ملخص
تم اقتراح نظرية الاستعارة المعاصرة من قبل جورج لايكوف ومارك جونسن عام 1980 في كتابهما “الاستعارات التي نحيا بها”، وقد تم تطويرها في عدد من الدراسات اللاحقة. فكانت هذه النظرية واحدة من أقدم الركائز النظرية التي تم تحديدها على أنها جزء من مشروع اللسانيات المعرفية. انطلقت هذه النظرية من فرضية أساسية مفادها أنَّ الاستعارة ليست مجرد سمة أسلوبية للغة، بل هي مسألة تصورية متأصلة في طبيعة تفاعلنا اليومي مع العالم. فهي لا تحتل لغتنا فحسب، بل نسقنا التصوري بأكمله.
كلمات مفتاحية: الاستعارة، النظرية الكلاسيكية، النظرية المعاصرة، جورج لايكوف ومارك جونسن.
مقدمة
أبانت الدراسات المعاصرة أنَّ الاستعارة مسألة تصورية، ولا يمكن الاستغناء عنها في شتى مجالات الفكر الإنساني: البلاغة واللسانيات والفلسفة وعلم النفس والعلوم الفيزيائية وعلم الأحياء والفن والاقتصاد والسياسة…([1]) وقد ظهرت هذه الرؤية الجديدة للاستعارة مع عمل جورج لايكوف ومارك جونسن سنة 1980 من خلال كتابهما الرائد “الاستعارات التي نحيا بها”، وهي دراسة أبانت بشكل واضح أنَّ الاستعارات جزء لا يتجزأ من اللغة والفكر اليومي. وقد عبرا عن ذلك بقولهما: ” إنَّ فهمنا للاستعارة يذهب ضد التقليد. فنحن نرى الاستعارة ضرورية للفهم البشري، ونحسبها آلية لتوليد معاني جديدة وحقائق جديدة في حياتنا. وهذا يجعلنا في خلاف مع معظم التقليد الفلسفي الغربي، الذي رأى الاستعارة عاملا من عوامل الذاتية، وبالتالي حسبها ذات أثر هدام في البحث عن الحقيقة المطلقة”([2]).
يشير عمل لايكوف وجونسن، وكذلك التطورات اللاحقة إلى أن النظام التصوري البشري استعاري بشكل كبير بطبيعته، كما أننا نوظف الاستعارات بشكل عفوي وبسهولة في تواصلنا اليومي، وفي مجالات مختلفة. الشيء الذي يتطلب اقتراح نظرية جديدة تتبنى التصور التجريبي في قيام المعنى وفهمه لدى البشر، وترتكز على أمرين: دور الإنسان في تحديد التصورات الدالة، وقدرة الخيال البشري على خلق تصورات دالة. وهذا ما عبر عنه مارك جونسن بقوله: “بدون خيال، لا شيء في العالم يمكن أن يكون ذا معنى. بدون خيال، لا يمكننا أبدًا فهم تجاربنا. بدون خيال، لا يمكننا أبدًا التفكير في معرفة الواقع”([3]). وهي نظرية تجافي النظرية الكلاسيكية للاستعارة في مواطن متعددة سنعرض لها في هذا العمل. لكن قبل الخوض في الأسس المعاصرة التي انبنت عليها الاستعارة لدى لايكوف وجونسن، ارتأينا مقاربة موقفهما من الرؤية الكلاسيكية للاستعارة أولا.
أولا: موقف لايكوف وجونسن من النظرية الكلاسيكية للاستعارة
يمكن تلخيص نظرية الاستعارة الكلاسيكية من وجهيتين نظريتين: نظرية المقارنة والاستبدال من جهة، والنظرية التفاعلية من جهة ثانية. تَبنَّى نظرية المقارنة أرسطو، حين اعتبر الاستعارة مقارنة ضمنية بين التعبير المجازي والصياغة الحرفية القائمة بالأساس على التجانس أو التشابه. أما النظرية التفاعلية فقد تبناها ماكس بلاك، حين ميز بين الكلمة الاستعارية التي أطلق عليها اسم البؤرة focus، وباقي الجملة التي أطلق عليها اسم الإطار frame، فتفتقد البؤرة بعض خصائصها وتضاف إليها خصائص أخرى، بفعل تفاعلها مع الإطار الذي لا يسلم بدوره من عملية الفقد والإضافة([4]).
الجامع المشترك بين النظريتين هو اعتبار الاستعارة ظاهرة لغوية، وشكلا تعبيريا يُقارن فيه بين طرفين لوجود علاقة مشابهة بينهما، كأن نقول مثلا: “كان زيدٌ أسدًا في القتال”، فزيد يشبه الأسد في إحدى صفاته التي هي الشجاعة. أو ربما تمت استعارة كلمة “أسد” مجازًا لإعجابنا بصنيع زيد في ساحة القتال، تحقيقا للتأثير. وهذا هو الفهم الأكثر شيوعا لكلمة استعارة.
وفي الواقع، إنّ هذا رأي يتقاسمه الكثير من الناس، أي التصور الأعم للاستعارة، في الحلقات البحثية وفي التمثُّل العام كليهما (وهذا لا يعني أنه هو الرأي الوحيد حول الاستعارة). يمكن أن يتم باقتضاب تمييز هذا المفهوم التقليدي بإبراز وجوهه الخمسة التي لقيت القبول أكثر من غيرها. فالأول، أن الاستعارة خاصة بالكلمات، إنها ظاهرة لغوية. فالاستعمال المجازي للأسد سمة للتعبير اللغوي( الخاص بكلمة أسد). والثانيّ، استعملت الاستعارة لأغراض جمالية أو بلاغية، ومثل ذلك ما كتب شكسبير: ”العالم كله خشبة مسرح”. والثالث، تقوم الاستعارة على التشابه بين كيانين تتم مقارنتهما ببعض وإحداث التطابق بينهما. ينبغي أن يشارك زيد الأسود في بعض الوجوه حتى يتسنى لنا استعمال كلمة أسد مجازًا بالنسبة إلى زيد. الرابع، الاستعارة استعمال واع وحرّ للكلمات ويجب أن تكون لك موهبة خاصة حتى تستطيع فعل ذلك على نحو جيد. وحدهم الشعراء العظام أو الخطباء الفصحاء، مثل، شكسبير وتشرشل، يمكن أن يكونوا سادة الاستعارة. وعلى سيبل المثال، أفاد أرسطو في هذا الصدد بهذا القول ” إن أعظم شيء بإطلاق لهو أن يجيد المرء الاستعارة، فهذا وحده ما لا يمكن أن يتم تقاسمه مع أيّ أحد آخر، إنّه علامة على العبقرية”([5]). والخامس، أنه صار معتمدا الآن على نطاق واسع أنّ الاستعارة محسن كلامي يمكننا أن نؤدي فعل التكلم من دونه، فنحن نستعمله لمؤثرات خاصة، وهي ليست جزءا محتومًا من التواصل البشريّ اليوميّ، ولا جزءا من التفكير والاستدلال البشريين اليوميين([6]).
ومن بين الأمور التي انتقدها جورج لايكوف ومارك جونسن في النظرية الكلاسيكية هي محدودية البنية اللغوية وجمودها، في سياق اعتراضهما على النزعة الموضوعية الموروثة عند أرسطو، إذ تعد «المعاني والتعابير اللغوية، في اللسانيات والفلسفة ذاتي النزعة الموضوعية، أشياء موجودة على نحو مستقل»([7]). وبحسب النزعة الموضوعية تكون الأشياء اللغوية مستقلة عن الكيفية التي يفهمها بها الناس. وبما أنها أشياء فإنه بالإمكان دراستها في استقلال عن أي معنى أو أي فهم بشري. وإنَّ رؤية مثل هذه تنشئ نظرية في التواصل تناسب قناة الاستعارة تناسبا تاما:
- المعاني أشياء.
- التعابير اللغوية أشياء.
- للتعابير اللغوية معان في ذاتها.
فالمتكلم خلال التواصل، حسب لايكوف وجونسن، يوجّه معنى ثابتا إلى السامع بواسطة التعابير اللغوية المتعلقة بذلك المعنى. وبحسب هذا التصور، فإنه بالإمكان موضوعيا، أن نقول ما نعنيه فعلا، وتكون الإخفاقات في التواصل عبارة عن أخطاء ذاتية. وبما أن المعاني تمثلها موضوعياً الكلمات، فإن هذه الأخطاء لا يمكن أن تأتي إلا من مصدرين: إما الفهم الخطأ وإما عدم توظيف الكلمات المناسبة للتعبير عن الغرض([8]).
وهذه أهم الطروح الموضحة لمحدودية النزعة الموضوعية في تفسيرها للعلاقة بين اللغة والعالم([9]):
- ارتباط الصدق بمطابقة الألفاظ للعالم.
- ارتكاز نظرية المعنى في اللغات الطبيعية على نظرية الصّدق، وهذه النظرية مستقلة عن الطريقة التي يفهم بها الناس اللغة ويستعملونها بها.
- موضوعية المعنى وتجرّده واستقلاليته عن الفهم البشري.
- الجمل موضوعات (أشياء) مجردة لها بنيات ملازمة لها.
- إمكانية الحصول على معنى جملة ما انطلاقا من معاني أجزائها وبنيتها.
- التواصل نقلُ متكلم لرسالة حاملة لمعنى ثابت إلى مستمع.
- إن كيفية فهم أحدهم لجملة ما، وما تعنيه هذه الجملة عنده، أمران ناتجان عن معنى الجملة الموضوعي، وعما يعتقده ذلك الفرد في العالم والسياق الذي قيلت فيه الجملة.
يكون العالم وفق هذه المعطيات ثابتاً، وتكون دلالات الأشياء فيه ثابتة، مما يؤثر في وضع الاستعارة التي “لا تحظى داخل التقليد الموضوعي إلا باهتمام ثانوي في أحسن الأحوال. وقد تم استبعادها كليًّا من الدراسة الدلالية (المعنى الموضوعي)، حيث تم النظر إليها صالحة على نحو هامشي فقط في كل فهم للحقيقة”([10]). إذ لا يمكن القول بوجود معان استعارية في الطرح الموضوعي، حسب لايكوف وجونسن، لأن المعاني في هذا الطرح موضوعية وتوافق شروط الصّدق الموضوعي التي لا تزوّدنا بوسائل نصوّر بها شيئا من خلال شيء آخر، وبذلك لا يمكن للمعاني الموضوعية أن تكون استعارية، وبما أن الاستعارة لا يمكن أن تكون مسألة تخص المعنى، فإنها مسألة تخص اللغة فقط (أي الألفاظ). واعتبار الاستعارة مسألة لغوية أمر يرفضه لايكوف وجونسن، إذ يَرَيَانِ في الاستعارة أداة تصورية لا ترتبط باللغة فقط بل بالنسق التصوري الذي يُعد استعاريا في مجمله. وهذا ما عبرَا عنه بقولهما: «وقد وجدنا إلى حدود الآن أن الاستعارة لم تكتسح لغتنا فحسب، بل نظامنا التصوري كذلك. وقد بدا لنا أنه من غير الممكن تصور أن لا تكون أي ظاهرة أساسية جدا لنظامنا التصوري غير مركزية في فهمنا للحقيقة والمعنى»([11]).
ثانيا: الرؤية المعاصرة للاستعارة لدى لايكوف وجونسن
تجاوز لايكوف وجونسن طرح النزعة الموضوعية إلى طرح تجريبي يؤمن بفعالية التجربة في بناء المعنى وانبثاق الفهم، فتكون معه الاستعارة أداة جوهرية في حصول الفهم البشري، كما تشكل أداة لخلق دلالات وحقائق جديدة في حياتنا. أي أنَّ بنية اللغة الاستعارية بنية منفتحة على تحولات العالم وسيروراته، مما يؤكد أن العلاقة بين اللغة والعالم علاقة تصورية، تؤدي فيها الاستعارة دور الوسيط بين الأشياء ومسمياتها. أو هي بالأحرى علاقة استعارية تحكمها البنيات التصورية للفرد وتأويله للعالم الخارجي، حسب معتقداته الثقافية والفردية والبيئية التي يمارسها.
ولمناقشة ذلك انطلق جورج لايكوف من مجموعة من الافتراضات الكلاسيكية التي يعتبرها خاطئة على الشكل الآتي([12]):
- كل اللغات التقليدية اليومية هي لغة حرفية، وليس أي منها مجازي.
- يمكن فهم جميع الموضوعات حرفيًا، دون استعارة.
- اللغة الحرفية فقط يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة.
- جميع التعاريف الواردة في معجم اللغة حرفية وليست مجازية.
- المفاهيم المستخدمة في قواعد اللغة كلها حرفية. لا شيء مجازي.
إن الاختلاف الكبير بين النظرية المعاصرة والرؤى الخاصة بالاستعارة التي تقدمت عمل ريدي Reddy قائم- حسب لايكوف_ في هذا العدد من الافتراضات. ومردُّ ذلك إلى اكتشاف زخم هائل من الاستعارات في حياتنا اليومية، وقد عبر لا يكوف عن ذلك بقوله: “وسبب الاختلاف هو أنه، في غضون السنوات الفاصلة، قد تم اكتشاف نسق هائل من الاستعارات اليومية، والاصطلاحية والنظرية. إنه نظام الاستعارة الذي يُبَنيِنُ النظام المفهومي الخاص بحياتنا اليومية، بما في ذلك أكثر المفاهيم إغراقا في التجريد، و يقف هذا وراء قسم وافر من اللغة اليومية”([13]). وقد أدى اكتشاف نظام الاستعارة الهائل هذا إلى هدم التمييز التقليدي بين الحرفي_المجازي. ومنذ ذلك الحين انتهى الحال بلفظ حرفي، كما تم استعماله في رسم معالم التمييز القديم، إلى أن حمل معه كل هذه الافتراضات الخاطئة.
يقوم الاختلاف بين النظرية المعاصرة والكلاسيكية في ذلك التمييز القديم بين الحرفي_المجازي. وبالنظر إلى هذا التمييز، يقول لا يكوف: ” قد يظن الواحد منا أن بمقدوره بلوغ التأويل المجازي لعبارة ما من خلال البدء بالمعنى الحرفي وتطبيق سيرورة من الحلول الحسابية عليها (انظر سورل). على أنه قد وجدت حالات حدث فيها مثل ذلك بالفعل، وما هكذا تعمل الاستعارة عموما”([14]).
وبرجوعنا إلى جون سورل J.R.Searle نجده يرفض الفكرة القائلة بازدواج المعنى داخل الجملة، وذلك في التمييز بين المعنى الحرفي والمعنى الاستعاري، فهو ينظر إلى القضية من وجهة أخرى مفادها أن الجملة تمتلك معناها فقط، وعندما نتحدث عن معنى استعاري فإننا نتحدث عن المقصديات الممكنة للمتكلم، وعن إرادته في قول شيء ما بطريقة ينزاح فيها عما تعنيه العبارة في ذاتها. لهذا فإن مشكلة الاستعارة عنده مشكلة لغوية عامة، هي تفسير الكيفية التي ينعزل بها المتكلم عن معنى الجملة، فما يريد قوله لا يطابق ما تريد أن تقوله الجملة، وقد عبر عن ذلك بقوله: ” قد يختلف معنى الكلام عن المعنى الحرفي للجملة، فعلى سبيل المثال في نطق (أ) في جملة فربما يعني المتكلم شيئا مختلفا عما تعنيه الجملة، كما هو الشأن في الاستعارة، أو قد يعني عكس ما تعنيه الجملة، كما في حالة السخرية، أو ربما يقصد ما تعنيه الجملة لكنها تعني شيئًا أكثر مما تقول، كما هو الشأن في حالة المضمرات الحوارية وأفعال الكلام غير المباشرة”([15]). وقد استدل على ذلك بمثال “القطة على الحصيرة”، فبيَّن أنَّ الجملة قد تكون على حقيقتها، كما يمكن لها أن تعني شيئًا آخر كالسخرية على سبيل المجاز. الشيء الذي جعل سورل يميز بين معنيين: معنى تلفظ المتكلم، ومعنى الجملة.
بناء على تصور سورل searle، فإن تأسيس نظرية للاستعارة يتطلب تحديد المبادئ التي تصل المعنى الحرفي للجملة بالمعنى الاستعاري للتلفظ، وهي مبادئ لا تتعلق بالقدرة الدلالية بالمعنى التقليدي للمصطلح، بل بالسؤال الخاص باشتغال الاستعارة داخل الخطاب وكيفية تمثُّل الدلالة، حيث يكون في حالة التلفظ الحرفي معنى المتكلم ومعنى الجملة متطابقين، لكن في حالة التلفظ الاستعاري فإن شروط صدق القول لا تكون محددة بواسطة شروط صدق الجملة وحدِّها العام، فمن أجل فهم التلفظ الاستعاري، فإن المستمع في حاجة إلى أكثر من معرفة اللغة، أي أن يقوم بتهيئة مبادئ أخرى، يفهم من خلالها أن المتكلم حين يريد أن يقول شيئاً فإنه يريد شيئا آخر. فقد يوظف شخص واحد عبارة “أنا جائع” ،على سبيل المثال، في مناسبتين مختلفتين، لكن الأولى قد تكون على سبيل الحقيقة، وقد تكون الثانية على سبيل المجاز([16]). أو بتعبير آخر ينتقل الكلام من نطاق حرفي وقضوي مباشر إلى معنى حواري استلزامي غير مباشر، يتحكم فيه السياق التداولي.
إن مشكلة الاستعارة، من وجهة نظر التداولية عمومًا، لا تكمن في كون الجملة تحتمل معنيين اثنين، بل في العلاقات الموجودة بين معنى الجملة الحرفي ودلالات القول. بَيَّن سورل ذلك من خلال تحليله لبعض العبارات، معتبرًا أن المتكلم يتواصل بشكل أكثر مما يُفصِح عنه المحتوى الظاهر للملفوظ، والمثال الذي تناوله سورل في كتابه (المعنى والعبارة) هو: “هل تستطيع أن تناولني الملح؟” وهو ملفوظ لا يطرح به المتكلم استفهاما حول مقدرة المخاطب تقديم الملح له، بقدر ما يدعوه إلى تمكينه منه. وهو عمل لا قولي منجز بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال إنجاز عمل لا قولي آخر([17]). وهو الشيء الذي يجعل الاستعارة لدى سورل لا تتعلق بمعنى الجملة بل بمقصد المتكلم.
وعلى هذا الأساس فإن المتلقي، إلى جانب معرفته باللغة، بحاجة إلى أدوات أخرى، يفهم من خلالها أن المتكلم حين يتلفظ بشيء فهو يريد شيئا آخر، يرتبط بوضعية الخطاب ومقامه. وهذا ما عبرت عنه أوركيوني Orecchéoni، بصدد حديثها عن المضمر، بقولها:«القول المضمر هو مجموع المعلومات التي يمكن للخطاب أن يحتويها، لكن تحقيقها في الواقع يبقى رهن خصوصيات سياق الحديث»([18]). أي أنَّ المعنى المضمر يكون وليد السياق الكلامي.
تحدّى لايكوف وجونسن الرؤية التقليدية للاستعارة بالطروح الآتية([19]):
- الاستعارة خاصة للتصورات وليس للكلمات.
- وظيفة الاستعارة هي فهم أفضل لبعض التصورات، وليس فقط لأغراض جمالية فنية.
- الاستعارة لا تقوم فقط على المشابهة.
- توظيف الاستعارة ليس حكراً على الموهوبين فقط، بل يوظفها الناس العاديون أيضا.
- الاستعارة عملية حتمية للتفكير والتعقل البشريين.
وعلى هذا الأساس تتحدد طبيعة الاستعارة لدى جورج لايكوف وفق الرؤية الجديدة فيما يأتي([20]):
- الاستعارة هي الأداة الأساسية التي نستوعب من خلالها التصورات المجردة، ونؤدي التفكير المجرد.
- موضوعات كثيرة، من أبسطها إلى أكثرها غموضًا النظريات العلمية، يمكن فهمها عن طريق الاستعارة.
- الاستعارة في جوهرها تصورية، وليست لغوية بطبيعتها.
- اللغة الاستعارية مظهر سطحي للاستعارة التصورية.
- تتيح لنا الاستعارة فهم موضوع مجرد نسبيا، أو غير مُبنْين بصفة ملازمة من خلال موضوع ملموس أكثر، أو أعلى أو أقل بَنينة.
- تتيح لنا الاستعارة أن نفهم موضوع قضية ما يكون مجردا نسبيا، أو غير منتظم في ذاته بألفاظ موضوع قضية أقرب إلى الواقع أو في الأخير متقنة الترتيب.
كانت هذه بعض مرتكزات النظرية المعاصرة للاستعارة، والتي واجه بها لايكوف وجونسن الرؤية الكلاسيكية التي جعلت من الاستعارة مسألة لغوية وليست فكرية. بدت هذه الرؤية التقليدية ناقصة بحسب النظرية المعرفية للاستعارة، وصار من الضروري تجاوزها، لأن الاستعارة تتعلق، وفق الرؤية المعرفية المعاصرة، بالفكر أكثر من تعلقها باللغة. إنها تتعلق بكيفية تصور الكائن البشري لما يحيط به. ومن ثمة فإن مجال اشتغالها هو المستوى الذهني.
وفي دراسة بالغة الأهمية منشورة سنة 1990 دافع جورج لايكوف، وهو أحد الوجوه الرائدة في اللسانيات المعرفية، عن فكرة أنَّ مشروع اللسانيات المعرفية يتميز بمفتاحي التزام، وهما: التزام التعميم، وهو التزام يخص تحديد طابع المبادئ العامة المسؤولة عن جوانب اللغة البشرية جميعها، ثم الالتزام المعرفي: وهو التزام يتعلق بتوفير تحديد لطابع المبادئ العامة للغة التي تتفق مع ما هو معلوم عن الذهن والدماغ في فروع معرفية أخرى([21]).
خاتمة
نخلص في الأخير إلى أن الرؤية المعاصرة لدى لايكوف وجونسن تَعتبِر الاستعارةَ آلية جوهرية في فهم تجاربنا، وفي خلق معاني جديدة، وفي رسم حقائق جديدة. أي أننا لا ندرك العالم ونمارس تجربته إلا عبر الاستعارات، وهذا الطرح يتنافى مع التصور ذي النزعة الموضوعية، الذي يرى أنَّ للاستعارة قيمة هامشية في رصد المعنى والصدق، وأنَّ دورها في الفهم يبقى هامشيا.
إن مقاربة الاستعارة من وجهة نظر معاصرة جعلها تسترد مكانتها في الدراسة الدلالية ضمن المشروع المعرفي، بعدما استبعدتها النظرية الكلاسيكية التي تعاملت معها انطلاقا من مرتكزات وقواعد جاهزة. وهذا ما يجعل نظرية اللسانيات المعرفية تختلف عن النظريات المعيار، إذ تعتمد على الفكر البشري في خلق تصورات جديدة.
كثيرة هي الدراسات التي حاولت مقاربة الاستعارة من وجهة نظر معرفية، فهي تنمو بقدر اتساع نطاق البحث في هذا المجال. والأدلة التي تدعم هذه النظرية صادرة عن خمسة حقول: التعميمات على تعدد المعاني والدلالات، والتعميمات على نماذج الاستنتاج، و التعميمات على التغيّر الدلاليّ، إلى جانب التجارب اللغوية النفسية. إلا أنَّ معظم هذه الدراسات ما هي إلا محاولات للانتقال من الاستعارة اللغوية إلى الاستعارة التصورية بطريقة أو بأخرى، لكنها لم توفق في القيام بذلك بالطريقة المثلى، بسبب عدم وجود نظرية تصورية مطورة للاستعارة. فقد اهتم اللسانيون المعرفيون وبذلوا قصارى جهدهم في محاولة إظهار أن الاستعارة اللغوية تصورية بالأساس، لكنهم بذلك قد أهملوا طريقة إظهار كيفية انتقالهم من الاستعارة اللغوية إلى الاستعارة التصورية في المقام الأول. وينطبق هذا الحكم على دراسات (Cohen & Margalith, 1972; Van Dijk, 1975; Reinhart, 1976; Cohen 1993; Miller 1993). وحان الوقت للعودة إلى هذه القضايا، وقراءتها قراءة نقدية من أجل وضع نظرية للاستعارة التصورية على أساس لغوي أقوى، ومحاولة إعادة بناء كيفية الانتقال من الاستعارة اللغوية إلى الاستعارة التصورية. وهو موضوع المقال المقبل في دراسة مستقلة.
قائمة المراجع
- Black, Max. (1993), More about metaphor. In Andrew Ortony (ed.).
- Evans Vyvyan and Melanie Green. (2006), cognitive linguistics, An Introduction, Edinburgh University Press Ltd.
- Johnson, Mark. (1987), The Body in the Mind, The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason, University of Chicago Press, Chicago.
- Johnson, Mark, (1995), Introduction: Why metaphor matters to philosophy. Metaphor and Symbolic Activity.
- Kövecses, Zoltán. (2002). Metaphor: A Practical Introduction, Oxford University Press.
- Kovecses, Zoltan (2010), Metaphor A Pratical Intraduction, second Edition, Oxford University Press.
- Lakoff, George. (1992). The Contemporary Theory Of Metaphor, To Appear in Ortony, Andrew (ed.) Metaphor and Thought (2nd edition), Cambridge University Press.
- Lakoff, George, (1993), The contemporary theory of metaphor. In Andrew Ortony (ed).
- Lakoff George and Johnson Mark. (1980), Metaphors we Live By, Chicago, University of Chicago Press.
- Orecchéoni, Catherine Kerbrat. (1986). L’implicite, Paris, Armand Colin.
- Searle, John. R. (1979). Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts, Cambridge University Press.
[1]– George Lakoff, A figure of thought. Metaphor and symbolic Activity, P. 215-225. And Mark, Johnson, Introduction: Why metaphor matters to philosophy. Metaphor and Symbolic Activity, (1995), P. 158.
[2]– Lakoff George and Johnson Mark, Metaphors we Live By, Chicago, University of Chicago Press. (1980), P. 196.
[3] – Mark Johnson, The Body in the Mind, The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason, Chicago, University of Chicago Press, (1987), P.7.
[4]– Max, Black, More about metaphor. In Andrew Ortony (ed), (1993), P. 27.
[5]– Zoltan Kovecses, Metaphor A Pratical Intraduction, Oxford University Press, (2010), second Edition, P. 10-11.
[6]– Ibid, P. 10-11.
[7]– George Lakoff and Mark Johnson, Metaphors we Live By, P. 206.
[8]– Ibid, P. 206.
[9]– Ibid, P. 196.
[10]– George Lakoff and Mark Johnson, Metaphors we Live By, P. 210.
[11]– Ibid, P. 211.
[12] – George Lakoff, The Contemporary Theory Of Metaphor, To Appear in Ortony, Andrew (ed.) Metaphor and Thought (2nd edition), Cambridge University Press, (1992), P.2.
[13] – George Lakoff, The Contemporary Theory Of Metaphor, P.3.
[14]– Ibid, P.3.
[15] – John.R.Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts, Cambridge University Press, (1979), P.118.
[16] – Ibid, P.118.
[17]– Ibid, P.171.
[18]– Catherine Kerbrat- Orecchéoni, L’implicite, Paris, Armand Colin, (1986), P.39.
[19] – Zoltán Kövecses, Metaphor: A Practical Introduction, Oxford University Press, (2002), P.9.
[20] – George Lakoff, The Contemporary Theory of Metaphor, P.39.
[21] -Vyvyan Evans and Melanie Green, cognitive linguistics, An Introduction, Edinburgh University Press Ltd,( 2006), P. 27-28.