“الآخر” في الثقافة القرآنيَّة
في إحدى الورشات التدريبيَّة التي يقيمها المنبر الدولي للحوار الإسلامي في البلدان العربيَّة، سألني أحد المشاركين: إذا كان القرآن الكريم يشكِّل البوصلة الأصلح التي تهدي الإنسان في رحلة الحياة، فكيف يمكن تفسير نجاح آخرين ليسوا بمسلمين ولا يعرفون القرآن في حياتهم على الأرض؟ ثمّ استدرك وإن كان في النهاية نجاحًا نسبيًّا.
بالنسبة لي كان هذا السؤال أولا مؤشّرًا على الزاوية التي ينظر منها (بعضنا) إلى نفسه (نحن) وإلى الآخر (هم)، وإلى الزاوية التي ينظر منها بعضنا إلى (القرآن الكريم) باعتباره صكّ غفران لمن يؤمن بوجوده، وللقوم الذين نزل بلغتهم، لا باعتباره كتاب “تذكرة” و”بصائر” وسنن إلهيَّة حتميَّة التحقّق تضبط إيقاع حركة الإنسان على الأرض ومسيرته نحو الغاية التي يعلمها خالق هذا الكون، فلا السنن حكر على أحد ولا الغاية تخصّ خلقًا دون آخرين.
السؤال أيضًا ينطوي على التسليم بحتميَّة الاحتكار، احتكار الحقيقة وأيضًا احتكار النجاة، فإذا كنّا نحن على حقّ كيف يكون الآخر على الضفَّة الأخرى على حقٍّ أيضًا؟
والواقع أنّ السؤال الأخير صار بديهيًّا إلى درجة تصعب ملاحظة انطوائه على تناقضٍ صارخ مع المفهوم القرآني للهداية/ النجاة باعتباره مسارًا وصيرورة، لا حالة قائمة ناجزة، وباعتباره وعدًا للجميع يتحقَّق في حال استيفاء شروطه.
ربّما يتبادر إلى الذهن سؤالان هنا، الأوّل عن تعريف “النجاة”؟ والثاني إن كان “الإنسان” كنوع، مؤهلا لإدراك شروط “النجاة” وأسبابها والأخذ بها، دون الحاجة لإرشاد من جهةٍ أعلى خلقته وهي أعلم بأحواله ومساراته، وبالتالي إن كان مؤهّلًا لإنتاج معايير ثابتة للسلوك المنسجم مع الغاية التي يسير نحوها؟ وأخيرًا، من هو الحكم؟
الفقرة الأخيرة تنطوي على افتراضات عديدة أوّلها وجود تعريف أو بالأحرى تعريفات محدّدة لـ”النجاة” وثانيهما أنّ الإنسان اختار “النجاة” وصار واعيًا بضرورتها عقليًّا وثالثهما أنّ الإنسان تعرّف (وربما اتّفق) على الغاية التي يسير نحوها وعليها يحدّد معاييره للطريق القويم باتّجاهها.
قد تتناسل الافتراضات والتساؤلات هنا غير أنّني لست بصدد الإجابة أو التوسّع فيها، وأوردها في هذا العمود لغاية هي التذكير بأنّ سؤالا/ يبدو بسيطًا/ ومتداولًا كالسؤال الذي طرح في الورشة المشار إليها في مقدّمة المقال، كيف ينطوي على رؤية كونيَّة مكرّسة تحكم نظرتنا لأنفسنا والآخر.
عليه، ليس سهلًا الترويج لمفهوم قبول الآخر وربما الاحتفاء به والدفاع عنه/ وليس ازدراء حضوره، دون العودة للمصدر الذي يشكّل الإطار المفاهيمي لذهن المسلم الآن والذي يحدِّد رؤيته للكون والخلق.
ربّما تجد الدعوة إلى مسؤوليَّة الفرد في “التدبّر في آيات القرآن الكريم” بعض التردّد وتعيقها تراكمات من المخاوف والضوابط المختلقة، غير أنّ ذلك يجب ألا يمنع أصحاب الاختصاص من التحرّك باتّجاه مراجعة وملاحقة مستمرّة للمفاهيم التي ترسم كيف يرى المسلم المعاصر نفسه وما حوله، وذلك بمحاولة تمحيص مدى قربها أو بعدها عن المفاهيم القرآنيَّة، حيث يؤمن المسلمون أنّه كتاب “الفصل” بينهم، بدل الركون إلى التعاريف المكرّسة ابنة اجتهادات زمانها ومكانها.
في جواب لي على السؤال المشار إليه في المقدّمة طلبت من “المشارك” أولا أن يبحث في القرآن الكريم عن سنن “الفلاح” في الحياة على الأرض، ثمّ سألته سؤالا محدّدًا: هل تكفي الطبيب معرفته في أسباب الأمراض وأعراضها كي يكون في منجاة منها؟ وهل يمنع غير عارف في أسباب الأمراض وأعراضها أن يتجنّبها باستيفاء شروط الحماية منها يسبّب نمط حياة سليم نشأ عليه مثلا؟
هذه مقاربة تبسيطيَّة الهدف منها أن يبدّل المتدرّب الزاوية التي ينظر من خلالها لقوانين “الهداية” في القرآن الكريم وأن يعيد قراءة مفهوم القرآن المنزل “للناس كافة”.
ربما استعرت في هذا في هذا العمود الطريقة التي تثير فيها عادة الأسئلة في الورشات التدريبيَّة التي نقيمها للشباب المسلم لنقودهم بالتالي إلى التفكير التمحيصي والتركيبي حول المفاهيم التي تؤسّس لذهنهم، ساعين إلى تنمية ذهن حرّ يعي جزءًا من تركيبته وتداعياتها على سلوك الفرد وحياته، بدل محاولة إعطاء إجابات نهائيَّة قد لا تكون متوفّرة في كثير من الأحيان، أو قد لا تكون هي المقصودة بحدّ ذاتها، بل الطريق إليها.
_______
*الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.