هواجس التعليم عن بعد في ظل جائحة كورونا وإشكالياته في البلدان النامية
مقدّمة:
صدمت جائحة كورنا الحياة الإنسانية وهزّت أركانها في مختلف تكويناتها الوجودية، ويتجلى تأثير هذه الصدمة في مختلف جوانب الحياة الإنسانية في الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية وفي مختلف العلوم والفنون، ولا ريب أن الآثار المترتبة على هذه الجائحة قد اصبحت الشغل الشاغل للعلماء والهاجس الكبير للمفكرين والعلماء في مختلف الاختصاصات والميادين المعرفية الإنسانية.
ومما لا شك فيه أن تأثير كورونا في التربية والتعليم كان مهولا إذ وضع الأنظمة التربوية والاجتماعية في العالم المعاصر على محك الصدمة ورماها في مخالب الأزمة الفريدة من نوعها في تاريخ التربية والتعليم. وقد جاء كورونا ليهزّ أوصال الأنظمة التربوية ويفجر أطرها التقليدية ويضعنا على مسارات جديدة تهدد الأنظمة التعليمية الحالية وتعلن عن بداية سقوطها التقليدي. فالمدارس والمؤسسات التربوية اليوم فقدت اليوم تحت تأثير الجائحة كثيرا من تألقها وقدرتها على مواكبة المستجدات في عالم الكوارث والأوبئة أو في عالم الثورة الصناعية الرابعة، وليس من باب التهويل القول بأن هذه الجائحة جاءت لتدق المسمار الأخير في نعش المدرسة التقليدية وتعلن موتها في مختلف أصقاع العالم، وليس حافيا أبدا أن هذه الجائحة قد فرضت إغلاقاً كاملاً على المدارس ورياض الأطفال والجامعات والمؤسسات التعليمية في مختلف أنحاء العالم، وانتقلت بالتعليم إلى حالة افتراضية موجهه بمعطيات الثورة الصناعية الرابعة في مجال الاتصال والمعلوماتية. ولا ريب أن فرضية التحول المدرسي إلى عالم افتراضي بدأت تتحقق بصورة حيوية وواقعية في مختلف البلدان وقد ترتب على الأنظمة التعليمية أن تودع التعليم التقليدي بمكوناته الكلاسيكية، حيث المدرسة والمعلم والطالب والسبورة والاختبار الورقي، وداعاً بائناً لا رجعة فيه.
لقد أدت الكارثة الوبائية لكورونا إلى إيقاف عمل المؤسسات التعليمية المختلفة، مثل: رياض الأطفال، والمدارس (العامة والخاصة) والجامعات والكليات ومراكز التعليم الخاص ودور الرعاية وغيرها [1]. وربما هذه هي أول مرة في التاريخ يتم فيها إغلاق المدارس في مختلف أنحاء العالم وتمّ تفريغ المدارس والمؤسسات التعليمية من روادها. وتبين الإحصائيات الجارية إقصاء أن أكثر من 1.6 مليار طالب قد أصبحوا خارج المدارس والجامعات في مختلف أنحاء العالم، وتبين الإحصائيات الواردة عن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)؛ بأن عدد الطلاب الذين اضطرتهم “كورونا” وشمل هذا الانقطاع 63 مليون معلّم في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي في العالم وقد أوصدت المدارس أبوابها في 191 دولة بنسبة 82.2٪ من الطلاب المقيدين في المدارس بالإضافة إلى أعداد المتسربين من التعليم والمتوقفين عنه بفعل الحروب والصراعات الدائرة رحاها. وأثرت عمليات إغلاق المدارس على 94% في المائة من الطلاب في العالم، وهي نسبة ترتفع لتصل إلى 99 في المائة في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل من الشريحة الدنيا” [2].
