التنويريتربية وتعليمسلايدر

قراءة نقديَّة في كتاب ” جدلية الأزمة والإصلاح: أزمة التّعليم في تونس وإكراهات إصلاحه”

 

دراسة سوسيولوجية في السّياسات والمفاهيم والمؤشّرات

المؤلف الدكتور مصباح الشيباتي

” نريد جيلاً غاضباً..نريد جيلاً يفلح الآفاق، وينكش التاريخ من ذوره..وينكش الفكر من الأعماق، نريد جيلاً قادماً..مختلف الملامح..لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح..لا ينحني..لا يعرف النفاق..نريد جيلاً..رائداً..عملاقْ..”.نزار قباني من قصيدة (هوامش على دفتر النكسة)

مقدّمة

تطرح أزمة التعليم نفسها إشكالية حضارية عميقة الجذور في مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وترتبط ارتباطا حيويا بمسألة النهضة والتنوير والحداثة، إذ لا يمكن لهذه الأزمة أن تنفصل عن عمقها التاريخي الحضاري. وقد شكلت هذه القضيّة هاجسا حضاريا للأمم في مختلف مراحل التطور الحضاري، وطرحت نفسها بقوة في مختلف الميادين المعرفية ولا سيما في مجال العلوم التربوية والاجتماعية حيث شُغل المفكرون والباحثون بمسألة التعليم ودوره الحضاري في تحقيق نهضة الأمم وفي تفجير طاقاتها الخلاقة. وقد أحال كثير من المفكرين إشكالية النهضة والتحديث إلى بعدها التربوي وبالمقابل عملوا على تفسير التخلف الاجتماعي والحضاري إلى أبعاد التخلّف في المجال التربوي. وكثيرا ما تدور الأبحاث والنظريات حول العلاقة بين السّبب والنتيجة، فتارة ينظر إلى أزمة التعليم بوصفها مرجعية للتخلّف الحضاري، فيُحمّل التعليم بأنظمته التربوية مسؤولية التخلّف الحضاري، أو العكس، إذ ينظر إلى التعليم على أنه انعكاس للتخلف الحضاري الذي يشلّ حركة النظام التربوي ويهدّد توازنه.

فالأزمة التربوية تشكل اليوم بؤرة اهتمام المجتمع الإنساني، وما زالت هذه الإشكالية تنوء بأثقالها عقول الفلاسفة والمفكرين رهانا حضاريا شديد الوطأة والخطورة. وتزداد حدة هذه الإشكالية، وتزداد تعقيدا مع موجة التقدم الحضاري المتمثلة في صواعق الثورة الصناعية الرابعة التي استطاعت أن تحدث بركانا جبارا يهزّ الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويمكن القول، ومن منظور فلسفي، بأنّ جذر هذه الإشكالية يتمثّل في طبيعة التوازن الذي يجب أن يتحقّق بين الأنظمة التربوية من جهة وبين متطلبات الأنظمة الاجتماعية السياسية والاقتصادية، إذ غالبا ما يحدث التنافر ويقع الصدام في جدلية من العجز والقصور ضمن تجاذبات التربية والحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإنسانية. ويبدو أنّ هذا التأزم سيظلّ محرضا تاريخيا لتطوير الأنظمة التربوية، وتفعيل طاقاتها استجابة لمتطلبات التطور والتغير، فالأنظمة التربوية غالبا ما تميل إلى المحافظة والجمود ضمن نماذج متصلبة تنطوي على ذاتها. في حين أنّ المجتمعات الإنسانية تنخرط حثيثا في مسارات التغيير والتبديل والمغايرة بسرعة خاطفة. وما بين جمود الأنظمة التعليمية والتربوية وعدم قدرتها على التسارع الحيوي والتجاوب مع متطلبات المجتمع تحدث الأزمة التربوية المزمنة التي تؤدي إلى استنفار العقول واستنهاض الهمم في مواجهة هذا التصدّع بين نظامين أساسيين مختلفين ضمن جدلية اجتماعية واحدة شديدة التعقيد.

وإذا كان التعليم في البلدان المتقدمة يعاني من أزمة فإن هذه الأزمة تأخذ أبعادا مأساوية مترامية الأطراف في البلدان النامية ومن بينها البلدان العربية. أمّا في المجتمعات المتقدمة، فإنّ الأنظمة التربويّة تتصدى اليوم لمشكلات ما بعد الحضارة الصناعية على خلاف البلدان النامية التي ما زلت تعاني مشكلات ما قبل الحضارة الصناعية الأولى. وإذا كانت مشكلات المستقبل والمستقبل البعيد جدا هي هاجس البلدان المتقدّمة فإنّ مشكلات الماضي ما زالت تشكّل محور اهتمام الشّعوب في البلدان النامية. وفي الوقت الذي حقّقت فيه الأنظمة التعليمية في البلدان المتقدّمة أشواطا واسعة في ميدان الإصلاح التربوي بصورة مستمرة ودائمة حيث أتيح لها أن تنفض غبار الزمن وأن تحقق نتائج متميزة، بقيت الأنظمة التربوية في دول الجنوب تعاني من تراكم تاريخيّ للمشكلات، ومن تعاظم لا ينقطع للتحديات. وهذا يعني أن السبق الحضاري بين دول الشمال ودول الجنوب يتجلّى في مختلف جوانب الحياة، ولكنه يضرب صورته المأساوية في مستوى التربية والتعليم.

هذه الأزمة التربوية الخانقة تشكّل الموضوع الأساسي لهذا الكتاب الذي يخوض ببراعة في إشكالية الجدل القائم بين الأزمة والإصلاح في تونس وفي العالم العربي، وقد شرفني صديقي وزميلي الدكتور مصباح الشيباني وهو أحد أعلام الفكر الاجتماعي والتربوي في تونس الخضراء وفي العالم العربي، بأنْ آثرني وأكرمني بالاطّلاع على مخطوطته النّادرة حول أزمة التّعليم في تونس وإكراهات إصلاحه: دراسة سوسيولوجية في السّياسات والمفاهيم والمؤشّرات. وقد أقبلت على قراءة الكتاب أكثر من مرّة، استلهم منه فيض أفكار إبداعية جديدة في هذا الميدان الفكريّ الشائك بتعقيداته. وأقرّ طوعا أنّني كنت اعتقد بأنني سأمرّ على المخطوط مرور الكرام تأسيسا على خبرتي العميقة في هذا الميدان وإنتاجي العلمي الغزير في هذه المجال المعرفيّ وما يجانسه، وإذا بي أقع على عمل علمي يمتاز بالجدة والأصالة والتميز منهجا ولغة وفكرا وجدة وأصالة. لقد أخذني هذا الكتاب بسحره ونال منّي بجماليات منهجه وعمق التفكير فيه. وشحذ مني كل الإمكانيات من أجل الفهم والاستجابة الفلسفية. فهو عمل متفجر بالعطاء والموهبة الفكرية المتميزة بغناها وثرائها. ولن يكون قولي مدحا ففي الكتاب مؤشرات جديرة بالاهتمام والتقدير والاعتبار. وسأمر على بعضها مرورا سريعا في هذه المراجعة.

ليس خفيا على العارفين أنّ العمل العلمي المُنتَج غالبا ما يكتسب ملمح هويته العلمية والإبداعية، وأصالته تأسيسا على الخلفية الفكرية والثقافية للباحث، وغالبا ما يتألق العمل ضمن مسار العمق الفكري الذي يمثله صاحبه. واغتنم هذه الفرصة لأعلن بأنّ التربويين في أبحاثهم غالبا ما ينغلقون في الدوائر الضيقة لاختصاصاتهم، ولا سيما هذه التي تنطوي على أبعاد اجتماعية اقتصادية سياسية، وهذا ناجم عن الانغلاق الفكري في متاهة الاختصاص إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها الباحث الخروج إلى دائرة الضياء الاجتماعي ليبحث في الأبعاد الاجتماعية للظاهرة التربوية. وهذا الأمر يقلّل كثيرا من قيمة الأبحاث التربوية، ويجعلها مغلقة على غموض كبير في علاقتها بالدوائر الأوسع للعلم والمعرفة والثقافة والحياة.

وعلى خلاف ما أشرت إليه أعلاه، فإن هذا العمل (أزمة التّعليم في تونس وإكراهات إصلاحه) يتنزّل في خضم ثقافة معرفية وفكرية واسعة، تميّز بها الدكتور مصباح الشيباني الذي عرفناها باحثا وأكاديميا متخصّصا في علم الاجتماع، وله باع طويل في العلوم السياسية ومخضرم في المجال الثقافي. وكنت قد اطلعت على عدد كبير من دراساته وأبحاثه الفكريّة في مجالات الثقافة والمجتمع والسياسة والأدب، وقد قرأت له أعمالا علمية رائدة منها: “خطاب “دولة الخلافة”، وأزمة الحكم في البلاد العربية والإسلامية”، و”ثقافة الاختلاف وضرورتها في المشهد السياسي في الوطن العرب”، و”فقه الإرهاب وتوظيفه السّياسي في ظلّ النّظام العالمي الجديد، و”الثّورات العربية الرّاهنة وأزمة المواطنة”. وهذه الأعمال الرائدة بمضامينها ومستوياتها الفكرية تشكّل مؤشرا كبيرا على أنّنا أمام مفكّر عربي راسخ القدم في اختصاصه، إذ استطاع أن يشدنا ويدهشنا بجماليات أعماله الفكرية وعمقها الفكري الفلسفي وتكويناتها المنهجية، وأهمية القضايا الفكرية التي يطرحها في السّاحة الثقافية. وفي ظل هذه الغزارة والموسوعية النّادرة في طرح الإشكاليات استطاع الكاتب أن يتألق بعمله هذا، وأن يتناول أزمة التربية في أعمق تجلياتها وجدلياتها الفكرية المجتمعية فجاء هذا العمل صورة سيمفونية تتآلف فيها إيقاعات الفكر السوسيولوجي، وتتخاصب فيها قضايا التريبة بقضايا المجتمع السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي بصورة خلاقة ثرية سمتها الغنى والعطاء الجمال.

يتميز الكتاب بالطابع الجمالي الذي يسم مختلف جوانبه، فالجمال سمة العلم، والوضوح نكهته والبيان شريعته، ولا أبالغ إذا قلت أن الكتاب يتألق بسحر الأسلوب وجمال العبارة ووضوح المغزى وسلامة البنيان، ولا غرو إذا قلت بأن القارئ لا يستطيع أن يتخلى عن استجواب الجمال اللّغوي المخصب بالمعاني والدلالات الفلسفية؛ إنه أسلوب جذاب خلاب يستهوي عقل القارئ ويناشد نزعاته الجمالية بما تنطوي عليه لغة الكتاب من جمال وخصوبة في المعاني والدلالات.

وليس من قبيل المجاملة، إذا قلت بأنّ الباحث قد خاض خوضا في المفاهيم، فقلّب معانيها الفلسفية، واستنطق دلالاتها ومعانيها ضمن المنظومات الفكرية الفلسفية والتربوية، وقد يجد الباحث ضالّته في استكشاف الأبعاد الفكرية والفلسفية العميقة لمفاهيم الأزمة والإصلاح والتربية والمدرسة ضمن منظوماتها السياسية والفكرية والفلسفية والتربوية في هذا العمل المتميز.

