فيلم “كابوني” .. مدارات الوهم الإنسانيّ

image_pdf

 

“أتعرف ما الفارق بين هتلر وآل كابوني؟ .. هتلر مات، أمَّا كابوني فيعيش كالمَلِك في فلوريدا. رُبَّما هو مجنون، ورُبَّما لا .. كل ما أعرفه أنَّه رجل يقضي حياته في الكذب على الجميع بينما الحقيقة تتعفَّن في صدره” قال هذه الكلمات مُحقق الشرطة الذي كانت مهمته مراقبة “آل كابوني”. وفي قوله هذا دلالة على فحوى الفيلم من جهة، ومن جهة خفيَّة نرى منها محققًا يراقب مُجرمًا عتيدًا لكنَّه في الوقت نفسه أمام المجتمع رجل أعمال شريف يعمل لنفع أمَّته. عاش على هذا الوصف ومات عليه؛ فكم من مجرم أثيم هو أمام المجتمع نجم لامع!

فيلم ” Capone ” أو “آل كابوني” خرج إلى النور في العام 2020 بعد تحضير استمر أربع سنوات، وبعد تغيير الاسم من “فونزو” إلى الاسم الحالي لدواعٍ تسويقيَّة كما اشتُهر. ولمْ يخرج إلى نور السينما الحقيقيَّة بسبب تفشِّي مرض “كوفيد 19″، وتمَّ الاكتفاء بعرضه عن طريق البثّ المباشر على منصَّات البثّ حسب الطلب. الفيلم من تأليف وإخراج جوش ترانك، ومن بطولة توم هاردي، ليندا كارديلني، مات ديلون، نويل فيشر، وآخرين. الفيلم من تصنيف دراما، سيرة، غموض. وقد ترك الفيلم أثرًا سيئًا على صعيد تقييماته النقديَّة؛ مما يجعلنا نحاول بهدوء تجلية الأمر.

يدور الفيلم حول “آلفونس جابرييل كابوني” الذي يُختصر إلى “آل كابوني”. وهو مجرم شهير نشط في حقبة أوائل القرن العشرين، ولقي مصيره قابعًا في السجن من أوائل الثلاثينات. ثمَّ أفرج عنه وتمَّ إيداعه في قصر مهيب في ولاية “فلوريدا” ووضع تحت المُراقبة. بدأ “كابوني” حياته الإجراميَّة من الصفر إلى أنْ أصبح أحد أكبر الوجوه الإجراميَّة؛ فمن حراسة بيوت الدعارة -حيث أصيب هناك بمرض الزهري- إلى أحد كبار الأغنياء الذين يُغرقون البلاد بالجريمة والفساد والقتل مُستعينين برشوة الجميع في دوائر الدولة، والاحتياط البالغ لأفعالهم.

يبدأ الفيلم في آخر شهور من عُمر “كابوني” في عام 1946؛ حيث تزداد حالة المرض “الزهري العصبي” عليه. هذا المرض يؤدي إلى تشوهات جسديَّة وعقليَّة بالغة، وقد أدى بشخصيتنا إلى مراحل عميقة من حالات الخَرَف والذهول والانفصال عن واقعه. في الفيلم نرى اجتماع الأسرة في القصر في أجواء عيد الشُّكر. ونتعرَّف على بعض من أسرة الرجل، ونبذة عن مجيء أسرته الإيطاليَّة إلى أمريكا -كما عشرات الآلاف الذين تدفقوا إلى هناك- ليلاقوا الفقر والجوع، ويناضلوا نضالاً واسعًا للحصول على مكانة أو بعض الحقوق. وكيف أنَّه نجح في بناء أسرة غنية لذلك ها هم يجتمعون ليعلنوا عن بعض الشكر لما وصلوا إليه.

وفي ظلّ الإشارات إلى التردِّي العام الذي أصاب الأسرة بعد رفاهٍ وترف، منها أحاديث عن الذكريات، ووجود عُمَّال ينقلون التحف واللوحات النفيسة لبيعها، ونظرات الحسرة وجو الكآبة العامّ على الجميع. في تلك الظلال القاتمة يبدو الأمل الوحيد للجميع في حصولهم على مبلغ كبير من المال يُقدَّر بعشرة ملايين دولار يبدو من كلامهم أنَّ “كابوني” قد خبَّأه بعيدًا عن الجميع تحسُّبًا للزمن. يظهر أنَّ جميع من في الأسرة يسعون وراء المال الذي لا يعرف أحد مكانه إلا صاحبه والذي لسوء الحظّ مُصاب بكل علل الحياة الجسمانيَّة منها والعقليَّة. ثم يظهر أنَّهم ليسوا وحدهم الساعين وراءه، بل الشرط الفيدراليَّة أيضًا تشاركهم السعي. ويزيد الوضع غموضًا أنَّ الجميع -الشرطة والأهل- كلهم في حيرة ما بين الشك واليقين في أنَّ الرجل يخدعهم ويمثِّل عليهم حالات الجنون والخرف. فهل ستتغير حالة الشكّ تجاهه؟ وما الذي يراه كابوني في هذيانه؟ وإلام سيؤول أمر الرجل؟

الكثير من الأشياء تفرض مناقشتها في فيلمنا هذا؛ ولعلَّ هذا الغموض الذي يحيط بأشياء كثيرة كان السرّ وراء التراجع النقديّ للفيلم. ولكنَّ محاولة أخرى لنْ تضرَّ للوقوف على حقيقة العمل الذي نشاهده. سيكون التناول مُحدَّدًا وفي نقاط واضحة المعالم حتى لا نقع في الاختلاط الذي بالفيلم. فالعمل الفنيّ من حقِّه أنْ يمزج والعمل النقديّ إحدى واجباته فصل المُتمازج ورؤيته مفكَّكًا مرةً ومُترابطًا في سياق كُلِّيّ عديد المرَّات.

أول ما يقابلنا هو تصنيف الفيلم فالتصنيف الأقرب للدقة هو أنَّه فيلم دراما، سيرة، غموض. ليس فيلم غموض اعتمادًا على مسألة البحث عن الكنز المفقود؛ لأنَّ الكنز لمْ يستخدمه صانع الفيلم إلا كمُحرِّك دراميّ للسياق العامّ الذي هو بدوره غير مقصود من الفيلم قصدًا، بل هو نفسه مُحرِّك ثانٍ للحدث الرئيسيّ في الفيلم وهو ما يحدث داخل عقل البطل ونفسه، وعلاقاته بالآخرين.

وهو فيلم سيرة لاعتماده على سيرة أحدهم وليس لأنَّه يسردها؛ فالفيلم أصلاً لمْ يَبدُ مُهتمًا بسرد أحداث، بقدر اهتمامه بتعميق شخصيَّة البطل من خلال أوهامه. ولعلَّ جُزءًا من هذا التوجيه الأخير هو ما أخرج الفيلم عن تصنيف “تاريخ” لعدم اهتمامه بالسياق أصلاً. وإذا سأل القارئ لماذا الاهتمام بالحديث عن تصنيف الفيلم؟ ستكون الإجابة واضحة للغاية؛ إنَّها معرفة ما الذي نشاهده أصلاً، وما الذي ركَّز الفيلم على تقديمه، وما الذي يجب أن ينصبَّ عليه تركيزنا ونحن نشاهده، وما الذي سنُقيِّمه من خلال نجاحه أو فشله في تقديمه.

معنى جانبيّ لمْ يهتمَّ الفيلم ببلورته وهو أنَّ هذا الرجل واجهتُهُ أمام المجتمع أنَّه رجل أعمال لا مُجرم. والحقيقة أنَّ كثيرًا من هذه الحالات موجودة في كل الدول حيث نجد رجالاً يفعلون كل الفظائع لصالحهم الخاصّ ويخرجون علينا لامعين مرموقين، بل مُتبرعين بأموالهم التي أتوا بها من جيوب الشعوب لحفنة من فقرائهم في شكل مباشر أو في شكل جمعيَّة تُستخدم هي الأخرى في أعمالهم. فالاسم رجل أعمال، والوصف الحقيقيّ مُجرم عتيد يُحكم قبضته على المجتمع كلَّه دون قدرة للقانون على تعقُّبه لأنَّه باختصار يملك ناصية القانون. ولمْ يهتمَّ الفيلم بالتركيز على الجرائم التي ارتكبها إلا عرَضًا بطريق غير مباشر.

الفيلم من أفلام الشخصيَّات، ومن النوع الذي تتمحور فيه كل الأحداث والمُحركات والالتواءات حول الشخصيَّة الواحدة. أمَّا عن المعنى الأساسيّ في الفيلم هو تلك الحالات النفسيَّة والعقليَّة التي يعيشها البطل. وليس أدلَّ على أنَّه المعنى الأبرز من إفراد مساحات عظمى لهذه الحالات وهذا الجانب في الشخصيَّة، فضلاً عن المُلصق الرسميّ الذي صاغ بدقَّة هدف الفيلم في صورة دماغ كابوني وهي تتطاير وتتفكَّك.

