تزايد الاهتمام بموضوع الهويَّة في عالمنا العربي والإسلامي في مقابل تزايد قوّة ونفوذ نظام العولمة الكاسح للخصوصيّات المحلّيَّة، والقائم على التنميط الثقافي للمجتمعات، وهو ما ساهم في خلق وعي مقاوم للهيمنة والسيطرة للحفاظ على هويَّة مجتمعاتنا الإسلاميَّة، ولم يكن من الصعب خلق مثل هذا الوعي المناضل والرافض لاطروحات الغرب، سيما وأنّ الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة المعاصرة، طوّرت من خلال احتكاكها السابق بالتجربة الغريبة، منهجيَّة في التفكير تقوم على الثنائيّات المتنافرة، لحلّ القضايا والأزمات، سواء الداخليّة منها أو الخارجيَّة، فمقابل ما تسعى إليه العولمة من الهيمنة والسيطرة اقتصاديًّا وثقافيًّا، يبرز مفهوم الهويَّة معبّرًا عن الخصوصيّات المحلّيَّة، ومدافعً عن المرجعيَّة الثقافيَّة للمسلمين وهو أمر إيجابي إذا ربطناه بالنيَّة الإيجابيَّة لأصحابه حرصًا منهم على حفظ هويّتنا من الضياع والاندثار.
ولكن مثل هذا التعاطي يضيّع فرصة التشخيص الدقيق لواقع المسلمين المتأزّم، بسبب طغيان الجانب العاطفي على حساب العقلاني، ففي حالتنا هذه، يتمّ رسم صورة نمطيَّة ثابتة لهويّتنا، تضفي عليها كل ما هو مجيد ورائع، ولا ترى فيما يصدر عن “الآخر” إلا عكس ذلك، مثل هذا التبسيط تضيع معه جملة حقائق كان بالإمكان أن توجّهنا نحو سلوك أقوم في كسب رهانات اليوم، ومن أمثلة هذه الحقائق التي ينبغي إعادة النظر فيها اليوم مسألة ثبات الهويَّة الإسلاميَّة ونقائها. خاصّة حين يقرن أصحاب هذا الاتّجاه بين الهويَّة والإسلام، فيكتسب مفهوم الهويَّة من هذا الربط صفات الإسلام وخصائصه المطلقة والثابتة، وعليه، تكون عبارة الهويَّة الإسلاميَّة معبّرة عند هؤلاء عن حالة ثابتة وجامدة، ينبغي الرجوع إليها والتحصّن خلفها من رياح العولمة العاتية.
ولو دقّقنا النظر، لوجدنا ذلك مخالفًا للحقائق التاريخيَّة، لإغفاله عمليَّة المثاقفة التي جرت في التاريخ، وأبانت عن مرونة في استيعاب الإسلام لهويّات متعدّدة ومتنوّعة، ومواءمة لمكاسب الثقافات السابقة والمعاصرة له، والتي ساهمت في إخصاب تجربته، وكانت علامة من علامات قوّته وتفوّقه.
إنّ التعامل مع الأوضاع الراهنة من منطلق ردود الأفعال، يعبِّر عن عدم وصولنا إلى مرحلة الرشد بعد؛ ذلك أنّ المشاريع تواجه بمشاريع مماثلة، وهو ما يعتبر شبه غائب عن ثقافتنا، بل حتى في حالة وجود مثل هذه المشاريع تبقى بدورها هائمة في إطار ردود الفعل العاطفيَّة، بعيدًا عن التفكير العقلاني والروح النقديَّة، الواجب توفّرهما في التعامل مع الوافد والموروث على حدٍّ سواء، ويمكن التدليل عن ذلك ليس فقط بالتوجّه السلفي المنغلق على ذاته والمستهلك للقراءات التقليديَّة للتراث الإسلامي، بل يمكننا أن ندرج ضمن هذا التوجّه أيضا ذلك المشروع الثقافي الذي أرساه المسلمون من خلال مؤسّسات أكاديميَّة في الغرب، وأراد أصحابه أن يحلّ الأزمة الفكريَّة والمنهجيَّة عند المسلمين اليوم، والمعروف بمشروع “أسلمة المعرفة” أو “أسلمة العلوم” في صيغة أخرى للهروب من مواجهة المشاكل الحقيقيَّة بتقديم أغلفة “إسلاميَّة” لما أنتجه العقل الغربي، فصار حديثنا عن طبٍّ إسلامي وعلم نفس إسلامي وعلم اجتماع إسلامي.. دون أن تجد في هذه الموضوعات جهدا لنا يذكر، ولذلك فإنّ مقولة الأسلمة وجه آخر من أوجه التعبير عن العجز العلمي والمعرفي والمنهجي وافتقاد القدرة على التثاقف بديلا عن ثقافة المواجهة الثنائية المانوية، فضلا عن أنّ العلم والمعرفة ليس لهما دين، ذلك أنَّ عمليَّة المثاقفة التي تملك لنا رصيدا في تاريخنا الإسلامي تتيح إمكانيَّة المساهمة والتعديل والاقتراح، وبالتالي الانخراط في الثقافة العالميَّة بروح إيجابيَّة تمكّننا من المساهمة في إغنائها من جهة، والإفادة منها من جهة أخرى، ضمن مشروع ثقافي عربي وإسلامي يستوعب معطيات عصره، ويضع الاستراتيجيّة العامّة لقضاياه، بغير ذلك ستبقى الآراء والأفكار حتى وإن كانت سديدة ورشيدة مجرد صيحة في واد.
_______
*الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.