التنويريسلايدرفكر وفلسفة

البداوة الرقميَّة؛ بين شجرة المعرفة وشبكة التَعَلُّم

توقعات صائبة:

إن التسارع الهائل في تطور تقنيات الاتّصال، اختصر الزمان والمكان، وجعل حقائق العالم داخل جهاز هاتف صغير، وفي متناول العين بلمسة بنان. واليقين أنَّ مارشال ماكلوهان، الذي توافقت مراجع الإعلام على تسميته بـ”رسول الإعلام الحديث”، نسبة لاستشرافه لقدرة وسائل الإعلام في تمكين “حواس” الإنسان من التمدُّد، وقدرتها أن تكسر حواجز الزمان والمكان، وأن العالم سيصبح “قرية كونيَّة”، كأوَّل إشارة علميَّة لفكرة “العولمة”، ستأخذه الدهشة ممّا بلغته تقنيات الاتِّصال من تقدُّم. وقد يعتريه ذهول “أهل الكهف” من مشاهد متّصلة بالتّطور، الذي قد حدث في كثافة المعلومات والبرمجيات والذكاء الاصطناع، خصوصاً في منصَّات التواصل الاجتماعي. رغم أن ماكلوهان يُعَدُّ من القلائل، الذين توقَّعوا أن الاتّصالات السّلكيَّة واللّاسلكيَّة، على سبيل المثال، ستسيطر على حركة المجتمع، وتؤثِّر على اقتصاد الاتّصال الدّوليّ للقرن الحادي والعشرين، وصدَّقت توقّعاته. فقد قامت أطروحاته الأساسيَّة على أنَّ المعلومات وتكنولوجيا الاتّصال ستحدثان تّغييرات في بنية المجتمع البشري، على الأقل، كما فعلت الصّناعة في المجتمع الصّناعيّ.

وعندما نناقش، هذه الأيام، بيئة المعلومات ومجتمع المعرفة، وننادي بضرورة تَعَلُّم كل أوجه الاتّصال، فكأننا نستعير فكرة “الشبكة”، التي تأسَّست عليها فكرة الإنترنت المركزيَّة، والتي لا يمكن عكس تأثيراتها الجذريَّة على طريقة ممارستنا لتفاصيل حياتنا. بهذا الفهم، فإننا يمكن أن نرَى العالم كشجرة للمعرفة التّقليديَّة، ذات جذع سميك وطويل يطارد أشعَّة الشمس، يتشعّب بجذوره داخل الأرض بشكل كثيف، لِيُمَكِّن هذه الجذور أن تبلغ مصادر الغذاء والإرواء الجديدة. فالرّؤية التّقليديَّة للمعرفة ونموّها كانا متشابهين؛ مع عمليَّة تسلّق ذات الشجرة لقطف بعض ثمارها الناضجة. وقد كان على الجميع أن يتسلّقوا نفس الجذع، ليصلوا لنفس النتائج، ويُحَصِّلُوا ذات القدر من المعرفة، وغير قليل من المصالح. لكنّ، مع تطور آليات البحث، والاهتمام المهنيّ المتخصِّص، ستقود أذرع العلم النّاس إلى الأغصان الأكثر قوَّة، وبحركة أكثر رشاقة، أو تلقِّي ما يريدون عن بعد بصورة أكثر سهولة ويسر. ومثلما يوضح نموذج الشّجرة طريقة اكتساب المعلومات العامّة بالطرق التقليديَّة، التي كانت تأخذ السّنوات للتّحقق من صحتها، فإنَّ نظام “الشبكة” الإلكترونيَّة قد تجاوز ذلك النظام التّقليديّ، وأصبحت المعلومات تلاحق الناس داخل هواتفهم، وحواسيبهم، وأشيائهم، وترتبط بشكل آني وثيق بكل تفاصيل حياتهم.

 

عالم الشبكة:

في هذه الأيّام، حَلَّت “الشبكة” مَحَلَّ نموذج “الشّجرة”، وتقدمت المعرفة بشكل كبير، وصار الحصول عليها حق أصيل من حقوق الإنسان، باستعارة روح المبدأ العام لهذه الحقوق. وتتأقلم “الشّبكة” على حاجات المستخدم كالملمس المرن، الذي هو صورة نظيرة لرؤية “البنيويين” للتّعلّم. فالتضخّم الهائل لـ”الشبكة” يوسع إمكانيَّة الحصول على المعلومات، التي تحتوي عليها، ويضاعفها إسهام الناس، والمؤسّسات والحكومات كل يوم. فقد تحوَّلت “الشّبكة” إلى ما يُشبِه نقاط الالتقاء، ليس لمحركات البحث المعروفة فحسب، رغم أهمّيَّة ذلك، وإنما لتجميع المحتوى، الذي ينتجه، أو يجلبه مستخدمو “الشّبكة” إليها، فهم بهذا يعرضون “بضاعتهم”؛ معرفتهم ومعلوماتهم، إلى بعضهم البعض. وغالباً ما يجد الفرد المُتَصَفِّح نفسه في وضع افتراضي يجعله جزءاً من الشّبكات الاجتماعيَّة الكثيرة، التي تعطيه وتأخذ منه، وتبيع له وتشتري ما عنده، وربما تَعرِضُهُ هو ذاته للبيع في سوق قائم وغائم يتجسَّس على العابرين لمسارب هذا الفضاء العام. فالمستخدم المُتَابِع لا محالة يُعَرِّضُ خُصُوصِيته للمتابعة الخبيرة، التي تستهدفه لأغراض تجاريَّة، أو استخباريَّة، أو احتمال تصنيفات وعمل ملفات علاقات إعلانيَّة أكثر فأكثر، لمساندة مؤسَّسات ودراسات ذات طبيعة خَيِّرَة، أو ربما تكون شِريرة.

لهذا، يجب علينا أن نُدرك أهميَّة الاتّصال داخل “الشبكة” كنّشاط مفيد جداً، غير أن له “ثمناً”، وحتى ولو لم يدفع المرء مبلغاً عينياً معيناً، لكن التكلفة قد تكون، في بعض الأحيان، باهظةٌ جداً. والذي يُدْرَك هذا “الثمن”، بأقداره المختلفة، وعلى مستوياته الكثيرة، لا شك أنه يتسلَّح باحتياطات الحماية اللازمة، التي تجعله مفيداً  بغير إضْرار، ومستفيداً بغير أضْرار. فقد سَهَّلَت له “الإنترنت” التواصل، ودعته للوجود و”التواجد”، والتصفُّح لنتاج الآخرين، والإطلال بذاته وبِمُنْتَجِهِ على غيره. ففي “الإنترنت”، لا ينتظر الإنسان الرّسالة لكي تُرْسَل إلا رمشة عين وانتباهتها؛ فاختصار الزمن يغنيه والمسافة لا تعنيه، ومِثْله من يبادله الرد من الطرف الآخر للعالم. وإذا كان هذا في مستوى الأفراد، فستكون إمكانيَّة ممارسة، وقدرة التأثير في العلاقات الدّوليَّة متاحة للجميع، ولا يحتاج المرء لغير هاتف ذكي، أو بالدخول إلى جهاز حاسوب مُتصلٍ بـ”الإنترنت”، ولا يهم بُعْد المكان، ولا تُقَيِّد فروقات مواقيت الزمان.

 

والأكثر أهميَّة من ذلك، ويُعتَبَرُ مهمّاً أيضاً لهذا الانتقال “السيبراني”، هو أن النشاط التفاعلي نفسه، الذي قادنا إلى الاتّصال “التّربويّ” من خلال “الشبكة” ووسائط التواصل الاجتماعيّ، الذي استطاع أن يزوّد الأفراد بالشعور الوجداني المشترك مع المجتمع، وجعلهم يتصرّفون، رغم تباعدهم، وكأنهم في عزلة خاصَّة مع بعضهم البعض. فقد تمكّن الناس عبر “الشّبكة” أن يتّصلوا ببعضهم في كلّ أنحاء العالم، كفعل تقارب اجتماعيّ، بقيمه “التربويَّة” المختلفة. فيما أصبحت “شبكات” الاتّصال ذاتها بيئات للتّعلّم والمعرفة، وتقديم خدمات المعلومات، أي حملت المدرسة إلى كل بيت، بل إلى كل جهاز هاتف وحاسوب. أولم يقل ماكلوهن إن حواس الإنسان ستتمدَّد بوسائط الاتِّصال لتطال ما لا تستطيعه بطبيعتها الخَلْقِيَّة الماديَّة. ولا يمكن إدراك هذا إلا عندما يصبح الاتّصال والنّشاط عبر تقنياته وقنواته مُسانداً ومُرشداً للتّعلّم، الذي له معنى معرفياً وقيمة تربويَّة.

 

بيئة التعَلُّم:

يساند استخدام الإعلام الجديد بيئة التعلّم، بإخراج الناس من حالة العزلة، الاختياريَّة والقسريَّة، إلى حالة الاستماع والمشاهدة المشتركة للمعرفة وهي تُقَدَّم عبر “زووم” و”ويبنار” وغيرهما من “منصات” و”قاعات” المحاضرات الافتراضيَّة الجديدة، التي وسَمَت مرحلة “التباعد الاجتماعي”. فزادت المخاطبات العامَّة والندوات والمؤتمرات بمؤشر صاعد كثيراً عمَّا كانت عليه قبل الجائحة، بل صار إعدادها وتنظيمها أسهل، وأسرع، وأقل كلفة مما كان عليه الحال أيام “التقارب الاجتماعي”. وعلى العكس من مواقف الناس السابقة من مؤثِّرات التَغَيُّر الاجتماعيّ الاتصاليَّة، ومتطلّباتها الماديَّة على المؤسّسات التعليميَّة، وفصول التنشئة والدّراسة، فإنَّ هذه المؤثّرات لم تعد تُقَابَل كما كان يحدث من معارضة، تصل أحياناً إلى حَدّ المقاطعة، بل تُسْتَقْبَل ويُرَحَّب بها بما يجب من إدراك واستيعاب وتقدير. إذ تأكد الجميع الآن أن تطوير قطاعات المعلومات وتكنولوجيا الاتّصال سيؤدّيا قطعاً إلى تغيير نوعيّ في بيئة التّعلّم، وكلما كان هناك اتّصال جيد، كلما كان هناك تطوّر أكثر وعزلة أقل.

 

ولهذا، فإن التوفّر الدائم على أدوات التواصل الذكيَّة، والأجهزة الفاعلة ذاتيّاً، يوسّع كمّيَّة الاتّصال، وما يسمّى بـ”بالبداوة” الحديثة، التي تُهيئ النّاس للحركة الانفراديَّة، أو العزلة الاجتماعيَّة “التباعد”، بعيداً عن “التقارب” والتكدّس الحضري المعهود. وقد أدَّت انتقالات “البداوة” الحديثة، على سبيل المثال، إلى قِلَّة، أو انكماش، استخدامنا للتليفون الجالس في بيوتنا، أو ذلك الرابض في مكاتبنا، لأننا استعضنا عنهما بوسيلة “جَوَّالَة” كحالنا، إذ صار الاتّصال متاحاً من خلال هاتف الجيب، الذي يمكن أن يُسْتَخْدَم للتّواصل عمليّاً في أيّ مكان، ومن أيّ مكان، وإلى أيّ مكان، بدون حاجة إلى تعريف المشارك في الاتِّصال، أو الطرف الآخر، بالمكان الحاليّ لأيٍّ من الطرفين. وبهذا الفهم، يمكن أن نتكلّم أيضاً عن “البدو الرّقميّين”، الذين يتجوّلون في شبكات الاتّصال، ويتواصلون عبرها، دون أن يستقّر لهم قرار في أيٍّ منها، مستقلين كل فضول سرعات التصفّح “الزمان”، وكل السعات المتاحة في القناة “المكان”. وقد قِيلَ أن هذه “البداوة الرقميَّة” قد تُصبح بديلاً للعلاقات الإنسانيَّة الحقيقيَّة لبعض المستخدمين لشبكات الاتّصال الاجتماعي بالفعل. وبالرّغم من أنّ لدينا كلّ التحفّظات، التي تؤشِّر على العيوب “التربويَّة” لهذا السلوك، إلا أن ما هو واضح الآن من مطالبات مستمرَّة بـ”التباعد الاجتماعي” قد يُعَظِّم ميزات التواصل الافتراضي بحجج ومنطق يتجاوز بكثير العيوب، والتي نُقَدّرها بفهمنا التقليدي للأمور، بخاصّة إذا كان نظام التّعليم غير قادر، وغير راغب، أن يعود إلى “المكان” للتعليم والدّراسة.

 

خاتمة:

إن الاتّصال العالميّ قد نُوقِشَت آثاره، عبر عقود خلت، وقيل عنه إنه ينزع لخلق “مدينة فاضلة”، يتعلَّق الأمر فيها بالقدرة على إتاحة “المعرفة العامّة”، وتمكين “الجميع” من الاتّصال بـ”كلّ الآخرين” عبر الزمان والمكان. ويسهم تطوّر التكنولوجيا أيضاً في تقدّيم نفس مبدأ المساواة في إمكانيَّة التواصل، أي استهداف نفس الغاية، لكن بوسائل مختلفة. على سبيل المثال، بينما تُصبح الآليات المطلوبة لإيجاد معلومات أكثر تنوّعاً، كالأدوات والمعدّات المستخدمة في التّدريس، فإن عمليَّة التّعلّم، في المديين المتوسط والبعيد، يمكن أن تُبْحَث خلال وسائل الإعلام المختلفة، وفي أيّ مكان، وبسهولة أكثر من أي وقت مضى؛ على افتراض أن كل المجتمعات لها نفس فرص المنافسة الطبيعيَّة، وهناك الكثير من المحفِّزات، التي سيشعر بآثارها الجميع. ولكن في المدى القصير، ستتمايز مجتمعات كثيرة تبعاً لما تَمَلَّكَته من بنيات تحتيَّة لتقنيات الاتِّصال والخطوط ذات السِعَات العاليَّة، التي يبدو كما لو أن المال وحده سيشتريها.

_________

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

 

السبت 19 سبتمبر 2020

القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة