*نشرت في الراصد التنويري/ العدد السادس(6)/ خريف 2009.
تنحو المؤسّسات السياسيّة والصحفيّة في الغرب إلى إطلاق تسمية “الإسلام السياسي” على المجموعات السلفيَّة والأصوليّة ودعاة العودة إلى نظام “الخلافة” الإسلاميّة وكذلك أي منتج لأي شكل من أشكال التوفيق بين متطلّبات العصر وممكناته في العمل السياسي وبين ثوابت التراث والتجربة التاريخيّة للمسلمين.
بينما يمكن تفهّم وصف ممارسة سياسيَّة ما وصفًا دينيًّا لغرض التعريف وحسب، فإن الإشكاليَّة تبرز حين يتمّ الخلط بين “السياسيّين المتديّنين” و”سياسيي الأحزاب الإسلاميَّة”.
وتكمن الإشكاليَّة هنا في أنّ الممارسات الخاطئة والسلبيَّة لسياسيي الأحزاب الإسلاميَّة تنعكس على تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهةٍ وبين المكوّن الديني بالغ الأهمّيّة والحساسيَّة في صيرورة الإنسان ومسار الشعوب، ومن جهةٍ أخرى.
بعبارة أخرى، يتمّ حصر “الدين” في زاوية “الصراع على النفوذ ومصادر القوّة” في التجربة الإنسانيَّة، وهو صراع طبيعي يشهده أي اجتماع بشري بدءًا من الأسرة، ويمكن قراءته في ضوء علم الاجتماع الحديث ومقولاته، الخاضع بدوره للمراجعة والتطوير باستمرار.
وهذا الابتسار المخل يقوم به الجانبان، الجانب الذي يوظّف ما للدين من سلطة على الوجدان الفردي والجمعي لتحقيق تفوّق في لعبة الصراع على النفوذ والقوّة، والجانب الذي يحاكم أو يحاول أن يلغي أي دور للمكوّن الديني في حياة الفرد والجماعة بناء على الخلط بين النسبي (التجربة البشريّة) والمطلق (الوحي) ودوره في تشكيل وعي أعلى للإنسان إلى جانب العقل.
كلا الطرحين يساهم في تشويه الوعي وإعاقة العقل، وفي حالة “الأحزاب الإسلاميّة” ثمّة خطل بنيوي يكمن في التعريف، فما يكرّسه “التحزّب السياسي” أساسًا هو الاجتماع على رؤية وأسلوب في العمل السياسي محدّد ومتعيّن لا يشمل بأي حال “الناس كافة” ولا يمكن له ذلك، لأنّه نتاج اجتهاد بشري نسبي وغير مطلق، فضلًا عن كونه محكومًا بعاملي الزمان والمكان، بينما تحيل كلمة “الإسلامي” إلى العلاقة مع الدين أو الديانة بشكلٍ عام. وقد يكون مفهومًا مثلا أن تتمّ الإحالة إلى الانتماء الثقافي أو الجغرافي أو حتّى الفكري لدى الأحزاب كما هو الحال مع “الحزب الشيوعي” على سبيل المثال الذي تظلّله فلسفة معيّنة ورؤية كونيّة ومنظومة قيميّة محدّدة وواضحة تجعل بالإمكان مساءلة تجربته في ضوئها، لكن هذا لا ينطبق على الإحالة إلى “الدين” بحكم وجود عامل “الوحي” الذي يتجاوز الإنساني النسبي إلى الإلهي المطلق ما يخرجه من نطاق التحديد بالزمان والمكان ويجعل من المتعسّر مساءلة تجربته لارتباطها بالمقدّس.
ناهيك عن أنّ علاقة الإنسان بالنصّ المقدّس أو الوحي، شابها الكثير من التشويه وسوء الفهم وتأثّرت بأهواء السلاطين والحكّام وهي بشكلٍ طبيعي تخضع لاجتهادات البشر وأحوال المجتمعات من تقدّمٍ أو تخلّف.
لكن هذا لا يقترح بأي حال، التجاهل الساذج لأثر النصّ المقدّس على تشكيل أنماط التفكير والسلوك عند المؤمنين به بل في الواقع يعيدنا إلى نقطة البدء حيث التفريق بين “المتديّن” بما يعنيه من التزام وممارسة فرديّة لآثار هذه العلاقة مع الوحي (أو حتّى التجربة الدينيّة كاملة) وبين “الإسلاموي” بما يعنيه من انتسابٍ حزبيّ إلى حركةٍ سياسيّة التزمت اجتهادًا إنسانيًّا حول رؤية الدين (في الغالب من وجهة نظر مذهبيَّة/ فئويّة معيّنة) إلى نظم حكم الناس وبناء الدول والمجتمعات.
ربما ما يمكن اقتراحه هنا هو تحرير النصّ المقدّس من اشتراطات الزمان والمكان والقراءات التعسّفيّة الضيّقة، وتحرير العقل الإنساني من اشتراطات الوسطاء في علاقته مع النصّ المقدّس، والالتفات إلى اجتراح صيغ عمليّة لما “ينفع الناس” من أشكالٍ تنظّم علاقاتهم وتضمن مصالحهم تكون خاضعة للأدوات المعرفيَّة والتقنيّة لزمانها ومكانها ويرفدها “النصّ المقدّس” برؤيةٍ كونيَّة ومنظومة قيميّة تحكم الأفراد قبل الجماعة في تعاملهم مع الإنسان وحياته على الأرض.
____
*هاجر القحطاني.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.