تبدو المسألة عميقة ضاربة بجذورها في أواصل تاريخ مصر المعاصر حينما نستقرئ فكر الجماعات الدينيَّة الإسلاميَّة التي انخرطت في الشأن السياسي لاسيما وأن مساهماتها لم تصب في مصلحة الوطن والمواطن بنفس القدر الذي أحدثه هذا الفكر وتلك الطروحات التي بدت في معظم الوقت أكثر قمعيَّة ووحشيَّة بل وأعنفها شراسة إن جاز التوصيف.
ولا يظن القاصي والأكثر دنوا أن قيام هذه الجماعات بسبب أن المجتمعات العربيَّة الإسلاميَّة الأصل والنشأة والتكوين هي جاهليَّة وغارقة في جحودها صوب الربوبيَّة كما زعم سيد قطب ومن تبعه من أنصار جماعات التكفير والهجرة الذين لجأوا إلى الدين الظاهري فحسب كستار لممارسات لا تليق بسماحة الإسلام ووسطيته واستثنائيته السماويَّة بل لتحقيق مطامح ومآرب تقترب إلى أرصدة الجاهليَّة نفسها. بل كانت النشأة الطبيعيَّة هي سدّ الفراغ ومعالجة جهل العوام واستغلال فترات الضعف التعليمي وانتشار البطالة وأيضا الوقوف في وجه بعض الأنظمة الحاكمة لاسيما وقت قيامها على وجه التحديد فترة تكوين جماعة حسن البنا وتنظيمه.
وعمق التجربة السياسيَّة للجماعات الإسلاميَّة نسبة إلى الملامح العامَّة لتكوينها لا لانتمائها الديني، يعود إلى منطق التصارع الذهني لدى أمرائها تجاه مدنيَّة الدولة ودينيَّة السلطة، الأمر الذي جعلها بغير علل أو فلسفة تشير علانيَّة بعلمانيَّة أيَّة تصريحات أو كتابات تنطق بالدولة المدنيَّة التي هي في الأساس أيضا من منجزات العصر الحديث التي تحتاج إلى تصويب ومراجعات طويلة.
وفكرة المدنيَّة التي كانت وستظل الهاجس المقلق لدى جماعات الإسلام السياسي هي مجرَّد أكذوبة روَّجت لها تلك الجماعات لدى مريديها وأنصارها بحجَّة أن الديموقراطيَّة تزحف بالأوطان نحو الهاوية وأنها ـ أي الديموقراطيَّة ـ وجه كاشف للضلال والكفر وعصيان الإله، رغم أنها في أوقات أخرى وفي أزمنة التمييع السياسي لظهور تيَّارات الإسلام السياسي استخدمت كافة رساميل الديموقراطيَّة وخصائصها للترويج لفكرها وخداع الأنظمة الأمنيَّة بسلميَّة هذه الجماعات، وسرعان ما تعود مجدّدا إلى طروحاتها الأصوليَّة السابقة التي تقصي الآخر وتستقطب من يوافقها ويرافقها في التوجُّه والهدف.
وعودة تيارات الإسلام السياسي للأصول وتوصيفها بالأصوليَّة ليست عيبا في حقيقة الأمر إذا كانت المرجعيَّة لتلك الأصوليَّة القرآن الكريم وفهمه الصحيح والسنَّة النبويَّة الصحيحة الخالية والخاوية من التحريف والتصحيف والتبديل والوضع والتجريح وهي مفردات أزعم أنَّ جملة من أمراء تلك الجماعات لا يمكنه التفريق بينها بل أزعم حد اليقين بأن مجمل زعماء حركات التكفير والهجرة والجماعة السلفيَّة الجهاديَّة وصولا إلى تنظيم داعش الدموي بمنأى عن مفاهيم الناسخ والمنسوخ والجرح والتعديل وأكثر ابتعادا عن مزاحمة التأويل.
لكن أصوليَّة الجماعات المنسوبة للإسلام السياسي ليست كما أرى تهرع نحو مصادر التشريع بضوابط استخدامها، بل هي معتقدها الزمني تقر بحجب كافة محاولات التجديد والاجتهاد، بل هي نفسها تعاني من فقر الاجتهاد اللهم فقط فيما يتعلق بأمور النساء وتحكيم الرغبات الجنسيَّة كما رأينا وطالعنا فتاوى عجيبة كإرضاع الكبير والزواج من الصغيرات انتهاء بفتاوى فساد الأدمغة من مثل نكاح الجهاد وجهاد الحب.
وفقر التجديد لدى أمراء وزعماء حركات الإسلام السياسي متعدَّدة الأسماء والتوجّهات من الإخوان المسلمين والجهاد والسروريَّة والتكفير والهجرة والسلفيَّة الجهاديَّة والقاعدة وغيرها من هو الذي دفع بغير إرادة إلى الاحتكام لطروحات تنظيريَّة لا يمكن الفكاك منها مثل الأدوار التي يقومون بها من توعية الجماهير مستغلين بساطتهم المعرفيَّة بقضايا الدين وأحكام الفقه والحركات الدينيَّة في الإسلام واختلاف المذاهب أيضا، كذلك أدوار من مثل رعاية الأيتام والخطابة التقليديَّة القائمة على الإقناع الصوتي والتفاعل غير اللفظي والتأكيد على مخارج الحروف دون المضمون المعرفي، وأخيرا الدور التقليدي تاريخيا لدى هذه الجماعات وهو نصح النساء، لدرجة أنني وغيري ممن يرون ضرورة في تنوير العقول، نرى أن رخصة قيادات جماعات الجهاد الشرعيَّة هي تناول قضايا النساء بصورة مبالغة أكثر من تداولها بين النساء أنفسهن الأمر الذي يحتاج من روّاد التخصّص السيكولوجي دراسة هذه الظاهرة الملتبسة.
هذا الزعم بالأصوليَّة التي يتزعّمها شيوخ وأمراء التيارات الجهاديَّة جعلهم أكثر اجترارا لقضيَّة الخلافة التي طالما نجدها في كافة كتابات الراديكاليين بنفس القدر الذي نرصده عند التنويريين والمجدّدين أيضا، وفكرة الخلافة والكونيَّة والصرامة المطلقة في تحقيقها أبعدت جماعات الإسلام السياسي عن مشكلات المجتمعات العربيَّة الإسلاميَّة الحقيقيَّة، وأفقدتهم التزامنيَّة مع أزمات الوطن الاقتصاديَّة، وباتت الخلافة رهن ثلاثة محاور فقط من رؤاهم الضيِّقة؛ الأولى هو الوصول إلى سدّة الحكم كما حدث في مصر وتونس على سبيل المثال وهو الحلم الذي كرَّس له ودشّنه حسن البنا وتنظيمه عبر مراحل محدّدة هي التكوين والتأهيل والكمون ثم التمكين، حتى كان السقوط في ثورة مصر الشعبيَّة في الثلاثين من يونيو 2013، المحور الثاني هو فساد السلطة السياسيَّة الحاكمة حتى وإن شُهد لها بالصلاح، إلا أن أيَّة سلطة حاكمة ليست تنتمي إلى فكرها ومنهجها والولاء المطلق لرموزها، أما المحور الأخير فهو اجتماعي يعود بنا إلى سياق سابق ألا وهو التفكير في المرأة، فالمجتمع سافر بأفعالها، مبتذل بخروجها إلى العمل، في طريقه إلى انحطاطه عبر ارتيادها مناطق الرجال الاجتماعيَّة كالرياضة والجامعة والبرلمان، بلا شك الهوس المرتبط بالجسد يظل الملمح الأكثر بروزا واتّساعا وارتيادا أيضا في فكر أمراء الجهاد المزعوم.
ويتّفق كل مسلمي كوكب الأرض على شرف ومكانة وقدر الخلفاء الراشدين وزمنهم الطيب ذِكرًا وسيرة ورواية، ومن الصعوبة أن تجد من يخالف الاعتقاد بتلك المكانة التاريخيَّة، وهي الساحة التي طالما يلعب على ثراها الجهاديون المعاصرون، لكن رغم هذا السمت العام الذي يتشاركه التنويريون والراديكاليون معا، بل والعلمانيون أيضا أراهم على نفس درجة تمجيد زمن الخلافة الراشدة وهو بحقّ يستحق التمجيد، إلا أن بقاء أمراء التيارات الجهاديَّة عند تخوم زمن الخلافة وحدودها فقط يزيد من قمع كل محاولات التجديد بل والإصلاح أيضا، لأن المسلم وحسب استقطابه ذهنيا ووجدانيا عبر خطب الجهاديين مهما ارتقى في تدينه وصلاحه الفردي والجمعي سيجد نفسه بمنأى عن صلاح زمن الخلافة الراشدة حتى يصل به الأمر إلى مقاطعة العصر الذي يعيشه.
الأمر الذي وجدناه في الوقفة الاحتجاجيَّة المصريَّة في شتاء يناير 2011 حينما ركبت جماعة الإخوان المسلمين وبعض جماعات الإسلام السياسي الأخرى في مصر موجة الغضب والانتفاضة الشعبيَّة فوجدناها تنادي بشعارات لا علاقة لها بحضور المشهد الراهن مثل ” خيبر خيبر يا يهود “، و ” كلنا إلى الأقصى زاحفون ” وهي شعارات قد نجدها طبيعيَّة على أرض فلسطين المحتلة، مما يؤكِّد انفصال هذه الجماعات بأعضائها عن الوقت والحدث.
ورغم هذا الانفصال، نجد أن الجماعات الجهاديَّة نجحت فيما أخفقت فيه النظم العربيَّة الحاكمة بمؤسّساتها الرسميَّة ؛ فتيارات الجهاد المسلح استطاعت استقطاب ملايين الشباب العربي والغربي لأفكارها عبر الإنترنت، ونجحت بامتهار وكفاءة في انتزاع عقول الشباب العربي من حضن المؤسَّسات التعليميَّة الرسميَّة، ففي الوقت الذي توقّفت فيه الدراسة بمعظم الدول العربيَّة ولجأت إلى اعتماد نظام التعليم عن بعد، كان الاستخدام قاصرا ومحدودا ولم يتمتَّع بالقدر الكافي من الريادة والانتشار وجذب الطلاب العرب رغم تعدّد المنصَّات التعليميَّة.
في الوقت نفسه الذي هرعت مسرعة تلك الجماعات التكفيريَّة ومنها تنظيم داعش إلى تدشين عشرات المنصَّات الرقميَّة ومئات المواقع والصفحات الإلكترونيَّة عبر شبكة فيسبوك لاستقطاب الشباب الذي بدا أكثر سطحيَّة وأقل عمقا في الفكر والتحليل والتأويل لما يُعرض عليه، فاستحال لقمة سائغة وفريسة سهلة القنص لدى جماعات الجهاد التكفيريَّة.
وكل الخوف أن يكون التعلّم عن بعد الذي تتباهى به الدول العربيَّة اليوم هو السلاح الأكثر شراسة في أيدي جماعات التكفير الجهاديَّة، لاسيما وأن الطلاب أصبحوا بعيدين عن خبرة الأساتذة المباشرة والإقناع والتواصل المباشر معهم.
وحينما نرصد نوافذ جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، لا يمكننا التغافل عن استخدامها التاريخي بغير كلل لفكرة ممنهجة مفادها وضع الدين (ظاهريا) في خدمة الفكر السياسي الخاص بأيديولوجياتها، وتاريخ العرب المعاصر تحديدا منذ بدايات ظهور تنظيم البنا يؤكِّد أن الغرض الأساسي لهذه التنظيمات هو الوصول إلى السلطة رغم آلاف التصريحات والأيمان وأغلظ القسم بأنها ـ الجماعات ـ لا تسعى إلى الحكم أو السلطة لكن حقيقة المشهد تبدو دائما مغايرة للمنطوق اللفظي لديها.
لذلك، ما ينبغي التنويه عليه والتشدّد كما يفعل الراديكاليون أنفسهم، أن فكرة المراجعات الدينيَّة لأمراء هذه الجماعات وشيوخ تلك الفرق وقيادات التنظيمات الجهاديَّة بعد أن يتمّ القبض عليهم يجب أن تؤخذ بعين الحذر والترقّب، ففي زعمي أن منطق الاستتابة لدى هؤلاء غير حقيقي أو صادق تماما، وأن سياسات التسامح ومظاهر الاعتدال المؤقَّت لديهم سرعان ما تنقلب إلى وحشيَّة وقمعيَّة واستلاب حين التمكن تماما كما شاهدنا في أحداث رابعة العدويَّة وكل محاولات مقاومة السلطة العسكريَّة في مصر، ومن الغريب أن جماعات تدِّعي السماحة وهي في جوهر الأمر وواقعه تستخدم كل الحلول المسلَّحة عند المواجهة.
وأيديولوجيَّة الجماعات الجهاديَّة التي ينبغي أن تكون معروفة ومحفوظة لدى أجهزة الأمن العربيَّة تبدأ بالتدرُّج في العرض والصبر في الترويج والشيوع داخل التجمّعات البشريَّة، ثم اللجوء إلى حلول جذريَّة تمثّلت ولا تزال في الاغتيال السريع للمخالف، ثم التوسّع مرَّة أخرى في مقابل التشدّد في تطبيق نظريات تلك الجماعات، هذا ما جعلني وقت الكتابة استرجع ثمَّة إشارات تاريخيَّة منها ما قام به صلاح هاشم من تكوين جماعة دينيَّة بجامعة أسيوط ضمت بعض الرموز الجهاديَّة مثل كرم زهدي وعاصم عبد الماجد وأسامة حافظ وغيرهم من رموز التكفير والغلو والراديكاليَّة الذين لا أثق بعد في استتابتهم الفقهيَّة غير المقنعة، هذه الجماعة التي أسَّسها طلاح عاشم جاءت كما زعمت لمقاومة منكرات الحرم الجامعي وأبرزها وأهمّها وأخطرها من وجهة تفكير هؤلاء المهووسين جسد المرأة وزيها وفساتينها وأحذيتها وكل ما يتعلَّق بالأنثى، فبدلا من أن يقوم هو وفريقه الجهادي بتثوير البحث العلمي والانطلاق إلى مجالات مجهولة في العلم كان المنكر في نظرهم هذا الجسد الأنثوي الذي يروح ويغدو، في نفس الوقت الذي كانت المنيا على موعد مشهود مع ترويع المدنيين لاسيما الأقباط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
كل هذا يجعل العقل يتذكَّر بدايات السلطة الدينيَّة في أوروبا حينما حاولت الكنيسة الكاثوليكيَّة الجمع بين السلطة الدينيَّة والسلطة السياسيَّة وفرض الزمن التاريخي على الواقع المشهود، ممَّا أدَّى إلى ممارسات أكثر وحشيَّة بشأن كل معارض كما تم على أيدي البابا جريجوري التاسع في عام 1233 من خلال محاكم التفتيش وأصبحت هذه المحاكم بقوة القانون على يد البابا إنوسنت الرابع عام 1252 وما قام به من وحشيَّة وقمع تمثلت في حرق المخالف.
إنَّ الإسلام دين يدعو إلى الرقي والارتقاء بالعقل البشري وبالإنسانيَّة في كافة صورها، دين سماوي يحث على إعلاء كل قيم السمو والرفعة ويدفع الإنسان من خلال الاتصال بربه عبر العبادات والطاعات أن يستحق ولاية الأرض وخلافتها هذا ما يغفل عنه أنصار وأمراء جماعات الجهاد والتكفير.
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربيَّة ( م ).
ـ كليَّة التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر
________________
**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.