1
الفكرُ الإنساني ليس له معنى ولا فائدة في العلوم الاجتماعيَّة، إذا لَم يُقَدِّم حُلولًا منطقيَّة قابلة للتطبيق العملي. والعلومُ الاجتماعيَّة تفقد قيمتها الوجوديَّة وسُلطتها الاعتباريَّة، إذا لَم تُقَدِّم مشروعًا لخَلاصِ الفرد من الاغتراب النَّفْسي، وتَحَرُّرِ المجتمع من القَلَق الوجودي. وهذا يستلزم أن يندمج الفكرُ الإنساني معَ العلوم الاجتماعيَّة، مِن أجل إنقاذِ الإنسان مِن الوحش الساكن فيه، ونَقْلِ العلاقات الشعوريَّة من التوحُّش إلى الإنسانيَّة. وهذه هي الخُطوة الأُولَى لنقل المعنى المعرفي من جسد اللغة إلى تجسيد اللغة على شكل رموز قادرة على حمل تاريخ المجتمع، والحفاظ على هُويته الحضاريَّة. والرموز تُمثِّل أركانَ فلسفة الطاقة الذهنيَّة العابرة لحدود الزمان والمكان. وكُل ظاهرة اجتماعيَّة محصورة في لحظتها الزمنيَّة الآنِيَّة وإطارها المَكاني الضَّيق، يُمكن إيجاد تفسير عقلاني لها عن طريق فهم رمزيتها المُجرَّدة مِن مركزيَّة الأفراد ومصالحهم الشخصيَّة. فالرَّمْزُ هو النَّوَاةُ الفلسفيَّة، والمركزُ الذي يستقطب الأضدادَ، ويُعيد صَهْرَها في بَوتقة الذاكرة الجمعيَّة، لتحويلها إلى نظام عقلاني مُتجانس. وهذا النظامُ قائم على التكامل، حيث يُتمِّم العُنصرُ الآخَرَ ويتَّحدان معًا.
لذلك يَقبل هذا النظامُ الاختلافَ (تلاقح الأفكار المُتعدِّدة )، ويَرفض الخِلافَ (تعارُض المصالح ). وكما أنَّنا لا نستطيع الوصول إلى النَّواة إلا بإزالة القِشرة الخارجيَّة، كذلك لا نستطيع الوصول إلى الرمز إلا بإزالة الغلاف اللغوي. وهذا يعني أنَّ الرمزيَّة عمليَّة تعريَّة مُستمرة للشعارات النفعيَّة والأبجديات المُغرِضة والأيديولوجيات الفئويَّة، مِن أجل الوصول إلى الوجه الحقيقي للشيء خارج نُفوذ الأقنعة وسُلطةِ المرايا.
2
الرمزُ الإنساني في مصادر المعرفة الاجتماعيَّة لَيس شخصًا، ولكنه تشخيص، وليس جسدًا، ولكنه تجسيد. إنَّه تشخيص للحالة الشعوريَّة من أجل تفسيرها نفسيًّا واجتماعيًّا، وتجسيد لأشكال التفاعل الاجتماعي بين الوعي الأخلاقي واللغة النَّقِيَّة الخاليَّة مِن الشعارات، كالماء المُقطَّر الخالي من الشوائب. وهذا يُسبِّب اتِّزَانًا في عناصر المنظومة الثقافيَّة العامَّة، ويُحدِث توازنًا في التجربة الإنسانيَّة الشخصيَّة. أي إنَّ تفعيل ثنائيَّة ( التشخيص / التجسيد ) في الفكر الاجتماعي يُؤَدِّي بالضرورة إلى تجذير ثنائيَّة ( الاتزان / التوازن ) في المجتمع الإنساني، وهذا يكشف مدى الترابط بين المعنى والرموز التي تُعبِّر عنه. وإذا تكرَّسَ المعنى كَطَوْق نجاة للمجتمع، فإنَّ الرموز سَوْفَ تتَّحد لتصبح رمزًا واحدًا يُمثِّل بَرَّ الأمان وشاطئَ السلامة.
3
أخطر إشكاليَّة تُهدِّد طبيعةَ التسلسل المنطقي في الأنساق الاجتماعيَّة، هي مَوت المَعنى المعرفي، وغياب الرمز الفكري. والنَّوَاةُ المركزيَّة في اللغة تتكوَّن من المعنى والرمز، وإذا زالَ هذان المُكوِّنان، زالت شرعيَّة اللغة، واختفت مشروعيتها، وفقدت جَدْواها، وخسرت ماهيتها. وبدون اللغة سيتحرَّك الإنسانُ في الفراغ، ويتنقَّل بين الأوهام ضِمن متاهة لا مَخرَج مِنها، ونَفَق لا ضَوء في آخره. وهذا يعني أن غياب اللغة هو غياب للإنسان. وبما أنَّ اللغة هي الجهة المانحة للضَّوء في نهايَّة النَّفَق، فينبغي بناء الأنساق الاجتماعيَّة وَفق مَنطق اللغة، والحِرص على تَوليد المعنى، وتأسيس الرمز. وهكذا يَحْمي الإنسانُ نَفْسَه مِن السقوط في الفراغ، ويَحْمي أفكارَه مِن الغرق في العَدَم. وفي نَفْس الوقت، يُحافظ المجتمعُ على معناه الروحي، وكِيانه المادي، وقُوَّته الناعمة المُتمثِّلة في الثقافة الحقيقيَّة، التي تُعلِّم الإنسانَ التَّحليقَ في عوالم الإبداع، ولا تُعلِّمه كيفيَّة الدُّخول إلى القفص.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.