وبحسب منظمة اليونسكو، وتحت عنوان «اضطراب التعليم بسبب فيروس كورونا الجديد والتصدي له»، فإن «انتشار الفيروس سجَّل رقمًا قياسيًّا للأطفال والشباب الذي انقطعوا عن الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة. وحتى تاريخ 12 مارس، 2020 أعلن 61 بلدًا في إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية عن إغلاق المدارس والجامعات، أو قام بتنفيذ الإغلاق؛ إذ أغلق 39 بلدًا المدارس في جميع أنحائه، مما أثَّر على أكثر من 421.4 مليون طفل وشاب، كما قام 14 بلدًا إضافيًّا بإغلاق المدارس في بعض المناطق لمنع انتشار الفيروس أو لاحتوائه. وإذا ما لجأت هذه البلدان إلى إغلاق المدارس والجامعات على الصعيد الوطني، فسيضطرب تعليم أكثر من 500 مليون طفل وشاب آخرين، وفق المنظمة”[3].
وفي تقرير آخر لليونيسكو يبين أن جائحة كوفيد – 19 قد تسببت في أكبر انقطاع للتعليم في التاريخ، حيث كان لها حتى الآن بالفعل تأثير شبه شامل على طالبي العلم والمعلمين حول العالم، من مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي إلى المدارس الثانوية، ومؤسسات التعليم والتدريب التقني والمهني، والجامعات، وتعلُّم الكبار، ومنشآت تنمية المهارات. وبحلول منتصف نيسان/أبريل 2020، كان 94 في المائة من طالبي العلم على مستوى العالم قد تأثروا بالجائحة، وهو ما يمثل 1,58 بليون من الأطفال والشباب، من مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي، في 200 بلد [4].
وقالت المديرة العامة لليونسكو، أودرى أزولاى، فى هذا السياق: “لم يسبق لنا أبداً أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب في مجال التعليم»، وأضافت قائلة: نعي تماماً أنّه يجب مضاعفة الجهود المبذولة في سبيل إتاحة الاتصال عن بعد للجميع، لكن تبيّن لنا أنّه لا يمكن حصر التعلّم المستمر عن بعد بالوسائل الإلكترونية”. وأوضحت أنه: “يجب علينا، إذا ما أردنا تقليص الفجوة القائمة بالفعل، تبنّي حلول بديلة على غرار توظيف البث الإذاعي والتلفزيوني على المستوى المحلي، واستحداث أساليب تعلّم مبتكرة، وهو ما نضطلع به بالفعل مع شركاء التحالف العالمي للتعليم الذي يتوقف على مثل هذه الحلول المبتكرة[5].
كارثة التعليم عن بعد في البلدان النامية الفقيرة:
تأخذ إشكالية التعليم عن بعد في ظل جائحة كورونا صورة أزمة وجودية، ويشكل هذا النمط من التعليم في ظل هذه الظروف الوبائية كارثة إنسانية بأبعاد اقتصادية واجتماعية. فالمشكلة ليست في التعليم ذاته والتعليم عن بعد وإنما في دوامة العلاقات المعقدة التي تفرضها مختلف متغيرات هذه الظاهرة في مختلف البلدان ولا سيما في البلدان الفقيرة أو النامية التي يصطلح على تسميتها ببلدان الجنوب. فالتعليم عن بعد في هذه البلدان جاء بصورة كارثية وهو في الوقت نفسه يحمل في ذاته نتائج كارثية تربويا واجتماعيا واقتصاديا.
وتحت تأثير هذه الجائحة الوبائية استطاعت البلدان المتقدمة أن تعتمد التعلّيم عن بعد بسهولة ويسر كنتيجة طبيعية لتوفر البيئة التعليمية المناسبة والبنية التحتية من أجهزة ووسائل ومعدات ومهارات وخبرات. ولكن هذا التحول كان صعبا وكارثيا في مختلف أنحاء العالم الثالث ولاسيما في دول الجنوب على نحو خاص.
ويتضح بجلاء أن التفاعل بين كورونا والتعليم عن بعد يؤدي إلى نتائج كارثية ولاسيما في البلدان النامية في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للأسرة والمجتمع. فالتعليم عن بعد يشكل كارثة حقيقية في البلدان النامية والأكثر فقرا، إذ يؤدي إلى كثير من الظواهر أبرزها: التسرب المدرسي، وعمالة الأطفال، والتمييز بين الجنسين، والبطالة بين الآباء العاملين، وزيادة حدة النقص في التغذية. وسنحاول في هذه المقالة تناول بعض جواتنب هذه القضية الإشكالية المعقدة في البلدان النامية.
ضعف البنية التحتية الإليكترونية:
بالنسبة للدول الغنيّة والتي تمتلك شبكات إنترنت عالية السرعة وإمكانية الوصول إلى الأجهزة الرقمية، كانت استجابتها سريعة وفعالة، حيث تمّ تحويل المناهج الدراسية بكاملها إلى الدراسة عن بعد عبر الإنترنت والوسائط الإعلامية الأخرى. ولكن هذا الأمر كان معقدا ومؤلما جدا بالنسبة للدول النامية والفقيرة التي كانت تعاني من ضعف شديد في أنظمتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية قبل أزمة الجائحة وبعدها، حيث تسببت جائحة كورونا في حرمان شرائح هائلة من الطلاب من الوصول إلى أي نوع من أنواع التعليم بسبب ظروف الفقر المدقع، وغياب إمكانية الوصول إلى التقنيات الرقمية. فأغلب التلامذة والطلاب في البلدان الفقيرة لا يملكون أجهزة الاتصال والحواسيب والكتب والبرمجيات والمهارات، فضلاً عن صعوبة اتصالهم بالإنترنت أو عدم امتلاكهم للحواسيب المحمولة.
وقد أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها، إن مئات الملايين من الأطفال في البلدان الفقيرة، يفتقرون إلى أجهزة الكمبيوتر أو الإنترنت وقد توقفوا عن التعليم بشكل كامل بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد [6].
وقد أوردت صحيفة إيكونوميست (Economist) الأميركية في تقرير لها أن المخاطر المترتبة على إغلاق المدارس في العديد من دول العالم كبيرة، خاصة في الدول الفقيرة التي لا تتوفر فيها خدمة الإنترنت للغالبية العظمى من الطلاب، وتكلفة حرمان الأطفال من الدراسة باهظة، إذ تؤدي إلى حرمانهم من العلم وفقدان عادات التعلم، وإن التطبيقات الإلكترونية المستخدمة في التعليم عن بعد، مثل تطبيق زوم، بديل سيئ.
ومع أن إغلاق المدارس في البلدان الغنية له نتائج سلبية كبيرة جدا، فإن الكارثة تأخذ طابعا وجوديا في الدول الفقيرة وتبين الدراسات أن ما لا يقل عن 465 مليون طفل لن يتمكنوا من متابعة الدراسة عن بعد لأنه لا تتوفر لديهم خدمة الإنترنت. وهذا الأمر يشمل مئات الملايين من الأطفال في البلدان الفقيرة، يفتقرون إلى أجهزة الكمبيوتر أو الإنترنت وقد توقفوا عن التعليم بشكل كامل[7].
وأفادت منظمة اليونسكو، إنّ حوالي 826 مليون طالب في البلدان النامية، أي ما يعادل نصف العدد الإجمالي للمتعلمين الذين حالت أزمة كورونا بينهم وبين مقاعد الدراسة، لا يمتلكون جهاز حاسوب منزلي، وبينت أيضا أن 43٪ من المتمدرسين – أي ما يعادل 706 ملايين طالب – لا يملكون القدرة على الاتصال بالأنترنيت.
وتبين الإحصائيات الجارية أنّ 89٪ من المتعلمين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا يمتلكون أجهزة حاسوب منزلية في حين أنّ 82٪ منهم يفتقرون إلى إمكانية الاتصال بالإنترنت. وتبين هذه الإحصائيات أنّ ما يقرب من 56 مليون متعلّم يقطنون في مناطق لا تغطيها شبكات المحمول، مع العلم أنّ قرابة النصف منهم متواجدون في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
عمالة الأطفال:
أدى التعليم عن بعد إلى كارثة عمالة الأطفال إذ ساهم إغلاق المدارس الناجم عن فيروس كورونا المستجد، بخروج الأطفال من مقاعد الدراسة إلى الشوارع للعمل، في أجزاء كثيرة من العالم النامي بسبب حاجة عوائلهم للمال. وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز“، فإن مئات الملايين من الأطفال في البلدان الفقيرة، يفتقرون إلى أجهزة الكمبيوتر أو الإنترنت وقد توقفوا عن التعليم بشكل كامل.
وهنا أيضا ومن جديد فإننا نعتقد بحضور إشكالية التفاوت الاجتماعي بين الأسر الفقيرة والميسورة ولا سيما فيما يتعلق بالدخل وثقافة الأبوين ومساحة المنزل ودخل الأبوين وعدد أفراد الأسرة. ويمكن القول بأن الأسر الميسورة ثقافيا وماديا هي أقل عرضة للخطر من الأسر الفقيرة التي تتميز بتعدد الأطفال وقلة المساحة في السكن وضعف ثقافة الوالدين. وقد ساهم إغلاق المدارس الناجم عن فيروس كورونا المستجد، بخروج الأطفال من مقاعد الدراسة إلى الشوارع للعمل، في أجزاء كثيرة من العالم النامي بسبب حاجة عوائلهم للمال. وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز“،
التسرب المدرسي:
أكبر المشكلات التي فرضتها كورونا استحالة التعلم عن بعد بالنسبة لفئات واسعة من الأطفال لعدم وجود البنية التحتية. وهؤلاء الأطفال يشكلون ضحية الوباء بدرجة أكبر تؤدي إلى إقصائهم كليا من المدرسة وتؤدي إلى فشلهم المؤكد في العملية المدرسية.
وقد أشارت البيانات الإحصائية إلى تسارع وتيرة تفشي جائحة كورونا في مطلع أبريل/نيسان الماضي الذي أدى إلى إغلاق المدارس في وجه 90% من الطلاب حول العالم، وأن ذلك العدد تراجع بحوالي الثلث، حيث أعيد فتح العديد من المدارس في أوروبا وشرق آسيا، ولكن إعادة فتح المدارس في أماكن أخرى كثيرة ما زال بطيئا.
وأشارت إيكونوميست إلى أنه على الرغم من الخوف المبرر الذي ينتاب أولياء أمور الطلاب جراء فيروس كورونا المستجد الذي ما زال عصيا على الفهم، وازدحام المدارس، وصعوبة التزام الطلاب بارتداء الكمامة وإجراءات التباعد الاجتماعي، فإن فوائد إعادة فتح المدارس تفوق الأضرار المترتبة على إبقائها مغلقة في وجه الطلاب.
وتبين الدراسات الجارية إن نسبة كبيرة جدا من العائلات في أفريقيا وجنوب آسيا باتت تشجع أطفالها على التخلي عن الدراسة ودخول معترك العمل أو الزواج بسبب الصعوبات الاقتصادية. وقد حذرت منظمة “أنقذوا الأطفال” (Save the Children) الخيرية من أن حوالي 10 ملايين طفل يواجهون خطر التسرب المدرسي، معظمهم من الفتيات. وثمة خوف من أن تمتد الخسائر في التعلُّم إلى ما يتجاوز هذا الجيل وتمحو عقودا من التقدم في مجالات ليس أقلها دعم فرص الفتيات والشابات في الالتحاق بالتعليم والبقاء فيه. وقد يتسرب من التعليم نحو 23,8 مليون طفل.