وفي هذا السياق أستطيع أن أقول أن الكاتب استطاع أن يستجوب مختلف النظريات الفكرية التربوية والاجتماعية. وقد أطلّ بمنظومته الفكرية على أغلب المفكرين والباحثين المجددين في مجال التربية والمجتمع واستعرض آراءهم ضمن مناقشة نقدية ثرية تستوجب كل الاهتمام والتقدير. ولم يقتصر الكاتب كما ألمحنا على استعراض هذه النظريات والمفاهيم وعرضها بطريقة سلسة، بل تناولها بطريقة نقدية، ونظم عقدها ضمن منهجيات محددة، وواضحة لطبيعة العلاقة بين هذه المفاهيم ومرجعياتها النظريات. واستطاع في الوقت نفسه أن يوظّفها توظيفا أمبيريقيا في مجال دراسته لواقع التربية والتعليم في تونس وفي العالم العربي، واستطاع بذلك أن يحقق هذا التكامل المنهجي في تناول النظرية والواقع تناولا يتميّز بالخصوبة والعطاء.

 

البعد النقدي:

ينتمي هذا العمل فكريا إلى مدرسة فرانكفورت النقدية وإلى السوسيولوجيا النقدية التي يمثلها إيفان إليتش وبيير بورديو واستابليه وبودون، فالطابع النقدي للعمل يبرز في مختلف المقاربات العلمية لمسألتي الأزمة والإصلاح في التربية والتعليم في العالم العربي وفي تونس تحديدا، ويبدو لنا أنّ الممارسات التربوية بما تنطوي عليه من مضامين فكرية تحتاج اليوم إلى فعالية نقدية متمرّسة للكشف عن أبعاد ومضامين هذا الرّكام التربوي الذي بدأ يشكل بذاته خطرا داهما على مجمل الحياة الفكرية والتربوية في العالم العربي. وقد أفلح الكاتب في ميدان النقد التربوي لمختلف مظاهر العمل التربوي واتّجاهاته في المنطقة العربية، وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الممارسة النقدية للكشف عن الجذور والحفر في الأعماق من أجل تحرير التربية العربية من صدإ الوجود، وأورام التصلب، والممارسات التقليدية التي أصبحت عبئا على الحضارة والوجود. ومثل هذه الممارسة النقدية التي أبداها الكاتب يجب أن تنطلق لتشكل تيارا فكريا قويّا يكنس غبار الزمن وأوهام الممارسات السطحية في التربية والفكر التربوي على حدّ سواء. ومثل هذا التوجه النقدي يمكن أن يتحول في المستقبل إلى طاقة تنويرية هائلة تنطلق بالحياة والإنسان العربي إلى مراكز الفعل الحضاري ليكون قادرا على تفجير طاقاته الإبداعية حضاريا وإنسانيا.

ويعبر الكاتب عن هذه النزعة النقدية في عمله هذا قائلا: إنّ الرّؤية الابستمولوجية في علم الاجتماع هي عبارة عن أسلوب منهجي ومعرفي جديد للتّفكير في كل من الحقيقة الاجتماعية نفسها وفي الأسلوب الذي يمكّننا من مباشرة دراسة تلك الحقيقة. ونظرا إلى أنّ جميع المعارف الإنسانية التي يتمّ إنتاجها في عمليّة فهم الوقائع الاجتماعية وتفسيرها متجدّدة ومتطوّرة دائما، فإنّ البحث العلمي الموضوعي ينبغي أن يكون مرتبطًا بسياق التطور التاريخي للمجتمع المخصوص ويتعيّن عليه أن يعتمد “طريقة التّفكيك النّقدي” لهذه الوقائع والقضايا الاجتماعية.

ومن ثمّ يبيّن الكاتب أهمية الاستكشاف النقدي لخفايا التعليم وإشكالياته بقوله: “حاولنا في هذه الدّراسة أن لا نتوقّف في تشخيصنا لمظاهر أزمة التربية والتّعليم على أبعادها القانونية والتّنظيمية فقط، وإنّما حاولنا أيضا أن نبحث في الزّوايا الخفيّة لهذه الأزمة التي تتجلّى في أشكال مختلفة من الأنوميا الاجتماعية والمهنية والثقافيّة التي يتميّز بها المشهد المدرسي التونسي اليوم، عسى أن نظفر بمعرفة الوجه الآخر لمظاهر هذه العطالة التربويّة والتعليميّة نتيجة ما راكمته “الإصلاحات التربويّة” السّابقة من عمليات تفكيك للرّساميل الاجتماعيّة والثقافية والرمزيّة لكلّ عناصر المدرسة، وما ترسّب في بيئة النّسق المدرسي في كليته، أي البحث في الكيفيّة التي يجسّد الفاعلون داخله، فعليّا، علاقات جديدة وأشكالاً جديدة للمراقبة الاجتماعيّة

وقد أدهشنا الكاتب بقدرته المميزة على إحكام الرؤية النقدية التكاملية بين جوانب عمله، فتجلت قدرته على استجواب مختلف جوانب هذه القضية، محقّقا هذا التكامل والثراء بين النظرية والتطبيق، فأفاض في معالجة المفاهيم، وأوغل في اختراق النظريات برؤية تكاملية منهجية واضحة المعالم، واستطاع في الوقت نفسه أن يدمج بين النظرية والتطبيق في رؤيته التكاملية لأزمة التعليم ومناهج إصلاحه. وكان، إذا جاز الوصف الأدبي، يحوم كالصقر برؤية بعيدة المدى في النظرية ثم يقترب من الواقع في صولات وجولات جعلت من العمل قطعة فنية تدامجت فيها العناصر، وتكاملت فيها الوظائف، فقدم لنا عملا علميا محكم التّكامل بين عناصره ومكوناته مصقولا بقدرة الباحث على المعالجة الديالكتيكية بين الكل والجزء بين الواقع والنظرية بين الأزمة والإصلاح بين تونس والوطن العربي بين الفكر العالمي وتطبيقاته ضمن مسارات الواقع وتجلياته. وباختصار يشكل عمل الدكتور مصباح الشيباتي ممارسة نقدية فذّة للكشف عن أعمق مضامين العلاقة ما بين الأزمة والإصلاح في تونس وفي العالم العربي.

المنهج التكاملي:

أبدع الكاتب في تناوله موضوع الأزمة والإصلاح في تونس باستخدام أدواته المنهجية الفعالة، وقد أجاد في دمج مجموعة من المنهجيات المعرفية المتنوعة في نبضة واحدة وكأنها منهج موحّد استخدمه في الحفر العميق عن مضامين وخفايا قضايا الإصلاح التربوي في العالم العربي. ويعبر الكاتب عن هذه المنهجية بقوله:

لقد وظفنا أدواتنا المنهجية في تناول ” مختلف القضايا التي أثرناها لكي نحوّلها إلى واقع مفهوم“. وكان هذا التمشّي المنهجي، بالنّسبة إلينا، عبارة عن “كرونوماتر” (Chronomètre) لقياس راهنيّة الإطار النّظري والمنهجي الذي سلكناه في الدّراسة، وهو في الوقت نفسه، الضّابط الابستييمي للحفر المعرفي في فهم أسباب الظواهر المدرسيّة التي كانت مدار بحثنا في هذا الكتاب. فقد التزمنا في كلّ أقسام النّص، بالرّبط بين الواقع المدروس ومشروعيّة المقولات السّوسيولوجية المعبّرة عن ديناميّة المشهد المدرسي من ناحية، وبين راهنيّة هذه المقولات واستنجادنا بها في بناء معمار النصّ من ناحية ثانية “.

ومن ثَمّ يتابع الكاتب وصفه لمنهجه، مؤكّدا خاصية التكامل المنهجيّ في عمله وأهميتها في دراسة الظواهر المعقدة بالقول:

“يوجد شبه اجماع بين المختصين في علم الاجتماع على أن تعدّد زوايا النّظر وتكاملها قد ساهم في إثراء المداخل المنهجيّة لدراسة الواقع الاجتماعي، ونتيجة هذا التعدّد المنهجي وتعاضده تعزّزت مكانة علم الاجتماع في الحقل العلمي والعملياتي في تشخيص قضايا المجتمع. كما ساعد التنوّع المنهجي الباحثين في العلوم الاجتماعية على تذليل صعوبات البحث الميداني وتفكيك تعقّد المعطيات (la complexité des faits) وعدم ثباتها”.

ويفصح الكاتب عن ضرورة تحقيق هذا التكامل المنهجي بين المناهج الكمية والكيفية بقوله:

” اعتمدنا في منهجيتنا على المزاوجة بين المقاربتين الكميّة والكيفيّة، واستنجدنا بمختلف أدواتهما المنهجية في حدود ما يخدم أهداف البحث. فمن خلال المقاربة الكمية تمكّنا من جمع المعطيات والاحصائيات المدعّمة للبحث وتحويل نتائجها إلى تحليلات كيفية، وأعطينا الأهمية نفسها للمقاربة المنهجية الكيفية من أجل التعمّق في رصد طبيعة التفاعلات بين الأفراد وفهم المعاني الاجتماعية لسلوكياتهم ودلالة مواقفهم المُشكِلة للظواهر المدروسة. وساعدتنا الوسائل المنهجيّة الكيفيّة على الوصول إلى نتائج مهمّة “.

ومما لا شك فيه أن هذه المنهجية تجعل من الكاتب أحد أبرز الدعاة إلى التكامل المنهجي بين المنهجيات الكمية والكيفية على خلاف ما هو سائد في الوسط الاجتماعي والتربوي، ونحن بدورنا نُثني على هذه الروح المنهجية الجديدة التي تُخرجنا من دوائر الانغلاق والجمود المنهجيّ في كثير من الأعمال التربوية والاجتماعية السائدة في البحث الاجتماعي- التربوي العربي.

ويؤكد الكاتب صورة واضحة على النزعة التكاملية بين العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث يتناول القضية من مداخل متعددة واتجاهات فكرية متنوعة في مجال العلوم الإنسانية ومن ثم يقوم بتوليد رؤية واحدة بأبعاد نظريّة ومنهجية مختلفة ومتنوعة في مسار الاتجاهات الاجتماعية والفكرية، وفي هذا المعنى نورد قوله: “حاولنا التحرّر من مقولة التخصّص العلمي الضيّق والاتجاه الواحد للباحث في علم الاجتماع، خاصّة وأنّ المقاربات التي تتبنّى هذا التوجّه، شهدت تراجعًا أمام تطور العلوم الاجتماعيّة والإنسانية التي أدى تفاعلها في ما بينها إلى بروز نزعة بحثية جديدة تنظر إلى الحقول المعرفية في العلوم الاجتماعيّة والإنسانية على أنّها حقول متواصلة ومتداخلة ومتفاعلة، وبالتالي، لا يمكن الفصل بينها”. طالما أنّ الرؤية الاختزالية للظواهر الإنسانية أو في طرق حل مشاكلها هي رؤية قصيرة النّظر وعمياء”، وهنا يكمن أحد أوجه القوة في تناوله المنهجي للظاهرة من خلال مداخل عديدة وفي ضوء علوم اجتماعية مختلفة.

جدل المجتمع والتربية:

وضمن هذا السياق المنهجي، تبرز أمامنا قدرة البحث على التناول الشمولي للأزمة التربوية ضمن سياقاتها الاجتماعية، وفي صيرورة تفاعلاتها الدينامية اللامحدودة مع مختلف المتغيرات السياسية والاجتماعية، ويبدو واضحا أن الكاتب استطاع أن يتناول المسألة التربوية بأزماتها وإصلاحاتها كظاهرة اجتماعية سياسية معقدة التكوين، فانكبّ يفكّك الروابط والعلاقات القائمة بين التربية والسياسة والمجتمع والاقتصاد ضمن سياق ديالكتيكي شديد التّعقيد. واستطاع ضمن هذه المنهجية وفي سياقها أن يخرج عن المسار التقليدي الذي انتهجه الباحثون التربويون في الغالب والذي بمقتضاه تتمّ معالجة القضايا التربوية بوصفها علاقة بين المبتدأ والخبر أو بين السبب والنتيجة دون استكشاف المتغيرات الاجتماعية للجدل الحتمي القائم بين متغيرات التربية ومتغيرات المجتمع. واستطاع الباحث ضمن هذه المنهجية الشمولية كذلك الخوض في أعماق الظاهرة المدروسة والكشف عن أعمق خفاياها ضمن صيرورة الاجتماعي والتربوي في نسق شموليّ واحد.

وفي ضوء هذه الصيرورة الشمولية، يؤكد الباحث أن الإصلاح التربوي، الفعال القادر على تجاوز ما يسمّى بأزمة التعليم في المجتمع التونسي، هو ذلك الإصلاح الشامل الذي يقوم على تضافر كل الجهود الوطنية في استغلال جميع المصادر التربوية المتاحة في المجتمع وكل الأنماط والوسائل التعليمية الممكن استغلالها استغلالا فعالا لتحقيق التنمية الشاملة وتحرير النظام التربوي من اختناقاته الوجودية، وعلى هذا النّحو يأخذ الإصلاح التربوي بالأحرى طابع النضال السياسي والاجتماعي الذي تقوم به الجماهير الواعية في إطار حركة تغيير شامل.

وفي تأكيدٍ منه لهذه المنهجية، يقول الكاتب “لا يمكن إدراك الواقع التربوي إلا من خلال تشخيص محيطه المجتمعي في مختلف أبعاده السّياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية حتى لا تكون عمليات التشخيص لهذا الواقع غير موضوعيّة أو قائمة على المصادفة وردّات الفعل، أي ينبغي أن تنطلق عملية الإصلاح من دراسات علمية ومعرفيّة في مظاهر الأزمة التربوية لكي تكون البدائل فاعلة ومفضية على حل هذه الأزمة”، وقد أجاد الكاتب في تنمية هذا المنهج وتفعيل أدواته في دراسته لظاهرة الأزمة والإصلاح تونس.

وتجدر الإشارة إلى أنّه يوجد شبه اجماع بين أغلب المقاربات السّوسيولوجية الحديثة المختصّة في علوم التّربية والتّعليم على ضرورة الانطلاق من تشخيص الأبعاد الاجتماعية والثّقافية والسّياسية المؤثّرة في المشهد المدرسي لكي يكون البحث في أزمة التّعليم علمياً وموضوعيًا، لأنّ المؤسّسة التّربوية، مثلها مثل بقيّة المؤسّسات الأخرى في المجتمع، ليست مجرّد تنظيم يعتمد قواعد شكلية، بل هي إحدى الأفضية العامّة التي تخضع إلى القيم والمعايير والرّموز الثقافيّة في المجتمع. وهذه القيم والمعايير والرّموز تؤثّر بدورها في أنظمة العمل وفي صيرورة اتّخاذ القرارات وإدارة النّزاعات في الشّغل، كما تساهم في توجيه العلاقات الاجتماعيّة والمهنية وفي تشكيل المعيش اليومي للفاعلين الاجتماعيين في المدرسة.

ضوء على الأزمة:

تشكل الأزمة التربوية الخانقة التي تهدد المجتمعات العربية محور هذا العمل وجذوته، كما يشكل الإصلاح التربوي المطلوب غايته ومنطلقه. فالباحث يستكشف الأزمة ومن ثم ينطلق إلى الكشف عن مطالب الإصلاح الجذريّ، ويحدّد ملامحه ومساراته. وتأخذ جدلية الأزمة والإصلاح صورة بنائية تطوّرية ترسم أبجديّات هذا العمل، وتضبط مساراته.

يرى الكتاب، وضمن السّياق المنهجي التكاملي الذي اعتمده في تناوله للأزمة التربوية في تونس، “أنّ أزمة التّعليم تشكل جزءا لا يتجزّأ من أزمة مجتمعنا العربي”، ويرى في الوقت نفسه أنّ السياسات التربوية العربية ما زالت بعيدة جدا عن جوهر عمليّة الإصلاح بوصفها عملية تغيير فعليّة في حياة المجتمع. ويشكّك الباحث في شرعيّة التّعامل مع “المشاريع التعليمية الجديدة” التي تطرحها السياسات القائمة، وفي إمكانية توظيفها فعليا لأنها لا “تستجيب فعليا لاحتياجات المجتمع العربي بشكل حقيقي من أجل النّهوض بمؤسّساته التّربوية في المستقبل، لأنّه هناك فرق كبير، بطبيعة الحال، بين مشروع نهضوي أفرزته تفاعلات الوضع الدّاخلي، فانعكس فعلاً وفكراً دافعاً ومحفّزاً نحو التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي- كما نشهده في المجتمعات الأوروبية والآسيوية- وبين محاولة إسقاط هذه التّجربة إسقاطا تعسفيا على مجتمعاتنا النّامية ذات الطّبيعة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة المختلفة والظّروف المغايرة تماماً. وعلى الرّغم من تنوّع الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسّياسية للمؤسّسات التّربويّة، فإنّ الموارد البشريّة هي قاطرة التّغيير والتّنمية، وأيّ تغيير لا ينطلق من العنصر البشري يظلّ مجهوداً ضائعاً.

ويؤكد الكاتب في أكثر من سياق أن فهم جذور أزمة التّعليم وأسباب تعثّر المشاريع الإصلاحية يوجب علينا “أن نبحث في جميع العوامل وسياقاتها المجتمعية التي مازالت تعيق تحقيق الإنجازية الفعلية في النّهوض بالمرفق التربوي وتشكّل أحد أسباب اخفاقاتها الرّاهنة، لأنّ هذه الأزمة لا تنفصل عن الأزمة العامّة التي يعيشها مجتمعنا. فأزمة التّربية والتّعليم، في الرّاهن التّونسي، أصبحت أكثر مراوغة في تشخيصها وأعمق خطورة في تجليّاتها.وهذه الأزمة والحالة من التّعقيد والضّبابية دفعت بالبعض إلى تشبيه الخوض في قضايا التّربية والتّعليم كمَثلِ الذي يُغامر بالدّخول إلى جُحور الأفاعي! ”

فالأزمة قائمة في تونس كما هي الحال في العالم العربي ويرى الباحث بأنّ هناك إقرارا واعترافا رسميّين من قبل الدّولة بوجود أزمة شاملة للتّعليم في تونس، حيث تحوّلت مؤسّساتنا التربويّة إلى فضاءات هشّة تهدّدها جميع أصناف الظواهر السيّئة والسّلوكيات اللاّمعيارية. ومن هنا، ومن هذا الاعتراف الرسمي والعلمي بوجود الأزمة تنطلق محاولات الإصلاح. وتصبح كل التوجهات الفكرية والسياسية نحو الإصلاح مشروعة تربويّا وأخلاقيا وإنسانيا.

الاستنساخ بوصفه تدميرا للإصلاح:

تعبّر الأنظمة التربوية في المجتمعات المتقدمة عن المعالم الكبرى للنسق المجتمعي والثقافي السائد، كما تعبر عن توجهاته الفكرية والحضارية. ولكن هذه الأنظمة التربوية في مجتمعات العالم الثالث تعاني في إطار علاقتها بالمجتمع كثيرا من مظاهر التفكك والغموض والتضارب، كما أنها قد لا تعبر عن ملامح المجتمع وتصوراته الحقيقية لأنها تستنسخ التجارب الغربية، ولا يمكنها، بسبب ذلك، أن تعكس ارتباطا حيويّا مع المجتمع الذي تنتمي إليه.

يتناول الكاتب مسألة الاستنساخ التربوي بصورة نقدية ويوضح لنا أن عمليات الاصلاح التربوي في العالم العربي، كما في تونس، ما هي إلا تشكيل ظلالي للإصلاحات التي تجري في الغرب. ونحن نضيف إلى ذلك أن المؤسّسات التربوية نشأت في جوهرها على منوال المؤسسات التربوية الغربية التي رسخها الاستعمار الأوروبي للبلدان العربية. وحوّل هذه المؤسسات إلى صدى لمؤسساته فيما يتعلق بأهدافها وآليات اشتغالها.

ومنذ البداية يطرح الكاتب هذه الإشكالية بصورة منهجية متسائلا: ما هي الخلفيات الحقيقيّة الدّافعة والمطالبة بإصلاح التّعليم؟ هل هي مجرّد تقليد ومجاراة لتجارب إصلاحية أخرى، أم هي رغبة حقيقية من الدّولة و”شركائها” المحليين في وضع البدائل الإصلاحية لتجاوز أزمة التّعليم في تونس؟ وهل أنّ هذه المشاريع تعتمد رؤية إصلاحيّة حقيقيّة أم أنّها تندرج ضمن موجة “التّدويل” للسّياسات التربويّة في العالم، وليست إلا استجابة للضغوطات التي ما انفكّت تمارسها عديد القوى الخارجيّة مثلها هو الأمر في بقية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؟

وفي معرض الإجابة يؤكد الكاتب على الصبغة الاستهلاكية لهذه التجارب فهي في أغلبها استجابات إصلاحية تتم على منوال هذه التي تجري في العالم المتقدم وفي أفضل أحوالها استجابة عولمية أو تدويليّة. وفي كل الأحوال هي تنأى عن مقاصد المجتمع التونسي كما هو الحال في المجتمعات العربية.

ولا يقف الكاتب عند حدود الكشف عن الاستنساخ الإصلاحي في التربية بل يرى أن هذا الاستنساخ الهجين يشكل خطرا على العباد والبلاد إذ يقول:

” لقد نبّهت عديد الدّراسات العربية إلى مخاطر اقتباس التّجديد عبر ما يسمّى بــ”النّقل التربوي” واستيراد الإصلاحات التعليميّة في المناهج الدّراسيّة والأهداف العامّة للتّربية والتّعليم، دون التّأكّد من ملاءمتها لواقع المجتمع التّعليمي المنقولة إليه والبحث في مدى قابليّتها للتّطبيق والنجاح في تحقيق أهدافها. بل هناك من يذهب إلى إنّ السّبب الرّئيسي وراء فشل مشاريع التّجديد والإصلاح التّربوي في الدّول النّامية، يعود إلى النّقل التّربوي، والذي يؤدي في الغالب إلى عدم التحام منظومة الإصلاح الجديدة مع المنظومة التّعليميّة المحلّية فتحدث ردود فعل رافضة للجسم الغريب“. لذلك، فالبيئة المجتمعيّة هي المحدّد الرئيسي في تثبيط التجديدات المدرسية أو تطويرها”.

ومن ثم يؤكد الكاتب على أهمية التضافر بين الإصلاح التربوي والمجتمع الحاضن له، فيقول: “إنّ أيّ مشروع لإصلاح التّعليم ينبغي أن يراعي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المميّزة للمجتمع، لأنّ أيّة محاولة للنّقل الأعمى للسياسات التربويّة دون العمل على تبْيِئَتها، فهي تعني بالضّرورة فقدانها لمسوّغات نقلها ومشروعيّة الاستئناس بها، إذ أنّ لكل أمّة إرثها التاريخي الخاص، وتربيتها المتميّزة لسلمها القيمي، ومشكلاتها وآمالها الوطنية الخاصّة، وهذا كلّه ينعكس على المناهج والأساليب المتّبعة لديها”.

 ملامح إخفاق الاصلاح التربوي في تونس:

يطرح الباحث بدايةً اسئلته المنهجية حول الخلفيات الحقيقيّة الدّافعة والمطالبة بإصلاح التّعليم. وهل هي مجرّد تقليد ومجاراة لتجارب إصلاحية أخرى، أم هي رغبة حقيقية من الدّولة و”شركائها” المحليين في وضع البدائل الإصلاحية لتجاوز أزمة التّعليم في تونس؟ وهل أنّ هذه المشاريع تعتمد رؤية إصلاحيّة حقيقيّة أم أنّها تندرج ضمن موجة “التّدويل” للسّياسات التربويّة في العالم، وليست إلاّ استجابة للضغوطات التي ما انفكّت تمارسها عديد القوى الخارجيّة مثلها هو الأمر في بقية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؟

وفي ضوء هذه التساؤلات يكشف الكاتب بأدواته المنهجية النقدية عن عمق الأزمة وتجذّرها في التربية والمجتمع في تونس وفي العالم العربي على حد سواء، ويقدم لنا تحليلا عميقا وشاملا لأوجه هذه الأزمة ومستويات تعقيدها وشمولها، ويعمل على تفكيك مختلف عواملها ومتغيّراتها. وعندما يبحث في مسألة الخروج من عمق الكارثة التربوية عن طريق الإصلاح يجد الكاتب نفسه أمام جدار متصلب مغلق على الإخفاق المرعب في حركات الإصلاح التربوي والاجتماعي العربي. ومن الطبيعي ألاّ يقف الكاتب عند حدود الإعلان عن أخفاق الإصلاح، بل يحقق في طبيعته، ويبحث في معطياته، ويستكشف ما خفي من عوامله وما بطن. وفي دائرة الكشف عن عوامل هذا الاخفاق في العالم العربي بداية، يرى الكاتب أن الدّعوة إلى إجراء هذه الإصلاحات، قد تمّت في العالم العربي تحت تأثير عوامل ومتغيرات مختلفة، منها ما هو ذاتيّ (شخصيّ)، ومنها هو موضوعي. يقول الكاتب نصا:

” ففي بعض الأحيان يكون السّبب في تغيير السّياسة التعليمية والبرامج والمنهجيات التعليميّة مرتبطا بدوافع شخصية صادرة عن الميولات الفكرية والأيديولوجية لوزير التربية والتّعليم، أو تكون الدّعوة إلى هذه الإصلاحات بدافع التّقليد لما شاع في السّاحة العالمية، أو تكون استجابة إلى الضغوطات الخارجيّة سواء عبر ما تقدّمها بعض المؤسّسات المالية الدولية من مساعدات أو قروض للدّولة، أو يتمّ فرضها بشكل “ناعم”(Souple) من خلال التدخّلات اللّوجيستية المباشرة عبر “الخبراء الأجانب” تحت عناوين مختلفة بحسب السّياقات التاريخيّة الوطنيّة والدوليّة، وبحسب تغيّر الأهداف من عملية الإصلاح. في المُحصّلة، فإنّ كلّ مشاريع الإصلاح التّربوي في الوطن العربي، خلال الثّلاثة عقود السّابقة، كانت إمّا نتيجة التّغييرات السّياسية الدّاخلية أو استجابة للضّغوط الخارجية المباشرة من قبل صندوق النّقد الدّولي أو الاتّحاد الأوروبي أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة أو غيرها من الهيئات والدّول“. وهذه العوامل الذاتية وغير الموضوعية تفسر لنا هذا الإخفاق الكبير في عملية الإصلاح والإبقاء على الأزمة متوهجة وعنيفة ومزمنة. وفي تونس والحال لا يختلف كثيرا عن العالم العربي.

وفي مسار آخر يؤكد الباحث على أنّ “التّجارب الإصلاحية” للتّعليم التي تمّ إقرارها في إطار سياسات “إعادة الهيكلة” التي اعتمدتها تونس منذ بداية التّسعينيات من القرن الماضي…. لم تحقّق تغييرات نوعيّة في المشهد التّربوي والتّعليمي، أي لم تتمكّن من بناء أنماط مؤسّسيّة واجتماعيّة ومهنيّة تتّسم بالجودة والتّميز، ولم تكن نتائجها كلّها إيجابية أو ذات تأثيرات تجديديّة فعليّة للمشهد المدرسي. لقد أفضت هذه السّياسات إلى “الضبابيّة التنظيمية “والتفكّك المؤسّسي، وأنتجت عدّة مظاهر من “الأنوميا الاجتماعية”(Anomie sciale) والأمراض النفسيّة لدى مختلف الفاعلين الاجتماعيين في المدرسة. لهذا، ينبغي علينا، قبل وضع أيّ مشروع أو”استراتيجية” لإصلاح التّعليم في المستقبل، أن نشخّص أوّلاً طبيعةهذه السّياسات وإكراهاتها Les contraintes) ) التي باتت توجّه مسارات ديناميّة النّسق التعليمي وتضبط معايير إشتغاله، وتتحكّم في اختيار مدخلات المدرسة وهندسة مخرجاتها”.

فالإصلاح التربوي كما يعتقد الباحث هو صيغة اجتماعية ولن يتحقّق إلاّ بشروط التكامل والمصالحة مع المجتمع. وفي هذا يقول: من المعروف أنّ النّظام التعليمي في المجتمع يمثّل أحد تجلّيات تطوّره التاريخي والحضاري، أي أنّه يعكس خصائص واقعه الاقتصادي والسّياسي والثّقافي. لذلك، ليس بالإمكان لأيّة دولة أو أمّة أن تستعير ــ طوعًا أو كرهًا ــ ما يبدو مفيدا في دولة أو أمّة أخرى، ثم تتوقّع منه أن يكون مفيدا عندما ينتقل خارج بيئته الطبيعية”.ومع أنّ الكاتب يقر بفشل الإصلاح التربويّ محمولا على أسباب سياسية ومجتمعية فإنّه لا يغادر محطة الأمل ويبحث في مشاهده المتنوعة، وسينيارهواته المختلفة في محاولة منه لكشف المخارج والبحث عن منافذ حقيقة في متاهات الأزمة.

وفي تحليله النقدي الشّمولي لجدلية الأزمة والإصلاح يقدّم الكاتب تصوّرا متكاملا لمختلف العوامل المؤثرة في الإصلاح. ويحدّد مسارات متعدّدة للخروج من الأزمة. ويشير الكاتب بصراحة إلى فشل السياسات التربوية في تونس في مباشرة الإصلاح الحقيقي، ويرى أنّ هذه السّياسات كانت تقفز فوق المشاكل الحقيقية للأزمة التربوية،وقد اتّسمت بالارتجالية والاستعراض والاستنساخ وهذا يعني اعتماد هذه السياسات على منطق “النّقل” عن الآخرين ولم تنطلق من البيئة الوطنية التونسية أو من الوعي بجدليّات هذا الإصلاح الدّاخلية والخارجيّة. ويقول الكاتب في هذا الخصوص: ” لم تكن سياساتنا التربويّة السّابقة سوى “استعارة” من “الآخر” في المناهج والمضامين المعرفيّة والتربويّة، فشوّهت الواقع التعليمي التّونسي. كما لم تكن هذه “الإصلاحات” ناتجة عن دراسات وبحوث أكاديمية وميدانية، بل كانت مجرّد استجابة للضّغوطات الخارجية التي مارستها القوى المالية العالمية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. فقد اعتمدت هذه القوى العالميّة لفرض خياراتها وبرامجها عدداً من المعايير التنظيميّة الجديدة، وبنت شبكة من المفاهيم “الجديدة” لتسهيل عمليّة اختراقه ضمان مقبوليّتها. لهذا، فإنّ من شروط الإصلاح أن نعرف طبيعة هذه السّياسات المُعولمة لكي نعرف معاييرها، ومن هم الفاعلون المنتجون لها؟ وكيف تمّ نقلها وفرضها في الحقل المدرسي التونسي؟”

ويشير الكاتب في النهاية إلى عدد كبير من المعطّلات والعوائق في السياسات التربوية التي أحالت الإصلاح إلى مجرّد مراوغة إصلاحية لا معني لها. ومن أهمّها: اعتماد الأسلوب الارتجالي في وضع السياسة التربوية، وهيمنة العقليّة التّجارية في بناء المشروع التّربوي الجديد. وتغييب الأطراف المدرسية المؤثّرة في نجاح أيّ تغيير تربويّ مثل المدرّسين، بشكل مباشر أو عبر ممثّليهم في النقابات التّربوية، في مختلف القضايا التعليميّة. مثل: مسائل الزّمن المدرسيّ والنّظام التأديبي وغيرهما.

خلاصة:

من جديد، نقول إنّ كتاب مصباح الشيباني “أزمة التّعليم في تونس وإكراهات إصلاحه” يشكل نقلة نوعية في تناول جديد لجدلية الأزمة والإصلاح في تونس والعالم العربي، وتتمثل هذه النقلة في رؤى تربوية حداثية متجددة وأصيلة في الآن الواحد. فالكاتب وهو غني عن التعريف يتجاوز في عمله هذا الطروحات التقليدية في هذا الميدان، ويأخذنا ضمن مسارات جديدة في المنهج والرؤية والقدرة على استشراف المستقبل بناء على معطيات الواقع ومآلات النظريات السوسيولوجية والتربوية في هذا الميدان.

وفي هذا الكتاب نجد أنفسنا، إزاء خطاب في سوسيولوجيا التربية يتّسم بالطّابع الإبداعي في مجال التربية والإصلاح في تونس والعالم العربي. وفي تضاريس هذه المعالجة السوسيولوجية لجدلية الأزمة والاصلاح في التربية تتجلّى القدرة المنهجية للكاتب ضمن صيرورة إبداعية لا تنقطع في المنهج والرؤية والمعالجة الواقعيّة.

فالكاتب، بمنهجيته ورصانة تناوله لهذه القضية، يحفر في أعماق الواقع وفي تضاريس النظرية عن مختلف مداخل الأزمة والإصلاح، فينطلق من مؤشّرات الأزمة ليضع لنا تصورا تتضح فيه معالم الأزمة الإشكالية، ثم ينطلق ليبحث في متغيراتها الدينامية بحثا عن أفضل السبل والتصوّرات الممكنة نحو منهجيات التّجاوز الممكنة لتحرير النظام التعليمي من عوائق تقدّمه وانطلاقه نحو الحداثة التربوية بما تقتضيه من فعالية نهضوية وإنسانية شاملة.

وإنّنا نعتقد بوضوح أن هذا العمل يشكل نافذة حقيقية لرؤية معمّقة لمختلف الإشكاليات والأزمات التي تجتاح أنظمتنا التربوية والاجتماعية، وقد حان الوقت اليوم لنوظّف مفهوما آخر أكثر جدّة وأهمية من مفهوم الإصلاح، إذ علينا ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة أن ننطلق من مفهوم جديد يتعلّق بجدلية الأزمة والثورة. ونحن نعتقد اليوم أنّ الثورة على كل التراكمات الإصلاحية قد أصبح ضروريا، فالأنظمة التربوية متهاوية، وأسسها هجينة ومتداعية ولا يصلح العطّار ما أفسده الدّهر. نحن بحاجة اليوم إلى رؤى جديدة وتصورات ثوريّة عن وضعية التربية والتعليم في علاقتهما بالمجتمع والتطورات الحادثة في عالم الميديا والتكنولوجيا الرقمية المتقدمة.

وإنّني إذ أتوجه بالشكر العميق إلى مؤلف هذا الكتاب الدكتور مصباح الشيباني الذي شرفني بالاطلاع على هذا العمل وتقديمه، وأرجو للباحث التوفيق والنجاح في مآلاته العلمية، وفي مسارات حياته الأكاديمية وإنني أرى شخصيّا، أن هذا الكتاب يشكل إضافة حقيقية إبداعية في عالم الانتاج الفكري والعلمي في الوطن العربي.

ملاحظة: صدر كتاب الدكتور مصباح الشيباني بعنوان: قراءة نقدية في كتاب  ” جدلية الأزمة والإصلاح: أزمة التّعليم في تونس وإكراهات إصلاحه دراسة سوسيولوجية في السّياسات والمفاهيم والمؤشّرات: عن دار النشر التونسية GlD بإصدار 2021. وسلام الله عليكم.

__________

*د. علي أسعد وطفة جامعة الكويت في 1/3/2021.

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة