تأويل الوقائع الجدليَّة في رحلة الإسراء والمعراج

image_pdf

حزن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً لموت زوجه السيدة خديجة ( رضي الله عنها ) حزناً شديداً،ولقد عرضنا في فصول سابقة كيف كانت نعم الزوجة الوفية المخلصة لزوجها، وكيف آزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياتها، وكانت مصدر طمأنينة وثبات له، وكيف تحملت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيد الخصوم، وآلام الحصار، وما أشق حال الرجل إذا مات عنه زوجه وهي تحمل صفات وشمائل امرأة كالسيدة الطاهرة خديجة (رضي الله عنها ). ولقد توفيت السيدة خديجة ( رضي الله عنها ) قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، في نفس عام وفاة أبي طالب.

 

ومن الأمور التي تسترعي انتباه القارئ للسيرة النبوية أن أبا طالب حينما حضرته الوفاة جاءه زعماء قريش وحرضوه على الاستمساك بدينه ودين آبائه، وعدم الدخول في دين ابن أخيه محمد، ولقد عرض عليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم الدخول في الإسلام، قائلاً: ” قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة “، فقال أبو طالب: ” لولا تعيرني بها قريش يقولون إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك “، فأنزل الله تعالى: ) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ( ( سورة القصص / 56).

 

لكن الواضح أن أفكار ومعتقدات الجاهلية كانت راسخة في عقل أبي طالب، ولم يكن من السهل تغييرها، فهو شيخ كبير طاعن في السن يصعب تغيير فكره وما ألفه عن آبائه. وبموته تضاعفت مشاعر الحزن والأسى على رسول الله r، لقد كان أبو طالب سنداً حقيقياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة كفار قريش، وبعد موته نستطيع أن نجزم القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل بعد موته عمه ما تنوء بحمله الجبال، وقد تكالبت عليه المحن والمتاعب، الأمر الذي فرض عليه الانتقال من بلد إلى آخر لتبليغ دعوته والتماس النصرة، فخرج إلى الطائف.

 

رحلة الطائف:

سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إيجاد مركز جديد للدعوة، وكان اختياره للطائف باعتبارها العمق الاستراتيجي لقريش، وكثيراً ما حاولت قريش قديماً أن تضمها إليها، وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يعد توجهاً مدروساً مخططاً لتطويق قريش من خارجها.

 

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من خلال سيرته العطرة كيف يكون التخطيط الجيد، فنحن لا نحرص أن نقرأ السيرة النبوية كسياق تاريخي محض، بل الهدف الرئيس من تعلمها وتحليلها الإفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالات الدعوة والتبليغ، والتخطيط، والتعليم، وسبل الجهاد في سبيل الله.

 

وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الحيطة والحذر عند خروجه من مكة، فكان خروجه سيراً على الأقدام ؛ حتى لا يظن أهل مكة أنه يعزم الخروج من مكة فيتبعونه ويراقبونه، واختياره لشريك الرحلة يدل على عبقرية في التخطيط، فقد اختار صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة كي يرافقه في رحلته، وبتحليل هذا الموقف والاختيار نخلص إلى حقائق منها أن زيدا بن حارثة هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني قبل أن يحرم الإسلام التبني، فإذا رأه أحد معه لن يشك في الأمر، ولن يرتاب. كما أن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد تحديداً لعلم رسول الله لما يتمتع به زيد من صدق وأمانه وإخلاص وحب لرسول الله r، فهو مأمون الجانب.

ولعل رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائف كانت قاسية، وكلنا يعلم كيف فعل سفهاؤها وعبيدها بالنبي وزيد، حتى توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بالدعاء المأثور قائلاً: ” اللهم إني إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك الاعتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله “.

 

ولأن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ليس فقط في الصبر على المكاره كما ذكرنا سالفاً، إنما أيضاً في الدعاء إلى رب العباد، فقد ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه بالعبارة العظيمة التي علمها لأصحابه عند حلول المكاره والمصاعب وهي ” لا حول ولا قوة إلا بالله “.

 

ويقول الدكتور علي الصلابي إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء فهو عرضة للذلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تماماً، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى ربه بالدعاء، ليجد فرجاً ومخرجاً.

 

إن إصابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على القبائل بالطائف كانت نفسية، وكانت ولا ريب شديدة قاسية، ودليلنا على ذلك دعاؤه السابق الجامع المانع.ويذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه ” زاد المعاد في هدي خير العباد ” أن الله أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما، فقال r: ” لا بل أستأنى بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً “.

 

عداس النصراني:

لما لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة، رقّا له، فدعوا له غلاماً نصرانياً يدعى ” عداساً “، وأمراه أن يقطف عنباً ويذهب به إلى رسول الله r. ففعل عداس ما أمر به، ولما وضع العنب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: كل. فلما وضع رسول الله يده فيه، قال: ” بسم الله “، ثم أكل. فنظر الغلام في وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله r: ” ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ “. قال عداس: نصراني، وأنا من أهل نينوى. فقال رسول الله r: ” من قرية الرجل الصالح يونس بن متى “، فقال عداس: وما يدريك من يونس بن متى ؟. فقال رسول الله r: ” ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي “، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقبل رأسه ويديه.

 

وحينما علم ربيعة ورأى ما رأى من تقبيل الغلام لوجه ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: أما غلامك فقد أفسده عليك، ودعى عداساً فقالا له: ويلك يا عداس ! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.

 

والقصة السابقة وردت في أكثر من نص سابق، ومعظم النصوص التي سردت الواقعة السابقة، تحدثت عن صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  على الشدائد، وتحمله الصعاب التي واجهها وهو يدعو القبائل للإسلام، وبعضها تحدث عن فضائل الإسلام في الطعام، كالتسمية قبل تناول الطعام والشراب. والذي يمكن أن نستخلصه من هذه الواقعة الطيبة أن الذي لفت انتباه الغلام الصغير في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذكره للفظ الجلالة ” الله “، وهو أمر مستغرب على أهل هذه البلاد، التي لا تعرف سوى اللات، والعزى، وهبل، ومناة، وغيرها من الأصنام التي لا تفيد ولا تنفع، ولا تسمن من جوع، ولا شك أن نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم للفظ الجلالة ” الله ” قد هز كيان الغلام، وهدهد مشاعره، الأمر الذي جعله متقبلاً ومستعداً للدخول في الإسلام، لاسيما وأنه من أهل الكتاب.

 

ومن أبرز معالم رحلة الرسولصلى الله عليه وسلم  إلى الطائف واقعة إسلام الجن. حقاً، إنه اليقين بالتوحيد لرب العالمين، لقد انفرد الله ( سبحانه وتعالى ) بعبادة الإنس والجن له، بل لقد انحصرت مهمتنا على الأرض في عبادة الله وحده، لا نشرك به شيئاً.

 

والواقعة تفيد أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعاً إلى مكة، قام بجوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم، فاستمعوا لتلاوة الرسولصلى الله عليه وسلم  ، فلما فرغ من صلاته، ولوا إلى قومهم مدبرين منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما استمعوا إليه من تلاوة الرسول r. وقد قص الله ( تبارك وتعالى ) نبأهم على النبي في سورة الأحقاف، يقول الله تعالى: ) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) (  ( سورة الأحقاف / 29 ـ 32).

 

هؤلاء النفر من الجن يتلقون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته ودعائه دون أن يعلم بوجودهم، وأصبح اسم محمد تهفو به قلوب الجن، وليس الإنس فقط، حملوا راية التوحيد، ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: )قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) ( (سورة الجن / 1 ـ 2).

 

ولنا في رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائف دروس نستخلصها من الوقائع التي حدثت له أهمها الصبر على الأذى، وتحمل أعباء الدعوة والرسالة بكل قوة وجلد، والمراقبة الذاتية للنفس، وتصحيح المسار والمسلك، خوفاً من يكون هناك خلل يغضب الله تعالى، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا دعاءه المأثور.

 

ونعجب كل العجب حينما نهرول وراء التيارات والفلسفات الغربية ونؤصل لها، بل وندلل عليها ونترك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبة العطرة الخصبة بالمواقف والأحداث، ولنا فيها أسوة حسنة في الدين والدنيا معاً.

 

وأنا على سبيل المثال لي تجربة شخصية  في هذا الشأن، فحينما كنت بصدد إعداد أطروحتي للحصول على درجة الدكتوراه في مجال تعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية اخترت موضوعاً هو استراتيجيات ما وراء المعرفة، وهي جملة من الاستراتيجيات التدريسية فوق المعرفية العليا التي يستخدمها المرء في تعلمه للغة، وكانت منها استراتيجية المراقبة والتحكم، وتعني مراجعة الفرد لمساراته واختياراته وقراراته بوعي شديد، وطفقت ساعتها أفتش بين أدبيات التربية والمناهج الغربية عما يبرهن اختياراتي، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي، فينبغي للعاقل الراشد أن يتوجه إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستقي منها ما شاء من علم، ومعرفة، وسلوك.

 

إن توجيه الله لعباده المؤمنين بضرورة الأخذ بسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم باعتباره أسوة حسنة ليس توجيهاً اعتبارياً، بل هو توجيه مقصود، فمعظم الباحثين يوظفون العلم والمعرفة الحديثة توظيفاً دينياً، رغم أن الدين الإسلامي الحنيف هو الذي يوجه دفة العلم، ويحركها وفق ضوابطه وشريعة الله.

 

إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم معلم أول، ومرشد، لا ينطق عن هوى، ولا يسلك غياً، هو محاط برعاية الله وحمايته،  لا يركن ولا يتواكل، بل يفكر، ويسعى، ويأخذ بالأسباب، ثم يترك لله النتائج، وكفى بالله مدبراً ومحيطاً.

 

رحلة الإسراء والمعراج:

 

يذكر رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه ” سيرة الرسول وتأسيس الدولة الإسلامية ” أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر، قبل الهجرة بسنة، أسري به من حجر مكة المعظم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تنعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، فقد روى أبو هريرة ( رضي الله عنه )، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى “.

ثم عرج به من المسجد الأقصى، إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكما يوضح الدكتور محمد عمارة معنى العبارة صريف الأقلام أي صريرها وصوتها.

ولم يرد في أحاديث المعراج الثابتة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى العرش تلك الليلة، بل لم يرد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاوز سدرة المنتهى، بل انتهى إليها ـ والله أعلم ـ وقد سئل الشيخ رضي الدين القزويني ( رحمه الله ) عن وطء النبي صلى الله عليه وسلم العرش بنعله، وقول الرب ( جل جلاله ):لقد شرف العرش بنعلك يا محمد، هل ثبت ذلك أم لا ؟ فأجاب بما نصه: ” أما حديث وطء النبي صلى الله عليه وسلم العرش فليس بصحيح، وليس بثابت، بل وصول النبي صلى الله عليه وسلم ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح ولا حسن ولا ثابت أصلاً، وإنما صح في الإخبار انتهاؤه إلبى سدرة المنتهى فحسب، وأما إلى ما ورائها فلم يصح، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعيفة أو منكرة “.

 

ورحلة الإسراء والمعراج معروفة ومعلومة، رواها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه كما رواها البخاري ومسلم، فقال  r: ” بينما أنا في الحطيم مضطجع، إذ أتاني آت، فسمعته، يقول: ” فشق ما بين هذه إلى هذه “، يعني من ثغرة نحره إلى عانته، ” فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً، فغسل قلبي، ثم حشى “، والحديث فيه اختصار، والأصل: فاستخرج قلبه، ثم شق، واستخرج منه علقة، وقيل هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل بماء زمزم. وقد اختلف في تفسير الحكمة فقيل: هي العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نقاء البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك.  وحديث الإسراء حديث يطول في بعض كتب السيرة، ولكن الذي يعنينا ونحن بصدد هذه الحادثة الفريدة أن كل هذه الأمور يجب الإيمان بها وتصديقها.

 

ولقد اختلف في صلاته صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بالأنبياء ؛ قيل قبل عروجه، وقيل بعده، والأول استظهره ابن حجر، وصح الثاني ابن كثير، واختلف في هل كانت بالفاتحة أو بغيرها ؟، كما اختلف في طبيعتها، فقيل إنها الصلاة اللغوية أي الدعاء والذكر، وقيل الصلاة المعهودة، وهذا أصح، لأنه كما يذكر رفاعة رافع الطهطاوي من أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية، وإنما يحمل على اللغوية إذا تعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب الحمل علي على الصلاة الشرعية.

 

ومن الأمور التي منَّ الله بها على نبيه وعلينا أجمعين فرض الصلاة، وفرض الله عليه وعلى أمة الإسلام تلك الليلة كل يوم وليلة خمسين صلاة في أول الأمر، فما زال يراجع حتى صارت خمساً في الفعل، وخمسين في الأجر وتلك رحمة من الله وفضل كبير.

 

والحكمة من تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء رأى تلك الليلة تعبد الملائكة، منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى ولأمته تلك العبادات في ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضها في السماء، دون سائر الشرائع فإنها فرضت في الأرض، التنبيه على مزيتها على غيرها من الفرائض.

 

وكما يذكر السهيلي في التنبيه على فضلها، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة المطهرة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائطها، والتنبيه على أنها مناجاة بين العبد وربه عز وجل.

 

جدل حول رحلة الإسراء والمعراج:

 

من الوقائع التي أخذت حظاً عظيماً من الجدل من بين وقائع السيرة النبوية، حادثة الإسراء والمعراج، وما إن تلتقط كتاباً واحداً من كتب السيرة النبوية إلا وتجده يفرد صفحات لهذا الجدل، والذي يمكننا أن نختصره في أمرين فقط ؛ أما الأول فهو إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ما رأى، فلما أصبح النبي rقص على قريش ما حدث له وما رآه، فقال له المطعم بن عدي: ” كل أمرك قبل اليوم كان أمما، أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، مصعداَ شهراً، ومنحدراً شهراً تزعم أنت أنك أتيته في ليلة ! واللات والعزى لا أصدقك ! فقال أبو بكر ( رضي الله عنه): يا مطعم، بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته، وكذبته، وأنا أشهد أنه صادق “. فقالوا له: ” صف لنا يا محمد بيت المقدس، كيف بناؤه ؟ وكيف هيأته ؟ ؟ وكيف قربه من الجبل  “، وفي القوم من سافر إليه، فذهب ينعت لهم: ” بناؤه كذا، وهيأته كذا، وقربه من الجبل كذا، وسألوه أمارة، فأخبرهم بالعير، وأنهم يقدمون الأربعاء. فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب.

 

فدعا الله فحبس الشمس، وقيل وقوفها عن السير، وقيل بطء حركتها، وكان كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال ينعت لهم حتى التبس عليه النعت، فكرب كرباً ما كرب مثله، فجئ بالمسجد الأقصى وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا له: كم للمسجد من باب ؟، ولم يكن عدها، فجعل ينظر إليها ويعدها باباً باباً، وأبو بكر ( رضي الله عنه ) يقول: ” صدقت، صدقت، أشهد أنك رسول الله “، فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب ! “. ثم قالوا لأبي بكر: أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح ؟ قال: ” نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة “، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.

 

الحكمة من الإسراء إلى المسجد الأقصى:

 

يذكر رفاعة رافع الطهطاوي أن الحكمة من تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشاً تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفونه، مع علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع.

 

 

وإذا كان جدل قريش مع النبي وصاحبه قد انتهى، فسرعان ما بدأ جدل آخر في كتابات المؤرخين أنفسهم حول كيفية الإسراء، ولقد اختلف المؤرخون وكتاب السيرة في كيفيته، وأغلب المفسرين والمؤرخين أجمعوا على أن الإسراء كان بالجسد، والأقلية هي التي قالت إنما كان بالروح فقط. وهناك رأي ثالث مفاده أن الإسراء كان بالجسد إلى بيت المقدس، وبالروح من بيت المقدس إلى السماوات السبع، والصحيح عند الجمهور أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا رؤيا، والرؤيا هي ما أفاد به كل من حذيفة وعائشة ومعاوية ( رضي الله عنهم).

 

الأحاديث النبوية الواردة في الإسراء والمعراج:

 

روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ. يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَىٰ طَرْفِهِ) قَالَ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجْتُ. فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ. فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ” (صحيح مسلم، باب الإسراء برسول الله السموات وفرض الصلوات، (2/ 170)، برقم 356).

 

وروى البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وابن حبان بسندهم عن مالك بن صعصعة “أنَّ نبيَّ اللّهِصلى الله عليه وسلم  حدَّثه عن ليلةِ أُسري به قال: بينما أن في الحَطيم ـ وربما قال في الحِجر ـ مضطجعاً، إِذ أتاني آتٍ فقَدَّ ـ قال: وسمعته يقول: فشقَّ ـ ما بين هذه إلى هذه، فقلتُ للجارودِ وهوَ إلى جَنبي: ما يَعني به؟ قال: من ثُغرةِ نحرهٍ إلى شِعرَته ـ وسمعتهُ يقول من قَصَّهِ إلى شِعرته ـ فاستخرج قلبي، ثمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ من ذَهبٍ مملوءةٍ إيماناً، فغُسِل قلبي، ثم حُشي، ثمَّ أُعِيدَ، ثمَّ أتيتُ بدابَّة دُونَ البَغلِ وفوقَ الحمار أبيضَ.

 

فقال له الجارودُ: هوَ البُراقُ يا أبا حمزةَ؟ قال أنسٌ: نعم ـ يَضَعُ خَطوَةُ عندَ أقصى طرْفهِ، فحُملتُ عليه، فانطلَقَ بي جِبريلُ حتى أتى السماءَ الدُّنيا فاستفتَح، فقيل: مَن هذا؟ قال: جِبريل. قيلَ: ومَن معك؟ قال: محمد. قيلَ: وقد أرسِلَ إِليه؟ قال: نعم. قيل: مَرحباً به، فنِعمَ المجيءُ جاء. ففَتَح. فلما خَلَصتُ فإذا فيها آدمُ، فقال: هذا أبوك آدمُ، فسلمْ عليه. فسلمتُ عليه، فرَدَّ السلامَ ثم قال: مَرحَباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء الثانيةَ فاستفتحَ. قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟

 

قال: نعم. قيل: مرحباً بهِ، فنعمَ المجيء جاء. ففَتَح. فلما خَلَصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلمْ عليهما، فسلمتُ، فردّا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثمَّ صعد بي إلى السماءِ الثالثة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسلَ إليهِ؟ قال: نعم. قيل: مرَحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففُتح، فلما خَلصتُ إذا يوسُف، قال: هذا يوسُف فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح، ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الرابعة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَن معك؟ قال: محمد. قيل: أوَقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. ففتح.

 

فلما خلصتُ فإذا إدريس، قال: هذا إدريسُ فسلم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مَرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء الخامسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد أُرسلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا هارونُ. قال: هذا هارونُ فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم صعِدَ بي حتى أتى السماء السادسة فاستَفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلمْ عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ ثمَّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح. فلما تجاوَزتُ بكى. قيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنَّ غُلاماً بُعثَ بعدي يدخُلُ الجنةِ من أمَّتهِ أكثرُ ممن يدخُلها من أمَّتي.

 

ثم صَعِدَ بي إلى السماء السابعة، فاستَفتحَ جبريل، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعثَ إليه؟ قال: نعم. قال: مرحباً به، ونعمَ المجيء جاء. فلما خلصتُ فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلمْ عليه. قال فسلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثمَّ قال: مرحباً بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح. ثم رُفعَت لي سِدرةُ المنتهى، فإذا نَبقُها مثلُ قِلالِ هَجَر، وإذا وَرقُها مثلُ آذانِ الفِيَلة. قال: هذه سِدرة المنتهى، وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران باطنان ونهرانِ ظاهران. فقلتُ: ما هذانِ يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفُرات. ثم رُفعَ لي البيتُ المعمور.

 

ثمَّ أُتيتُ بإناءٍ من خَمر وإناءٍ من لَبَن وإناءٍ من عِسل، فأخذتُ اللبَن، فقال: هيَ الفِطرةُ التي أنت عليها وأمَّتُك. ثمَّ فُرِضت عليَّ الصلاةُ خمسينَ صلاةً كلَّ يوم، فرجَعْتُ فمرَرْتُ على موسى، فقال: بما أمِرت؟ قال: أمِرتُ بخمسينَ صلاةً كل يوم، قال: إن أمتكَ لا تَستطيعُ خمسينَ صلاةً كل يوم، وإني واللّه قد جربتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّك فاسأَلْهُ التخفيفَ لأمتك، فرجَعت، فوضعَ عني عَشراً، فرجَعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فوَضع عني عَشراً، فرجعتُ إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوَضَعَ عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعتُ فأمِرتُ بعَشرِ صلوات كلَّ يوم، فرجعتُ فقال مثله.

 

فرجعتُ فأمِرتُ بخمس صلواتٍ كل يوم، فرجعتُ إلى موسى فقال: بما أمِرتَ؟ قلت: أمِرتُ بخمسِ صلوات كل يوم. قال: إن أمتكَ لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كل يوم، وإني قد جَريتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيلَ أشد المعالجة، فارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التخفيف لأمتك. قال: سألتُ رَبي حتى استحيَيتُ، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوَزت نادَى مُنادٍ: أمضَيتُ فريضتي، وخَفَّفت عن عبادي».( صحيح البخاري، باب المعراج، (7/600)، برقم 3800).
__________

ـ أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية (م).

كلية التربية ـ جامعة المنيا.

________________

**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.

 

جديدنا