وفي أفريقيا، ولا سيما في منطقة الساحل، جاءت حالات إغلاق المدارس على الصعيد الوطني بسبب جائحة كوفيد- 19 في وقت كان فيه عدد كبير جداً من المدارس مغلقاً بالفعل لعدة أشهر بسبب انعدام الأمن البالغ أو الإضرابات أو المخاطر المناخية. وتؤدي جائحة كوفيد- 19 إلى تفاقم وضع التعليم في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حيث كان يعيش، قبل الجائحة، 47 في المائة من أطفال العالم الموجودين خارج المدارس البالغ عددهم 258 مليون طفلاً ) 30 في المائة منهم بسبب النزاعات وحالات الطوارئ( 8 [8].
وتبين التقديرات الإحصائية أن 40 مليون طفل قد فاتتهم فرص التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة في السنة الحرجة السابقة للتعليم المدرسي. وهكذا فقدوا التواجد في بيئة محفزة وثرية، وفاتتهم فرص للتعلم، والتفاعل الاجتماعي، بل والحصول على القدر الكافي من التغذية في بعض الحالات، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بنمائهم الصحي في الأجل الطويل، ولا سيما الأطفال الذين ينتمون إلى أسر فقيرة أو محرومة[9].
ضعف تأهيل المعلمين:
وتبين اليونسكو المخاطر الكبيرة التي تتعلق بتأهيل المعلمين على مهارات التعليم عن بعد ويبدو أن قدرة البلدان الفقيرة على تقديم هذا الدعم محدودة للغاية. ففي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لم يتلق سوى 64% من معلمي المرحلة الابتدائية و 50% من معلمي المرحلة الثانوية الحد الأدنى من التدريب، الذي غالباً ما لا يشمل المهارات الرقمية الأساسية. وحتى في السياقات التي تتوفر فيها الوسائل الرقمية الكافية، وهذا يعني أن أغلبية المعلمين يحتاجون اليوم إلى أبسط مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقد أبرزت أزمة كورونا أن تأهيل المعلمين بحاجة إلى جهود جبارة لتدريب المعلمين بشكل أفضل على استخدام أساليب جديدة في مجال التعليم عن بعد[10].
تأزيم الوضع الاقتصادي للأسرة:
وفي نظم التعليم الأكثر هشاشة، سيكون لهذا الانقطاع في السنة المدرسية تأثير سلبي غير متناسب على التلاميذ الأكثر ضعفاً، الذين يواجهون محدودية في الظروف التي تكفل استمرارية التعلُّم في المنزل. ومن شأن وجودهم في المنزل أيضاً أن يزيد من تعقّد الوضع الاقتصادي لآبائهم وأمهاتهم الذين يتعين عليهم إيجاد حلول لتوفير الرعاية أو لتعويض خسارة الوجبات الغذائية المدرسية.
وثمة قلق متزايد من أنه في حالة عدم تقديم الدعم الملائم. لهؤلاء الطلاب، فإنهم قد لا يعودون إلى المدارس أبداً ومن شأن ذلك أن يزيد من مفاقمة التفاوتات القائمة بالفعل، وقد يعكس مسار التقدم المحرز بشأن الهدف الرابع وغيره من أهداف التنمية المستدامة، فضلًا عن مفاقمة أزمة التعلُّم القائمة بالفعل، ويؤدي إلى تآكل القدرة الاجتماعية والاقتصادية الاستمرار فأغلب الأطفال قد لا يتمكنون من الالتحاق بالمدارس في العام المقبل بسبب التأثير الاقتصادي للجائحة وحده [11].
وتبين التقارير الجارية أن 370 مليون طفل في 195 بلداً قد تضرروا من فقدان الوجبات المدرسية وغيرها من الخدمات المتعلقة بالصحة والتغذية في الأشهر الأولى من الجائحة، مما أدى إلى زيادة معدلات الجوع ونقص التغذية بين أشد الفئات حرماناً. ومع ذلك، تمكن بعض البلدان من تكييف برامج التغذية المدرسية والحفاظ عليها. [12] ويؤثر تعطل الأنشطة التعليمية أيضا على الخدمات الصحية والخدمات النفسية – الاجتماعية، لأن المؤسسات التعليمية تعمل أيضا كمنصات للوقاية والتشخيص وتقديم المشورة.
تعميق الفجوة بين الجنسين:
لقد أخفق ما يقدر بنحو % 40 من أشد البلدان فقرا في دعم طلاب العلم المعرضين للخطر خلال أزمة كوفيد، ويتضح أن ثمة ميلا إلى إغفال أوجه التفاوت في التعليم وانعدام المساواة بين الجنسين في جهود التصدي لتفشي المرض، ويمكن أن تؤدي الأعمال المنزلية أيضا، وخاصة تلك التي تقوم بها الفتيات، والعمل المطلوب لإدارة الأسر أو المزارع، إلى الحيلولة دون حصول الأطفال على وقت كافٍ للتعلم[13].
ومن المرجح أن العدد الإجمالي للأطفال الذين لن يعودوا إلى دراستهم بعد انتهاء فترة إغلاق المدارس سيكون أكبر حتى من ذلك. ويؤدي إغلاق المدارس إلى جعل الفتيات والشابات أكثر عرضة لزواج الأطفال والحمل المبكر والعنف الجنساني – وكلها عوامل تقلل من احتمال استمرارهن. في التعليم وفي ظل التأثير المزدوج للتداعيات الاقتصادية العالمية للجائحة وإغلاق المدارس، يمكن أن تتحول أزمة التعلم إلى كارثة على الأجيال[14]. واتضح أن إغلاق المؤسسات التعليمية يؤدي إلى زيادة المخاطر التي تتعرض لها النساء والفتيات، وذلك لأنهن أكثر عرضة لأنواع متعددة من سوء المعاملة، من قبيل العنف العائلي، والمقايضة بالجنس، والزواج المبكر والقسري [15].
وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من أن إغلاق المدارس على نطاق واسع في الدول النامية قد ينتج عنه مخاطر مدمرة، لاسيّما بالنسبة للفتيات، اللاتي تزيد احتمالية خروجهن من المدرسة على الأرجح بمعدل مرتين ونصف مقارنة بالذكور، وتبين الدراسات الجارية أن إغلاق المدارس سيكون له تأثير مدمّر ليس فقط من ناحية التعلّم، بل كذلك من حيث أمن الأطفال وسلامتهم.
خاتمة:
اتضح من خلال مقاربتنا المختصرة لإشكالية التعليم عن بعد في زمن كورونا أن هذه الإشكالية تأخذ مسارات معقدة جدا في البلدان النامية وتنعكس بصورة سلبية مدمرة على حياة الأطفال والأسر ولا سيما في البلدان الفقيرة. فأزمة كورونا التي فرضت التعليم عن بعد أدت إلى تسرب الأطفال من المدرسة وتعميق الهوة بين الدول المتقدمة والنامية، وأدت إلى زيادة حدة الفقر، وتعميق الهوة بين الجنسين، وزيادة الأمراض والمشكلات الاجتماعية التي تتعلق بالعنف ضد الأطفال وزيادة نسب الطلاق وتفكك العائلات وضعف العناية الصحية التي كانت متوفرة في المدارس وخسارة الأمن الصحي الغذائي للأطفال الذي كانوا يحصلون على العناية الصحية في المدارس.
السؤال الذي يطرح نفسه هل من مخرج لهذه الإشكالية المعقدة وهل من توجيه يمكن البلدان الفقيرة كم مواجهة تحديات التعليم عن بعد وإشكالياته وارتداداته الاقتصادية والاجتماعية؟ هذا هو السؤال الصعب الذي يجب أن يطرح أما الباحثين والدارسين في مختلف القطاعات العلمية.
وإذا كانت الدول المتقدمة جدا قد وقعت في حبال هذه الكارثة تئن من شدة وقعها، وتقف حائرة في مسار البحث عن الخلاص من آثار هذه الجائحة، وإذا كانت أنظمتها التعليمية قد تصدعت وانهارت تحت ثقل هذه الأزمة فإن الحالة في الدول النامية تبدو لنا كارثية جدا وكأن لا خلاص منها. فالمشكلة ترتبط بالفقر والتخلف وهي تغذيه وتغتذي منه بصوة تفاعلية، لقد أدى الفقر إلى كارثة عدم القدرة على مجاراة التعليم الإليكتروني وأدى الانقطاع المدرسي إلى زيادة حدة الفقر والمشكلات الاجتماعية.
فالفقر والتخلف والتبعية معضلة دائمة في البلدان الفقيرة، ويبدو لنا أن الأمر الحقيقي يكمن في تحرر هذه البلدان من فقرها وعدميتها وهذه مسألة عويصة معقدة سياسية واجتماعية تحتاج إلى عقود من الزمن هذا إذا توفرت إرادة حقيقية في هذه الدول المنكوبة بالتخلف والفقر.
ويجري الآن التفكير في إمكانية الدعم والمساندة من الدول الغنية لمساعدة البلدان الفقيرة في التخفيف من حدمة الصدمة وعواقب الأزمة الوجودية المتعلقة بإشكالية التساند السلبي بين كورونا والتعليم عن بعد في توليد كارثة ذاتية التوليد بنتائجها الكارثية.
وهنا يجب أن نشير إلى أهمية التعاون الدولي في مجال تقديم الدعم والمساندة اللوجستية والمالية والاقتصادية للدول الأكثر فقرا، ويترتب على المنظمات الدولية في مختلف المسارات والقطاعات التعاون من أجل احتواء ترجيعات هذه الصدمة على البلدان الفقيرة لحمايتها وحماية أجيال من الأطفال ضد الفقر والفاقة والتسرب. ويحتاج الأمر أيضا إلى جهود كبيرة من قبل الحكومات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني التي يمكنها أن تسهم في دعم وتعزيز مسيرة التعليم عن بعد في هذه البلدان.
هوامش المقالة:
[1] – عامر صالح، كوفيد ـ 19 والتعليم عن بعد: بين ظروف الاضطرار ومستلزمات النهوض، المعلومة، 14:20 – 17/04/20200
https://www.almaalomah.com/2020/04/17/469147/
[2] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: التعـليم أثناء جائحة كوفيد – 19 وما بعـدها آب/أغسطس 2020. http://bitly.ws/aeqp
[3] – عبدالحق عزوزي ، التعليم عن بعد في زمن الكورونا ، الجزيرة نت ، الجمعة/السبت 10 ابريل 2020 :
https://www.al-jazirah.com/2020/20200410/ar6.htm
[4] – UNESCO , The impact of Covid-19 on the cost of achieving SDG 4, GEM Report Policy Paper 42.
[5] – عامر صالح، كوفيد ـ 19 والتعليم عن بعد، مرجع سابق.
[6] – عبدالحق عزوزي، التعليم عن بعد في زمن الكورونا، مرجع سابق .
[7] – عبدالحق عزوزي ، التعليم عن بعد في زمن الكورونا ، مرجع سابق.
[8] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: مرجع سابق .
[9] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: مرجع سابق
[10] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: مرجع سابق
[11] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: مرجع سابق .
[12] – Economic Commission for Latin America (ECLAC), “The social challenge in times of COVID-19”, available at https://repositorio.cepal.org/bitstream/en.pdf
[13] – UNESCO, Global Education Monitoring (GEM) Report, 2020: Inclusion and education: all means all, 2020, available at https://unesdoc.unesco.org/ .ark:/48223/pf0000373718.
[14] – Global Partnership for Education (GPE), “Opinion: Don’t let girls’ education be another casualty of the coronavirus”, 1 May 2020, available at https://. www.globalpartnership.org/news/opinion-dont-let-girls-education-be-another-casualty-coronavirus.
[15] – هيئة الأمم المتحدة، موجز سياساتي: التعـليم أثناء جائحة كوفيد – 19 وما بعـدها ، مرجع سابق.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.