التي نجم عنها اغتيال الشيخ الذهبي واغتيال الزعيم الخالد أنور السادات وأحداث الفتنة الطائفية في صعيد مصر لاسيما محافظة المنيا ومقتل عشرات المدنيين من الأجانب في فترة التسعينيات مرورا بأحداث دموية متفرقات ومجتمعات صوب رجال الشرطة والقوات المسلحة، الأمر الذي لا يجعلني وغيري في قرابة تصديق مزاعم تلك المراجعات الفقهية التمثيلية.

أما بالنسبة للجماعات الإسلامية ذات الصبغة الجهادية والمواجهة المسلحة المباشرة، فمن باب الخطأ الفكري أننا نظن للحظة بأنهم وحدهم الممتلكون لحق الحديث والفتوى باسم الإسلام، وهم في واقع المشهد لم يفكروا للحظة في المراجعة الفقهية لأدائها في المرحلة السابقة، وإن كانوا قد فعلوا هذا داخلياً، فمن الأحرى إعلان أسماء من رفض منهم فكرة المراجعات أو التخلي عن تلك الأفكار التي سعت إلى تقويض الأمن والاستقرار بالمنطقة ، لكننا نجدهم في كل وقت وحين يتحدثون عن شخصيات انتقلت إلى رحمة الله ، ورموز ماتت منذ عشرات السنين وكأنهم لا يزالوا عند عهدهم الماضي بالولاء والبراء والسمع والطاعة لقسمهم القديم ، وهذا بالفعل ما يمكن أن ترصده حاليا وأنت تشاهد المقاطع المرئية على شبكة الإنترنت لبعض زعماء هذه الجماعات من الأحياء.

فتجدهم يتحدثون عن رموز انقضى عهدها بالوفاة وعن آخرين معاصرين على قيد الحياة لكنهم وافقوهم في المراجعات ، لكن الأكثر دهشة أنهم لم يتحدثوا عن الذين انشقوا بأسمائهم، أو عن هؤلاء الذين تحدث عنهم الرئيس الراحل محمد أنور السادات في خطابه الشهير في الخامس من سبتمبر 1981 حينما قال أنه تحفظ على قيادات الجماعات التكفيرية أما الصغار المغرر بهم على حد توصيفه إياهم فقد ترهم ، وهؤلاء هم بالفعل الذين صاروا وأصبحوا قيادات وزعامات فيما بعد ولم نعرفه الكثير منهم نتيجة هذا التضليل الذي قام به أصحاب المراجعات الفقهية.

وإن كان تاريخ مصر السياسي سجل ما أصدره المستشار حسن الهضيبي المرشد السابق للجماعة من بيان بعنوان ” دعاة لا قضاة ” وهو يعتبر نوعاً من التقييم الذاتي لأداء جماعة والإخوان المسلمين فلا يمكن مشابهة هذا البيان بما تم على أيدي الجماعة المنحلة من أعمال قتل وترويع بل وإقصاء مصر من خارطة الشرق الأوسط بفضل سياساتها وسعيها العلني والخفي في محاربة مصر حكومة وشعبا.

وتجنب الجماعات الإسلامية بروافدها وأذرعها الكثيرة من جماعة الجهاد والتكفير والهجرة والشوقيين والإخوان لعملية النقد الذاتي والتقييم الداخلي يسهم في ترسيخ فكرة الجمود وانعدام التواصل بينها وبين المجتمع الذي أصبح يرى في هذه الجماعات جسداً صامتاً لا يتحرك، بل هو جسد غير قادر على الحركة، بعد ما تصور المجتمع أن تلك التيارات المتطرفة الدموية بالفعل ستساعد في الحراك السياسي والاجتماعي.

وفي إطلالة سريعة على ما فعله المنتمون للجماعات الإسلامية وبخاصة جماعة الجهاد ومن بعدها جماعة التكفير والهجرة بأعضائها ورموزها المنتشرين في نسيج المجتمع المصري حتى الآن ، نرى أنها أرادت كاذبة ومخادعة ومراوغة أيضا الاندماج السريع في المجتمع وخير دليل واضح على ذلك ما قاموا به من مراجعات فقهية لأفكارها. ومن الدهشة التي تعتريني وأنا أنظر لمساجلات ومناقشات تلك المراجعات الفقهية لأقطاب التكفير وأنصار الحاكمية وأمراء الجهاد المسلح  ما اعتراها من وجود تيارات مختلفة داخلها، فهناك تيار الإصلاح الذي يرى ضرورة الانخراط في المجتمع والعمل العام، وهناك تيار متشدد يرى أنه من الضرورة استكمال العمل بالمرجعية السابقة التي ترى أن المجتمع كافر وضال ومخالف للإسلام وتعاليمه ، وهؤلاء استبعدوا بالفعل العناصر الإصلاحية أو هذه الوجوه والأصوات التي تنادي بضرورة التخلي عن ممارسات سابقة.

وقد يظن البعض أن أعضاء الجماعات الإسلامية بمسمياتها المتباينة أي تلك التي تبنت مصطلح الإسلام السياسي المسلح متماسكون ولا تشوبهم أية اختلافات أو اعتراضات فكرية أو منهجية، لكن ما يعلنه هؤلاء الأعضاء من تصريحات صحفية وفضائية تؤكد أنهم يسيرون نحو هاوية.

وإن كانت الجماعة الإسلامية قديماً تلعب على مشاعر المصريين تجاه مشاكلهم وهمومهم كالبطالة والفقر وقصور الخدمات الصحية والتعليمية تماما كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين في سعيهم صوب السلطة، فإن الصورة الحالية لمصر توضح أن المجتمع نفسه قادر على حراكه دون الاحتماء بمظلة معينة وهو ما لم تأخذه الجماعة الإسلامية أو الجماعة  المحظورة مأخذ الجد والاهتمام. بالإضافة إلى ما تقوم به الجمعيات الأهلية من دعم ومساندة لشرائح مختلفة من المجتمع.

ومن اليسير أن نرى توافق المجتمع في الحكم على الجماعات الدينية السياسية من حيث إنها لم تقدم جديداً رغم تمتعها بآليات تخطيطية وتنظيمية متميزة بدليل حفاظها على سرية التحرك وسرعة انتشارها وقوتها في استقطاب الآلاف من الشباب، وفي الوقت نفسه لم نجدها مندمجة مع أحداث مصر بصورة فعالة نستطيع أن نرى نتائجها. هذه الملامح وتلك الإحداثيات هي التي تجبر المرء على الشعور التوجس والحيطة والحذر  من نتاجات المهادنة التي قامت بها الجماعات الدينية المتطرفة وأعمال المراجعات التي أصفها بالكاذبة ،  فلابد من التفكير جيداً في إعادة تقييم ومراجعة أفكارها إن أرادوا بحق خدمة هذا الوطن، وأظن أنهم لا ولن يقدموا على مثل هذه الخطوة لما ينتظرهم من محاكمة شعبية وليست قضائية رسمية بعدما انكشف أمرها وبات للقاصي والداني رؤية عميقة بشأن مزاعم ومطامح بل ومطامع هذه التيارات.

ويظل سؤال لماذا يخشى المواطن من وجود جماعات وتيارات ذات مرجعية وهوية دينية حائرا ومُشْكِلا وأكثر غموضا في الإجابة؟ هذا السؤال حرصت كافة الفضائيات الفراغية نسبة إلى شغل وقت الفراغ، وعشرات بل مئات الأقلام مناقشته مناقشة علانية تأرجحت بين القبول والرفض ، واستغرب الكثير بل جميع المنتمين للتيارات الدينية بدءا من جماعة الإخوان المحظورة حتى تنظيم الدولة ( داعش) موقف المرابطين على الشاطئ الآخر والمنتمين للتيارات الليبرالية والمنادين لفكرة إقامة دولة دينية من رفضهم لهوية دينية إسلامية أو الحاكمية الدينية بوجه عام.

وربما ذهب بعض القياديين من هذه التيارات بعيدا إلى أن هؤلاء الرافضين لمجتمع ذي طبيعة دينية يهاجمون الإسلام، وهذا لغط شديد، يرجعني إلى عبارة من ساء فعله ساءت ظنونه، فالليبراليون لا يرفضون الإسلام ووجود مرجعية دينية حاكمية لتصرفات وسلوك المواطن كما تزعم القوى والتيارات السياسية الدينية، بل هم يرصدون الفرق بين الإسلام كشريعة وعقيدة سامية تضبط سلوكيات ومعاملات وعبادات الإنسان المسلم مع ربه والمسلمين وغيره من أصحاب الملل والنحل الأخرى، وبين وجود صكوك دينية وضوابط مشروطة يملك حقها مجموعة من الناس بدعوى أنهم يقيمون شريعة الله في الأرض.

وإذا ساء ظن تلك التيارات بأفكار المناهضين لوجود مجتمع ذي مرجعية دينية، فإن الأمر على الشاطئ الآخر يختلف تماماً، أي أن الرافضين لهذه المرجعية يمتلكون رصيداً تاريخياً كبيراً من تجاوزات التيارات الدينية لاسيما المتشددة حينما يسطع ويبزغ نجمهم على المشهد السياسي.

وسجلات القضايا السياسية والجنائية بالمحاكم، والتحقيقات الصحافية الضاربة في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن تكفي للتأكيد على هذا التاريخ الممزوج بالعصبية والاستبعاد للآخر بل ومحاربة أي فكر يحمل كلمات مثل التنوير والاستنارة والاجتهاد والمدنية وحرية التعبير، رغم أن هذه الكلمات وغيرها من أبجدية النهضة ضاربة في أبد وأزل التاريخ الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً وأكثر. ولكن قمعية بعض الجماعات والتيارات للرأي الآخر هي التي تدفعنا للتحذير من مغبة الأيام المقبلة والمرهونة باحتمالات عودة ظهور بعض التيارات السياسية ذات الصبغة الدينية أو التيارات الدينية ذات التوجه السياسي، وخصوصا أن كثيرا من الجامعات المصرية تشهد وجودا كبيرا لأنصار وأعضاء الجماعات المتطرفة والراديكالية دون ظهور علني الأمر الذي قد يهدد استقرار المجتمع من جديد.

وخطورة هذا التسيد لا تأتي من الحضور الإسلامي على جميع مجالات ونواحي الحياة المجتمعية، فهذا الحضور موجود بالفعل وقديم قدم الفتح العربي لمصر ، بل ولا يحتاج إلى شخص أو مؤسسة أو تيار يمثله أو يدعو إليه، فالإسلام حدد منذ أربعة عشر قرناً هوية هذه الأمة في صورتها الجمعية دون الالتفات إلى بقية الديانات الأخرى التي لاشك تدخل تحت مظلة الهوية المصرية بصفة عامة. ولكن الخطورة هي أن من المنتسبين لهذه التيارات ذات المرجعية الدينية قد ينتابهم شك شديد الحضور والشهود وهو أن المجتمع المصري يبيت على ضلال مستباح.

وهم في ذلك لا يستشهدون إلا بملامح ودلالات شديدة الخصوصية لا تصل إلى حد التعميم، مثل وجود رواية تستبيح محرمات نهى عنها الإسلام ، وهذا الأمر في حد ذاته يجعلنا نتساءل هل هذا الشعب حقاً يعتبر من الأمم القارئة؟ أنا شخصياً لا أظن لأنه أصبح اليوم المواطن هو الذي يذهب إلى المعرفة بصورة قصدية بدلاً من أن كان قديما المعرفة قطاراً يصل إلى كل بيت متمثلة في اللغة واستخدامها الرقيق ، وطريقة التعامل الاجتماعي ، واحتراف الذوق الذي غاب عن واقعنا في الفن والموسيقى والرياضة أيضاً.

وهم ـ أعني التيارات الدينية السياسية ـ لا يستندون أيضاً إلى على فيلم مبتذل لمخرج أو ممثلة أكثر ابتذالاً لا فكر فيه ولا رؤية ولا عناصر إبداع تحتويه، فمن حقهم أنهم يقفون متوشحين بسيف الفضيلة أمام هذه النماذج، ولنا الحق نحن أن نلوم أنفسنا لأننا شجعنا هؤلاء المنتسبين للفن ظلماً بإنتاج أعمال رخيصة مبتذلة.

وهؤلاء أصحاب الأعمال الرخيصة فنياً من شعر ورواية وغناء سوقي رخيص وسينما لا تحمل من الاسم سوى صالة العرض لا يخشون خطر تحول برلمان الوطن إلى برلمان ديني الهوية والمرجعية؛ لأنهم لسبب بسيط يعيه القاصي والداني يستطيعون التحول بصورة فجائية دونما مقدمات، مثلهم مثل أولئك الذين ظهرت أعراض الوطنية عليهم فجأة بعد انتصار رياضي أو مكسب أدبي أو نصر فني فتراهم يدججون مشاعرنا بأغنية عن النيل والتراب الوطني وربما تجدهم أيضاً بالحجاب يغنين في حب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا يرتدي جلباباً محاولاً إقناع المستمعين بأنه من أنصار جماعة السنة أو أحد المنتمين لتيار سلفي.

الذي يخشى تصاعد هؤلاء هم المثقفون وأنصار الأفكار التي تعلي قدر الحرية لاسيما حرية التعبير الفكري الذي بالقطع لا يمس أية مقدسات أو عقائد بصورة مشينة، بل إن الفكر كلما ارتقى سما بنفسه وأعلى من شأن عقيدته وشريعته بصورة تميز سماحة العقيدة ومرونتها ومدى قبولها للتعددية الدينية والسياسية والفكرية. ولكن للأسف النخبة السياسية والفكرية تعاني من سلبية الحركة بخلاف ما تتمتع به هذه التيارات، فهم دائماً يكرسون لتنظير الفكرة دون تطبيقها وظاهرة التنديد هي الأقرب لأذهانهم عن محاولة الولوج داخل عقول التيارات الدينية المتسامحة والمتشددة.

والنقطة الأبرز حضوراً في حراك المشهد السياسي أن التيارات الدينية بدأت تحتفي بانتصارها حينما يخفق الوطن أو تعتريه بعض الأزمات مثل أزمة سد النهضة أو تعثر عبور السفينة الشهيرة بمجرى قناة السويس أو مشكلات وزير التعليم طارق شوقي المستدامة مع الطالب المصري، وهذا يدل على تمتع هذه الجماعات بوجود فكر مخطط مرحلي يحتاج أولا إلى تطبيق التحليل النفسي لسيجموند فرويد لرصد المشكلات النفسية المزمنة لديها ثم تحليل وتأويل هذه الكراهية التي تتصاعد وقت كل مشكلة طارئة.

والوطن برمته لا يخشى التصاعد الإسلامي، لأننا بالفعل في حالة مد ديني إما في توجهنا الجوهري الذي لا يعلمه سوى الله بعيداً عن المظاهر الدينية الخارجية من جلباب ولحية ونقاب ومسبحة وتشدق بألفاظ فصيحة لا تعرفها العامة، أو من خلال هذا المد الظاهري المتمثل في قنوات فضائية وسرادقات وظهور تيارات شعبوية جماهيرية. إنما الخشية لله أولاً، ولكن الحذر يكون في من يتحدث باسم الله، وما مقوماته وإمكاناته في منح صكوك التوبة والغفران، ومن يصدر أحكام الحسبة والتفريق ثم التكفير وأخيراً إباحة الدم والنفس.

وحينما انخرطت التيارات السلفية والجماعات الإسلامية في العمل السياسي والحزبي والمجتمعي أيضاً بصورة سرطانية، لا من حيث المعنى المرضي، بل من حيث التورم والانتشار السريع في جسد هذه الأمة التي لاشك تعيش طقساً فريداً في تاريخها السياسي بات الإبداع والابتكار بل والتجديد الديني من المحرمات المغضوب عليها وعلى أصحابها أيضا. وفكرة ظهور تيارات دينية متعددة أمر محمود حيث إن التاريخ الإسلامي حفظ في سجلاته التي صاغها مؤرخو السلطة تارة و مفكروها تارة أخرى وجود تعدد مذهبي وطائفي لاسيما في فترة الخلافة العباسية وما تلتها من عهود وعصور. لكن الذي يستدعي الغرابة في المشهد السياسي والمجتمعي أن تلك التيارات التي تستقي مصادرها من السطور المتطرفة والنصوص التراثية عديمة التحقيق والتوثيق والمرتبطة بزمانها ومكانها والتي خطها بشر أوائل ليست عن طريق الوحي  تصر على أسلمة البلاد ، والغرابة ليست في السعي إلى إشاعة الإسلام الحنيف بسماحته وصلاحيته المطلقة لكل زمان ومكان ، ولكن تكمن الغرابة في فكرة الأسلمة نفسها، وكأن البلاد المصرية تعيش وثنية حديثة ، وأن شعبها الذي لا يزال يردد الله أكبر خمس مرات في اليوم والليلة يقدم القرابين لبعل وسواع وغيرهما من الرموز الصنمية التي كانت تعبد في جاهلية ما قبل الإسلام.

الأشد غرابة في أن بعض التيارات المنتسبة للإسلام السياسي تسير على نفس خطى الحزب الوطني المنحل ، لا في اختراع لجنة للسياسات ولكن في التشبه بوجود كوادر حزبية كما كان هذا المسمى موجوداً في المنحل ولكن عن طريق استبدالها بكلمة قيادي ، فإذا فتحت تلفازاً أو قرأت منشوراً لم يعد سرياً كما كان أو طالعت خبراً بالصحف فستجد مئات القياديين البارزين ، وهذا يشبه ما اعتدنا على سماعه داخل حركتي فتح وحماس من وجود قياديين فقط.

الأمر الثاني الذي يدعو للتأمل في تشابه الطرفين الوطني المنحل والجماعات الإسلامية أن كليهما بدأ في تقديم نفسه للمجتمع عن طريق دحض التهم والافتراءات والحجج المدحضة لأفكارها. وأن وجودهم ضرورة ملحة في المجتمع ، وهذا يدعونا للتفكير في الإجابة عن سؤال ملح: هل عقود مبارك السلطوية كانت تمثل فساداً سياسياً واقتصادياً مطلقاً؟ أم أنها أيضاً كانت خير شاهد على ضلال الشعب وفساد هويته الدينية أيضاً؟. فالذين يدعون اليوم أن وجودهم أصبح مطلباً شعبياً وأن دعواتهم التي لا تهدأ لنشر الفضيلة يؤكدان على أننا كنا نحيا عهوداً ظلامية وهرطقة ووثنية وأن المؤسسات الدينية المتمثلة في الأزهر العريق ووزارة الأوقاف كانت غائبة عن المشهد الديني طيلة ثلاثة عقود.

إن إصرار تلك التيارات التي بزغت فجأة مستثمرة حالة التعددية التي أفرزتها انتفاضة يناير 2011 في مصر تحديدا على التواجد واقتناص المنصة وحدها من خلال الحديث عن هداية المجتمع ورعاية الفقراء ومحاربة الفجور والاهتمام بالأرامل والاعتناء بتأهيل الشباب وعمل قوافل طبية وتشغيل المصانع وتحقيق العدالة الاجتماعية لهو مفخرة للإسلام إذا كان القصد كذلك، لكن إذا سيس الأمر وباتت أهداف تلك الجماعات إلى الانفراد المطلق بالحاكمية والسلطة دون شريك يفرض وجوده بالشورى والمشاركة لهو أمر مرفوض تماماً.

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق التدريس(م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا

________________

**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة