يخطئ من يظن بأن الدراما هي فقط مجرد أحد أنماط الفنون الجميلة، بل تتعدى بالضرورة حدود الثقافة البصرية والسمعية التي تم تشكيلها عبر تجسيد الشخصيات وسرد الحكايا والقصص الحقيقية و الافتراضيةالتخييليةإلى مساحات ذهنية قد تبدو مغايرة للقطة العين الأولى، فالدراما بطبيعة الحال والمنطق في صورتها الأكاديمية متمثلة في حركة التعبير الجسدي والصوتي هي في كنهها فلسفة وثقافة من شأنها تكوين وتأهيل وإعداد الفرد لتقبل فكرة أن الجمال لا يمكن إزاحته عن كوكبنا الذي تجتاحه شتى صور القبح.
وكعادة المشهد الدرامي في شهر رمضان الذي نقبل الاعتراف بإيجابية العبادة فيه واقتصارنا على الصوم والصلاة وقراءة القرآن بصورة تصاعدية تجعل طاعاتنا مقبولة عند الله عز وجل ـ هذا المشهد الذي بالضرورة مضطرين أن نتغافل عن الكثير من أعماله التي إما تتسم بالسطحية والسذاجة والتهميش وربما التنمر وإسقاط العقد النفسية على المشاهد العربي والتي تزيد من تفكك أواصر وتماسك الأسر العربية ومن ثم المجتمع بأكمله، أو تلك الأعمال التي لا يمكن توصيفها بالدرامية التي تصر على ضلالها في تجسيد أعمال البلطجة والعنف وتناول شخصيات غير سوية اجتماعيا تعيد أذهاننا إلى عصور الفتوات في مصر القديمة وهي تستمسك في استمرار ضلالها الفني الاجتماعي استخدام واستعمال ألفاظ ولهجات وطريقة نطق بعض الكلمات بصورة تجبر مجامع اللغة العربية بالوطن العربي الكبير أن تقيم دعاوى قضائية ضد المساهمين في تلك الأعمال نتيجة ضياع اللغة العربية الفصيحة من جهة، ومن جهة أخرى تقويض الذائقة الجمالية في المجتمعات العربية الصالحة.
لكن رغم قتامة الصورة الدرامية السابقة إلا أن الدراما تظل أكبر مؤسس للإعلام التربوي بمعنى تربية المواطن على قيم المجتمع الصحيحة التي تجعله مواطنا صالحا يسهم في بنائه ويسعى إلى تطويره بالقدر الذي يجعله ومجتمعه في حالة ارتقاء مستدام، ومن ناحية أخرى لا يمكننا أن نتجاهل ما يمكن أن تسهم به الدراما الموجهة المقصودة في إعادة الوعي المفقود لدى المواطن بفضل عوامل شتى متباينة منها تعليمية واجتماعية وأخرى اقتصادية، ومن ثم تحسين درجات الإدراك والتحليل والتأويل لكل ما يرفد إلى واقع مجتمعاتنا العربية.
وهذا ما يمكن قبوله كمقدمة طبيعية لعملين دراميين يتم عرضهما على الشاشات العربية في رمضان الجاري ؛ القاهرة كابول و الاختيار رجال الظل، ورغم أن هذه السطور لا تتناول العملين بالتحليل الفني والنقد الأكاديمي إلا أنه من واجب التقدير للعملين توجيه معالم الاحترام للمشاركين فيهما على النحو الجاد والالتزام بقضايا المجتمعات العربية وليس من باب التسلية والتسرية كعالم الجواري في عصور سالفة، فهما جديران بمشاهد يجتهد في إعمال عقله إزاء كل الاتجاهات والتيارات التي تموج بالوطن العربي لاسيما تلك التي ترتبط بالأيديولوجيات التكفيرية المتطرفة.
والعلاقة تبدو وثيقة الصلة بين مسلسلي القاهرة كابول والاختيار رجال الظل في أنهما يسعيان إلى تبصير المواطن العربي وتوعيته بالمخططات الإرهابية التي تحاول أن تعصف باستقرار وأمن المنطقة وتستغل في سعيها بساطة المواطنين قليلي الثقافة الدينية من جهة، وربما بفعل بعض السياسات التعليمية والإعلامية صاروا أشد فقرا في تأويل المشهد السياسي منذ اشتعال انتفاضات الربيع العربي.
وحينما استطاع رواد صناعة الدراما توظيف الصورة من أجل استثارة التفكير لدى المشاهد العربي أمكننا القول بأن الدراما نجحت بامتهار وريادة في توصيل رسالة الإعلام التربوي لا كما هو مقدَّم في مؤسساتنا التعليمية التي بحاجة إلى هيكلة جديدة تناسب متغيرات العصر، بل نجاح في تحويل الإعلام إلى مهمة تربوية مقصودة وموجهة تخدم صالح الأوطان ومصالحها القومية.
ودون الدخول في تفاصيل العملين الدراميين فإن المقصود هنا في السطور الراهنة إعادة تنبيه العقل العربي لما حدث من حوله ولا يزال يجري في الخفاء تارة وعلانية تارة أخرى، لقد نجحت التيارات الراديكالية الأشد تطرفا في استغلال الدين وتوظيفه لتحقيق مصالح فئات بعينها وجماعات مقصورة على تحقيق مطامحها الشخصية دون النظر إلى الوطن حاضره أو مستقبله تماما كما صنعت جماعة حسن البنا بفكرها المغلوط الذي بات أكثر تشبثا بالعمل السياسي عنه من أعمال مجتمعية تخدم الدعوة كما زعم قادتها من قبل، وهذا يجعلني أمرُّ سريعا على مشروع النهضة الذي طالما صدح بها أعضاء جماعة الإخوان وقت مدِّهم السياسي وصولا إلى سدة الحكم فهل كان بالفعل مشروعا تنمويا يسعى إلى ارتقاء الوطن ورقيه أم تضمن خططا لنسف مقدَّرات الوطن والعصف باستقراره وهو ما تم بالفعل وقت اعتصامهم برابعة العدوية وميدان النهضة وما تم من أعمال فوضوية ببعض المناطق في مصر؟
وربما أعيد تذكر مشهد تخلّي الإمام الحسن عن حكم البلاد والعباد وهو صاحب الرصيد الديني غير المتكرر في تاريخ الإسلام ومنحه طواعية لبني أمية حقنا للدماء، في الوقت الذي رفض فيه أنصار تنظيم البنا التخلي عن حكم مصر المحروسة رغم عزل الشعب لهم بصورة لا تقبل التزييف أو الخداع البصري، ورغم ذلك لم يتمسكوا فقط بكرسي الحكم بل لجأوا إلى وسائط أخرى كطوق نجاة لهم في تسيُّد العباد والبلاد.
منها ـ الوسائط ـ دعاوى الشرعية التي نادت بها جماعة الإخوان ومن ضمتها من جماعات تكفيرية أخرى مثل جماعة التكفير والهجرة بأصحابها ذوي الفكر غير السوي دينيا وجماعات الجهاد والفرق المرتزقة كتنظيم ولاية سيناء وغيرها في الوقت الذي لم ينتبهوا إلى صالح الأمة وليس صالح جماعة قاصرة على فكرها فحسب.
ليس هذا فقط، بل لجأت الجماعة المحظورة بالتعاون من بقايا تجمع التكفير والهجرة والسلفية الجهادية ومن تبقى من قيادات الجماعات الإسلامية الذين خدعوا الحكومات المصرية المتعاقبة بفكرة المراجعات الفقهية لفكرهم إلى جموع الشعب المولعين بأحاديث وقصص الجنة والنار والرغيب والترهيب وإحياء مزاعم الجهاد والوقوف بقوة أمام الحكومات الكافرة من وجهة نظرها وهي العقيدة التي رسخها لدى كثيرين سيد قطب الناقد الفني والمحلل الأدبي والمناصر لحركة الضباط الأحرار الذي لم يجد ضالته في أن يكون فردا ومواطنا ضمن المجموع البشري للوطن فقرر أن يتفرد بأغاليطه حول دولة كافرة وحكومة كافرة ومجتمع أشد كفرا وانحلالا، وهي الحيلة التي استغلتها الجماعة في الترويج لقضيتها باعتبارها ضحية لهذه الدولة التي ينبغي مواجهتها وهو ما حدث بالفعل منذ العزل الشعبي الوطني لمحمد مرسي وحتى مراحل العملية الشاملة لقواتنا المسلحة المصرية الباسلة في سيناء.
وبالقطع، في ظل إعلام اختفى لسنوات طويلة في رصد الواقع، وبات تائها في تبصير المواطن بقضايا المصيرية نجحت خطة هذه الجماعة في التحشيد بميدان رابعة العدوية وكعادة التيارات القمعية الراديكالية المتطرفة أن تبقي أنصارها تحت مظلة التعتيم والتجهيل وربما التغييب أيضا حتى لا تسمح لأحد بإعمال عقله أو مجرد التفكير، وهي سنة غير محمود لكنها ثابتة وراسخة رأيناها حينما تم اغتيال الشيخ الذهبي، ورفض الآلاف من أعضاء التنظيمات المتطرفة لآراء الشيخ المجدد محمد متولي الشعراوي لأنه طالما اجتهد في فضح صنيعهم في فترات متقطعة، وجدناه في اغتيال الدكتور فرج فودة الذي لم يقرأ قاتله حرفا واحدا له، ورصدناه في تكفير العشرات والعشرات من المفكرين التنويريين من أمثال العميد طه حسين ونصر حامد أبو زيد وغيرهما.
والدولة المصرية في عهد مبارك لم ترصد مشكلة تصاعد هذا المد بشئ من الحذر وبعين من القوة بل قدمت أعمالا درامية تخللتها بعض صور لشخصية المتطرف دون تحليل أوجه تطرفه وبيان معتقده الفكري الذي سمح له بالعنف والقتل بل وتبريره أيضا.
لذا فإن دراما رمضان 2021 تحديدا من خلال العملين القاهرة كابول والاختيار رجال الظل ومن قبلهما مسلسل الاختيار الجزء الأول نجحت في تفتيت جذور هذا الحاجز الذي قد يفصل المشاهد عن فكر الجماعات المتطرفة التي لا تعبأ بالدين أو بحرمته بل هي تمتلك قدرة هائلة في استغلال عطش المواطن البسيط الديني وتوجيه هذا الظمأ إلى فريسة سهلة القنص لتحقيق مصالحها وأغراضها وأطماعها.
ولا تهمني فكرة أن يبدأ المشاهد في متابعة العمليين المذكورين سابقا، بل الأكثر أهمية هو أن تركز الحكومات العربية بأجهزتها الإعلامية على الدور التربوي الذي تلعبه الدراما في توجيه الوعي وتحسين إدراكهم صوب الأحداث الجارية وهو ما تقوم به الدولة المصرية اليوم الذي يستحق الثناء، لأن الشباب في زمرة متاهة التعليم الإلكتروني والتعليم الهجين والتعليم عن بعد، وفي ظل الهوس بتقليد الشخصيات الهمجية العشوائية المنتشرة بأعمال الدراما والتي قد توحي للوهلة الأولى بأن الضباط في إجازة طويلة وبمنأى عن هذا العنف والفوضى التي تتم بالشارع المصري تحديدا نظرا لأن معظم الأعمال الدرامية المصرية ترصد صورا للعصابات المسلحة وقاطعي الطريق ومرتزقة الموت وهو أمر يجعلنا في حيرة ونحن نطمئن أبناءنا بأن المجتمع بخير وبأن الأمن في استقرار وعافية، ونحو ذلك فإن الجهات الإعلامية عليها أن تكترث كثيرا وكثيرا وهي بصدد الموافقة على ظهور مثل هذه الأعمال على الشاشات العربية لأن في ظهورها خلخلة لعقيدة المواطن بأجهزته الأمنية الداخلية.
_______
ـ الدكتور بليغ حمدي إسماعيل، أستاذ المناهج وطرائق التدريس ـ جامعة المنيا.
**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.