1
جوهرُ السلوك الاجتماعي ليس أداةً وظيفيةً محصورة في التعليمات المُسْبَقَة أو الأفعال الارتجالية، وإنما هو سُلطة مركزية تتحكَّم بالظواهر الثقافية والمفاهيم السياسية والبناء الاقتصادي،وعملية التحكُّم تَؤُول _ بفِعل إفرازات العقل الجَمْعي _ إلى تفاعلات رمزية في عُمق الشعور والوَعْي اللغوي، تُساهم في توظيف الأفكار الإبداعية لفهم أنساق الهَيمنة في المجتمع، وتحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى تجارب عقلانية، يُمكن تعميمها في كُل زمان ومكان. والمُمارَسة الحياتية لا تتحوَّل إلى مُمارَسة عقلانية، إلا إذا تَمَّ تشييد الواقع المُعاش على قاعدة ( الشعور / اللغة )، فالشعورُ هو النسق الداخلي الذي يضمن لقاءَ الإنسان بإنسانيته، واللغة هي النسق الخارجي الذي يضمن تحويلَ الرموز الذهنية إلى أفعال واقعية. وبين الشعور واللغة تُولَد عوالم روحية وتركيبات مادية، مِن شأنها حِفظ توازن الإنسان، وصناعة السلام في أعماقه، وتحقيق المصالحة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان ومُجتمعه.
2
القيودُ التي تَفرضها الضغوطُ الاجتماعية على أنساق الشعور الإنساني، يُمكن تفكيكها عبر تحويل المسارات التاريخية إلى ظواهر ثقافية، وذلك بأخذ الدروس والعِبَر مِن الماضي، وإحالتها إلى فلسفة إنسانية قائمة على الأسباب والنتائج، ومُندمجة في طبيعة البُنى الاجتماعية، وقادرة على اقتحام بمستقبل بثقة وجُرأة. وإذا نجح المجتمعُ في تحويل الأحداث التاريخية المحصورة في الزمان والمُحَاصَرَة بالمكان، إلى أفكار ومبادئ وقِيَم عابرة للحدود، وصالحة لكل زمان ومكان،فإنَّ أنظمة اجتماعية جديدة ستنشأ، تمتاز بالاستمرارية، وتمتلك قُوَّةَ الدفع الذاتية لتكريس مفهوم الصَّيرورة ( انتقال الحالة التاريخية إلى ظاهرة ثقافية ) في المجتمع، لأن الأفكار خالدة لا تموت، والثقافة باقية، لا يُمكن دفنها في اللحظة الآنِيَّة، أو نسيانها في المواقف العابرة التي انتهت صلاحيتها. إن الثقافة قائمة على الرموز والإشارات والطموحات والتفاعلات العقلانية والإفرازات الواقعية، وهذا سِر قُوَّتها وارتباطها الوثيق بوجود الإنسان ظاهرًا وباطنًا. والإنسانُ لا يَستطيع إيجادَ صَوته الخاص في ضجيج الحياة، ولا يَقْدِر على حَجز مَقعد في قطار التاريخ، إلا إذا استطاعَ تحويل التاريخ إلى ثقافة ووَعْي بالثقافة، وبذلك يُعيد ترتيبَ الفَوضى في الأنساق الحياتية، ويُسيطر على الشكل والمضمون في اختلاط الأزمنة وزَحمة الأمكنة.
3
إحساسُ الإنسان بطبيعة ذاته وخصائص مُجتمعه، وإحساسُ المجتمع بدَوره المركزي في عملية صناعة الفِعل الاجتماعي، يُجسِّدان المعنى الحضاريَّ بكُل أبعاده. والمعنى لا يتكرَّس كمفهوم وجودي في الذهنِ والواقعِ، إلا إذا جَمَعَ الإنسانُ الجُزءَ والكُلَّ ضِمن صِيغة منطقية، ومَنَعَ التناقضَ، وأزالَ عوامل التَّضاد، واجتثَّ جُذورَ الصراع. والمجتمعُ لا يُبنَى على التناقضات، لأنَّها تُحطِّم جَوْهَرَه، وتُزيل شرعيةَ وُجوده. ولا يُعقَل أن يكون الصراعُ بين التناقضات قُوَّةً دافعة للمجتمع، وسببًا في نهضته، لأن النار لا يُمكن أن تكون مصدرًا للماء. كما أن التاريخ والثقافة لا يُحكَمان بقوانين جاهزة ومُعلَّبة، وإنما يبتكران قوانينهما الخاصة، ويَشُقُّان طريقَهما أثناء السَّير، وكُل رحلة وجودية تشتمل على طريق جديد، يُعاد اكتشافه باستمرار، وهذه الصَّيرورةُ الحتمية ناتجة عن هَيمنة الفِكر على المادة، وسَيطرة الثقافة على التاريخ، وأسبقية الصُّوَر الذهنية على التطبيقات الواقعية. والنهرُ يبدو كِيانًا واحدًا ذا مسارٍ واحد، ولكنه _ في حقيقة الأمر _ كِيانات مُتنوِّعة بسبب جَرَيَان المياه باستمرار، وتغيُّر ماهيتها، وكأن النهر يُغيِّر جِلْدَه باستمرار، ويَبدأ مِن نهايته، ويُولَد مِن نَفْسِه، ويصير كائنًا جديدًا، كما أنَّ النَّهر يشتمل على روافد مُتعدِّدة، وهذا يعني وجود عِدَّة مسارات. وكما أن النهر لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء السدود، كذلك التاريخ،لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء الأفكار. وكما أن النهر المُتدفِّق يُمكن تحويله إلى بُحَيرة تحت السيطرة باستخدام السدود، كذلك التاريخ المُندفع يُمكن تحويله إلى ظاهرة ثقافية تحت السيطرة باستخدام الأفكار.