1
المُجتمعُ الحقيقيُّ لا يُؤَسِّس سُلطةً معرفية من أجل تَغييب العقول، والتلاعبِ بالمشاعر، واحتكارِ الوَعْي، وإنَّما يُؤَسِّسها بهدف تحريرِ التفكير من التقليد الأعمى، وصناعةِ طبيعة لغوية رمزية قادرة على حمل الأشواق الروحية والنزعات المادية. وكُل سُلطة معرفية فاعلة في ذاتها، وفَعَّالة للعناصر المُحيطة بها، لا بُد أن تتجذَّر في اللغة دَلالةً منطقية، ثُمَّ تترسَّخ في السُّلوك تجربةً عقلانية، ثُمَّ تتكرَّس في الواقع مُمَارَسَةً اجتماعية. وهذه الأطوار الثلاثة تُعيد تعريفَ المجتمع اعتمادًا على التوازن بين الدَّور الوظيفي ( التطبيق العَمَلي ) والغاية المنشودة ( الحُلْم الجَمْعي ). وتأصيلُ السُّلطة المعرفية في أعماق الواقع المُعاش، يَكشف الثغراتِ في النظام الشُّعوري للإنسان، ويُحدِّد الفجواتِ في علاقة المعرفة بالزمان والمكان. وهذا يُوضِّح أهميةَ السُّلطة المعرفية باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً ونظامًا اجتماعيًّا قادرًا على كشف العُيوب بُغية تصحيحها. وكُل فِكْر إنساني يَمتلك حركةً تصحيحية ذاتية نابعة مِن كِيانه، وغَير مفروضة عليه من العناصر الخارجية، يُمثِّل فِكْرًا إبداعيًّا مُتحرِّرًا من الأوهام والضغوطات والمُسلَّمات الافتراضية، والمنظومةُ الفكرية الحُرَّة قادرة على تحرير العلاقاتِ الاجتماعية بين البشر، والعلاقاتِ المادية بين عناصر البيئة ومُكوِّنات الطبيعة. وحريةُ الكِيان ( البُنية القائمة بذاتها والمَوجودة في مجالها الحيوي ) شَرْط لتحرير الكَينونة ( الوجود المُشتمل على الشعور والتفكير والعمل ). ووَحْدَها الذات الحُرَّة قادرة على تحرير غَيْرها.
2
العلاقةُ بين السُّلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية تُحدِّد طبيعةَ الظواهر الثقافية، وتُكوِّن الدَّلالاتِ اللغوية الخاصَّة بسياقات المجتمع، وتبني أُسُسَ تأويل السلوك الإنساني، مِمَّا يَدفع باتجاه تطويرِ الفكر المعرفي، وربطِ البُنية العميقة في الفِعل الاجتماعي بالبُنية السطحية، وهذا يَمنع الصِّدامَ بين الذات والموضوع، ويُلغي احتماليةَ ظُهورَ التناقض والتعارض بين الشُّعور وامتداده في حَيِّز الزمان والمكان، ويَحفظ جوهرَ المعنى الوجودي من التَّشَظِّي بسبب ضَغط الأطراف على المركز. والإشكاليةُ الخطيرة التي تُواجِه مسارَ العلاقات بين الإنسان ومعاني الأشياء هي مُحاولة سيطرة الهامش على المَتْن، وهذا يستلزم اختراع صِرَاع بين اللفظ اللغوي والمعنى الاجتماعي، مِمَّا يُفْقِد اللغةَ طاقتها الرمزيةَ، ويُحوِّل العلاقاتِ بين البشر إلى تراكمات فوضوية في مجتمع الشظايا. لذلك، يجب إبعاد مفاهيم الصِّراع والصِّدام والفوضى عن الإنسان والمجتمع، لأن هذه المفاهيم تمنعَ عمليةَ البناء الاجتماعي على قاعدة إنسانية صُلبة، وكُل بناء لا يتأسَّس على قاعدة صُلبة، سينهار عاجلًا أَمْ آجِلًا.
3
قُوَّةُ التفاعل الاجتماعي تنبع مِن الأفكار المُنضبطة بالوَعْي، التي تَصنع مِن البُنى الشعورية الإنسانية منظومةً أخلاقية عَصِيَّة على التَّمَزُّق والتَّشَظِّي. وصياغةُ مفاهيم أخلاقية مُتماسكة ضِمن الإطار الاجتماعي العقلاني، تُمثِّل الضَّمانةَ الأكيدة لمنع تحوُّل السُّلطة المعرفية إلى ماهيَّة احتكارية، تُجرِّد الإنسانَ مِن إنسانيته، من أجل السيطرة عليه، والتَّحَكُّم بمساره، والهَيمنة على مصيره. ولن يتقدَّم المجتمعُ الإنساني إلا إذا تحوَّلت المعرفة الاجتماعية إلى لُغة رمزية تقتل الوَحْشَ داخل الإنسان بُغية إحيائه، ولا تَقتل الإنسانَ بُغية إحياء النَّزعة الاستهلاكية على أنقاضه.
_____
*إبراهيم أبو عواد