إدراكُ طبيعة العلاقات الاجتماعيَّة يُحفِّز عمليَّة التفكير الإبداعي، ويربطها بمعايير الحريَّة والتحرّر التي تُحدِّد سُلوكَ الإنسان، وتُنظِّم وظيفته المركزيَّة في المجتمع. وهذه الوظيفةُ المركزيَّة لَيست حركةً روتينيَّة، أو وسيلة لِكَسْب المَعَاش، أو تحصيل حاصل، وإنما هي انتقال حياتي عقلاني مُستمرّ من الوُجود إلى الوِجدان، أي: مِن الذات المُجرَّدة التي تَشغَل حَيِّزًا في الزَّمان والمكان ( الزَّمَكان )، إلى الوَعْي بالذات والشُّعور بها. وكُل إنسان يُدرِك أنَّه لَم يَكُن مَوجودًا في هذا العَالَم، ثُمَّ صارَ مَوجودًا فيه، ومالكًا لشخصيته المُتميِّزة وسُلطته الاعتباريَّة وهُويته المعرفيَّة، ولكن لَيس كُل إنسان عارفًا بذاته، ومُدرِكًا لأبعاد شخصيته، وعَالِمًا بتفاصيل سُلطته، وواعيًا بنِقاط قُوَّته ونِقاط ضَعفه، وهذا لا يعني أن الإنسان جاهل، بَل يَعني أنَّ معرفته محدودة، ومُستوى وَعْيه مُنخفض، وأنَّه لَم يَبذُل جُهدًا كافيًا لاكتشاف أعماق ذاته.
وكثيرٌ من الجوانب الاجتماعيَّة والمجالات الشعوريَّة لا تزال خافيَّة على الإنسان نَفْسِه، معَ أنَّها تتمركز في أعماقه، وتستقر في داخله. وهذا يُفَسِّر ظُهورَ بعض العناصر الإنسانيَّة في اللاوَعْي واللاشُعور. وكما أنَّ فَلَتَات اللسان تُظهِر خفايا القلب غالبًا، بعيدًا عن المُجَامَلات والمُدَاهَنَات، كذلك السُّلوكيات التي تَحدُث دون تخطيط واعٍ أوْ شُعور مُنظَّم، تُظهِر الصِّراعَ في جَوْفِ الإنسان، وتَكشف عن الحرب الأهليَّة التي تَستعر في داخل كِيانه، وهذا يُشير إلى أنَّ الأجزاء الخَفِيَّة في الذات الإنسانيَّة أكثر تأثيرًا وأشد خُطورة من الأجزاء المكشوفة، وأنَّ الجُزء المخفي مِن جبل الجليد هو الأساس والركيزة التي تَحْمِل الجُزءَ الظاهري.
الوظيفةُ الأساسيَّة للتفاعل الرمزي في العلاقات الاجتماعيَّة، هي دراسة الحرب الأهليَّة التي تَحدُث بين الإنسان ونَفْسِه، ومدى تأثيرها في طبيعة الذات والبيئةِ المُحيطة بها. وخُطورةُ هذه الحرب أنها سِرِّيَّة، وشديدة الغُموض، ولَيس لها ضجيج مَسموع، لذلك لا أحد يهتم بها، أو يَعبَأ بأسبابها، أو يَأبَه لنتائجها، لأن الناس رَبَطُوا الحَرْبَ بالضَّحايا والدِّماء، واعتقدوا أنَّ عدم وجود ضحايا يعني عدم وُجود حرب، وهذا المبدأ صحيحٌ في مجال الحروب العسكريَّة الماديَّة التي تَجْري في ميادين القِتال، ولكنَّه مبدأ خاطئ تمامًا في العلاقات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، لأنها تَحتوي على حُروب روحيَّة غامضة بلا أصوات خارجيَّة، لأنَّ الضجيج يَكون في أعماق الإنسان، والصُّراخ الداخلي يُمزِّق قَلْبَه، ويُذبَح الإنسانُ كُلَّ يَوم بدُون سُقوط ضحايا ولا تناثُر دماء، لأنَّه هو الضَّحيَّة الصامتة، والقُربان السِّري.
وعدمُ وجود دَم لا يعني عدم وُجود حرب، لأن الإنسان الذي يخوض حربًا ضِدّ نَفْسِه يَنزِف أحلامًا ومشاعر وذِكريات، ولا يَنزِف دمًا، كما أن شظايا قلبه تتساقط في أعماقه، وترتطم بكُل جُزء في كِيانه، ومعَ هذا لا يَشعَر به أحد، ولا تُمَدُّ له يد العَون، لأن كُل إنسان مشغول بمصيره الشخصي، وغارق في نظام استهلاكي ميكانيكي مُغلَق، يقوم على قاعدة الخَلاص الفردي، والهرب من السفينة قبل غرقها. وعدمُ وجود مقبرة لا يعني عدم وجود أموات،لأنَّ كثيرًا مِن الأموات يَسيرون في الشوارع، ويُمارسون حياتهم التي انتهت صلاحيتها بشكل روتيني وظيفي بلا حُلم ولا أمل، وهُم لا يَعرِفون أنهم ماتوا لأنهم أشباح مُتحركة.وعدمُ وُجود دُخَان لا يعني عدم وجود نار، لأن نار الذكريات التي تُحرِق الذاكرةَ لا ضَوء لها ولا دُخَان.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.