تحوّلات الحركات الإسلاميَّة.. مراجعة أم تراجع؟
يلحظ المتتبّع لتاريخ الحركات الإسلاميَّة اليوم ما أحدثته من طفرةٍ هائلة في نوعيَّة خطابها، وفي مواقفها السياسيَّة بالدرجة الأولى، إذ اختفى الحديث عن “الخلافة الإسلاميَّة” لصالح مبادئ ورؤى فرضها نظام العولمة على الساحة الدوليَّة، مثل الحديث عن التسامح والديمقراطيَّة والتعايش بين الثقافات والحوار بين الأديان .. وطوّرت هذه الحركات بالموازاة مع ذلك خطابًا “تجديديًّا” خلال العقدين الأخيرين خاصَّة فكانت مراجعات جماعات التكفير والهجرة في مصر والشبيبة الإسلاميَّة في المغرب التي أفضت بها التحوّلات إلى المشاركة السياسيَّة في البرلمان.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ما مبرّرات هذه التحوّلات؟ وما مصداقيَّة هذه المراجعات؟
يكتسب هذا السؤال مشروعيّته انطلاقًا من عناصر ثلاثة: أوّلها: استناد الخطاب الحركي منذ بدايته على ما يمكن تسميته بـ”الوثوقيَّة” في آرائه ومواقفه من خلال الاستناد إلى نصٍّ شرعي سرعان ما تنسحب مشروعيّته على هذا الخطاب نفسه، فتحيد به عن أية إمكانيات حقيقيَّة للنقد أو التصحيح أو التعديل، وهي السمات الواجب مواكبتها لكل مشروع يروم النجاح. ثانيها: المناخ الدولي الذي حدثت في ظلّه هذه المراجعات، والتي حاولت التناغم والانسجام معه بما يفسِّر التأثير الخارجي لهذه التحوّلات أكثر من غيره. أمّا الأمر الثالث والأهمّ، فهو أنّ أغلب هذه المراجعات حدثت بعد الاصطدام بعنف الأنظمة الحاكمة وتمسّكها القوي بالسلطة، يفسِّر ذلك خروج هذه المراجعات من داخل السجون أو بعد مغادرتها، زد على ذلك ما خلفته نتائج هذا الاصطدام مع الأنظمة من يأسٍ وإحباط وفقدان الثقة في نجاح المشروع الإسلامي كما كان متصوّرًا.
كل هذه القرائن تدفعنا إلى التفكير في احتمال أن تكون المراجعات اضطراريَّة من أجل التطيّف مع ظروف الواقع الداخليَّة والخارجيَّة، وإنتاج خطاب مساير للتحوّلات. فماذا لو لم تصطدم هذه الحركات بقوّة وبطش الأنظمة الحاكمة؟ ماذا لو سهل عليها تسلّم السلطة دون عوائقٍ تذكر؟ هل يتعلّق الأمر حقا بمراجعات أم تراجعات؟ بل إنّ البعض يذهب إلى الحديث عن تنازلات أملتها المصالح التي أفادت منها هذه الحركات في إطار تفهّمها لقواعد اللعبة السياسيَّة مع الأنظمة.
ويمكن لقائل أن يقول: ما العيب في أن يكون الواقع مصحّحا للأفكار والنظريّات والتصوّرات، وسببًا في مراجعتها ونقدها؟ والجواب: أجل، لكن الذي حدث في تجربة الحركات الإسلاميَّة هو تغيير في مواقف وإعلان مبادئ.. مواقف جديدة من “الآخر” الذي هو غالبًا “النظام الحاكم”. وبذلك ظهرت قناعات التعدّديَّة والمشاركة البرلمانيَّة، والتبادل الديمقراطي للسلطة والإصلاح بدل التغيير الجذري.. ولكن ماذا عن المنهجيَّة الفكريَّة ومرجعيَّة البناء الفكري؟ هل تمّت مراجعة نقديَّة لطرق التفكير وآليّات إنتاج الخطاب؟ هل تخلخلت هذه البنية الثقافيَّة المرجعيَّة وأفرزت تجديدًا حقيقيًّا بناء على أصول فكريَّة جديدة؟ لم يحصل شيء من ذلك.
إنّ هذا ما جعل التحوّلات والتراجعات تظهر بقوّة عند نخب الحركات الإسلاميَّة أكثر من ظهورها في صفوف القواعد الشعبيَّة والجماهير. التي هي السند الأقوى للحركة الإسلاميَّة، وهو مأزق آخر ترتّب عنه التباس المواقف، واتّهام هاته النخب بالخيانة والعمالة للأنظمة والخروج عن الخط الأصيل وتسبّب في انشقاقات داخل صفوف هذه الحركات ممّا يستدعي وقفات من التأمّل عندما يظهر بعض الإسلاميّين الفخر بمراجعاتهم وتحوّلاتهم لإبراز قدرتهم عن التطوّر ومسايرة العصر، الأمر الذي لا يمكن فهمه في ظل الاستناد إلى الأصول الفكريَّة والمنهجيَّة نفسها وعدم القيام بأيّة مراجعات حقيقيَّة بشأنها.
إنّ غرضنا هنا ليس هو تبخيس ما قامت به هذه الحركات من أدوارٍ إيجابيَّة في المجتمع، ولا التشكيك الكلّي في حسن نوايا الدعاة ورغبتهم في الإصلاح ولكن الغرض الأساس. هو أن نقدّم نظرة من زاوية أخرى تعين على الفهم الدقيق للأمور، والتشخيص الأدق لمكامن الخلل حتى لا نتوهّم التطورّ والإصلاح، ونحن لا نراوح مكاننا.
_______
*الراصد التنويري/ العدد السادس/ خريف 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.