شخصيتنا المُوحَّدة والمُوحِّدة للفيلم هي شخصيَّة مجرم قاسي القلب لا يكترث إلا لصالحه، قد يقتل أيّ شخص يقف في طريقه. وجد في الإجرام قيمةً لأنَّه الذي انتشله من ضياع الفقر والحرمان إلى العيش كالملوك مُطلقي القُدرة. لكنْ ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع؛ ففي سنوات قوته وعنفوانه يُحكَم عليه بالسجن -غالب هذه الحالات تكون باتفاق ضمنيّ بين الدولة ورجال العصابات الأقوياء للتخلص من شخص بالغ النفوذ وليست تطبيقًا للقانون والعدالة-. وفي السجن يتبدَّل الحال بعد الحال؛ فيعود كابوني القوي المُهاب شخصًا ضعيفًا غير ذي ضرر.

وتتكاثف عليه الهموم ليعود مرضه القديم “الزهري” متطورًا إلى “الزهري العصبي” الذي لا يجعله ضعيفًا اجتماعيًّا أو ماليًّا كما صار، بل ضعيفًا داخليًّا ضعفًا لا يمكن تعويضه والارتداد منه كالضعف الأول، ضعفًا يتسرَّب إليه شيئًا فشيئًا ليأتي على كل أركانه ويتركه بنيانًا مهدومًا من أُسسه. أصبح بطيء الكلام ثمَّ حُرم منه كليَّةً، أصبح بطيء الحركة ثمَّ حُرم منها كليَّةً، كان بنُدبة على جبينه فصار تشويهات قد تتبين ملامح وجهٍ منها.

وعجب هذا الموقف أنَّ الرجل أصبح حبيس نفسه لحظة بعد لحظة، أصبح وكأنَّه صندوق قديم مُلقًى في بحر مليء بالتموجات والاضطرابات لكنَّ الصندوق ليس فارغًا بل في جوفه الكثير من الأسرار. تلك الأسرار التي لن يفصح عنها ولن تغادره. وفي عالم أسراره يغرقه الوهم ويدخله في مدارات عديدة؛ حتى أصبحت حياته كلّها مدارات سباق من الأوهام بينما يكتفي عالَم الحقيقة بالتصفيق من محل المُشاهدين لنتذكَّر أنَّه موجود.

يفارق بطلنا عالمه الواقعيّ ليسبح وحده في عالم مغاير، عالمه القديم الذي كان يمتلكه أو مملكته التي كان الآمر الناهي فيها. لكنْ في استعراضه لماضيه -الذي كان برَّاقًا وقتها- ما عاد الشخص نفسه. فالمجرم العتيد صار طفلاً ليس فقط في هيئة نُطقه للكلام، ولا في مشيته المُعوجَّة، ولا لُعابه الذي لا يستطيع إيقافه، ولا في احتياجه إلى مَن يدخل الطعام والشراب إلى جوفه، ولا في عمليَّات التبول والتبرُّز التي لا يقدر على التحكُّم فيها.

كل هذه الملامح قد تُستقبح حينما نراها؛ لكنَّ بطلنا صار طفلاً أيضًا في نفسيته وعقله، عاد بريئًا كما كان أوَّل الأمر، عاد ليختبر كل ما حوله في عالَمَيْ الحقيقة والوهم من شخوص وأفعال. فرأى نفسه يُنكر ما كان يفعل ويستبشع ما كان به يأمر، بل فزع من رؤية نفسه في المِرآة من أول وهلة رأى فيها صورته القديمة القاسية. وها هو الإنسان حينما يختبر ما قد فعل في ظلّ ظروف مُحايدة، لا في ظل الظروف التي أحاطت به وقت فعل الأفعال نفسها. وكمْ تغيَّر تقييم الفعل وتقريره من الإنسان نفسه في ظلّ ظروف مُختلفة. فيا للإنسان من كائن بالغ التعقيد! ويا لهذه الدنيا العجيبة!

ونستطيع أنْ نفرِّق في الشخصيَّات التي صنعها الفيلم بين فريقَيْن: شخصيات الحقيقة والتي منها الزوجة التي صارت أسعد حالاً نفسيًّا بعدما ترك زوجها حياة الجريمة، فقد كانت تبحث كل هذه العقود عن لحظات هدوء. وهي تمتلك ناصية بطلنا كل الامتلاك تقدر على التحكُّم فيه بمجرد كلمة أو صيحة. وهو يرتاح إلى هذا التحكُّم الذي به يطمئن على نفسه رغم ما قد يبدو من قلاقل الماضي وبعض الرواسب.

وهناك العائلة: أخوه، وأمُّه، ابنه الرسميّ وابنه الذي ينكر وجوده ثم يتغيَّر موقفه تجاهه، وجينو القاتل المجرم الذي كان مُساعده في الماضي ثم صار يمقته بطلنا أشدّ المقت بعد كبوته هذه وهو يسترجع ذكرياته الأليمة معه في جرائمهما خاصّةً أنَّه مَنْ أجهز على صديق عُمره “جوني”. وهناك الطبيب الذي يعمل مع الشرطة والذي يقترح إلباس كابوني حفَّاظات إخراجات كالتي يرتديها الأطفال. وهناك الشرطة التي تراقبه والتي كان يصارعها في أوَّل مرضه ثمَّ تأرجح في موقفه منها في شعور منه بألَّا داعي لتحرُّك يُذكر حين ترك الشرطيّ الذي يراقبه في الحمَّام بعد اكتشافه.

والفريق الآخر من الشخصيات هي شخوص الوهم التي تظهر في مدارات الوهم العديدة. ومنها: جوني صديقه الذي أمر كابوني بقتله لاعتقاده أنَّه خانه، أو في لحظات فرط القوَّة حينما يحسّ الإنسان فيه أنْ لنْ يقدر عليه أحد وأنَّه كفيل وحده بإكمال الطريق. ثم اكتشف مدى افتقاره لهذا الصديق الذي سارع في استدعائه لعالَمه الشخصيّ والدوران معه في مدارات الوهم. وثاني الشخصيات هي شخصية ولد صغير يُمسك بالونًا أصفر رسمه كابوني وكتب جواره “توني” وهو اسم ابنه الذي ينكره. لكنَّ تعميق الشخصيَّة قد يُفضي إلى أنَّه مُعادل موضوعيّ لكابوني نفسه وقتما كان صغيرًا بريئًا أو أنَّه معادل موضوعيّ للبراءة ضدّ الإجرام؛ فهو الذي يسوقه إلى أوهام الإجرام القديمة، وهو الذي يلقاه على شاطئ البحيرة الصافية الهادئة في أحلامه.

وذروة علاقة البطل مع عالم الأوهام هو وصوله إلى البحيرة الهادئة الصافية التي تناقض حياة إجرامه الطويلة، وذروة موقف البطل من عالم الحقيقة هي ما نراه في مدار طويل من مدارات الوهم حينما يترجَّل كابوني لابسًا معطف البيت وحفَّاظ إخراجات كالأطفال، وبين شفتيه جزرة يدخِّنها بدلاً عن السيجارة وقد أمسك برشاش مُطلِقًا على الجميع رصاصاته العديدة في لحظة تطهيريَّة خالصة. ونتذكر حينها نصيحة صديقه في إحدى مدارات الوهم بأنْ يتخلص من التماسيح فها هو قد قرَّر أنْ يتخلَّص من كل التماسيح التي تحيط به؛ من رجال الإجرام القُدامى، ومن الطامعين المنتظرين كنزه المُخبَّأ، ومن الشرطة التي تراقبه ليل نهار.

هكذا تكوَّن فيلمنا من مدارات وهم عظمى وصغرى، وتداخلات من عالَم الحقيقة وكلاهما يلتفّ فوق الآخر حتى يصنع مُكوَّنًا قد يصيبك ببعض الغموض في لحظات قليلة. وسبب ذلك أنَّ المخرج استخدام الأدوات نفسها في عالَمَيْ الحقيقة والوهم. فاللوحات التي يراها بطلنا في الحقيقة تتشكَّل حسب وهمه في لحظات، وتُشكِّل هي نفسها وهمه في لحظات باستدعائها لأشياء بعينها في تاريخه. والمِذياع (الراديو) الذي ينقل له الأخبار في الحقيقة يصمت فجأةً لينقل له بعض تاريخه، أو لينقُله فجأةً إلى قلب الحدث، أو يبني ما قد يُمهِّد للمشهد القادم. لكنْ يلحظ المُشاهد أنَّ الأوهام لا تتحرك إلا بإذن من بطلنا فمثلاً مشهد الوهم الطويل (بعد أربعين دقيقةً من البدء) لا يتصاعد صوته ولا حركته إلا بعد قراره بتفاعله معها.

ولا شكَّ أن الملمح الفنيّ الأبرز لفيلم الدراما المعنويَّة هذا هو التمثيل الذي من شدَّة ظهور تميُّزه لمْ يعد في حاجة إلى تأكيد. ومطالعة أيّ مشهد لبطل الفيلم “توم هاردي” قادرة وحدها على أنْ تثبت تفوقه وبراعته ودقَّة اهتمامه واستحضاره لما سيفعل وما سيحسّ وما سيعيش معيشةً تامَّة. وقد تحتاج القيمة التمثيليَّة في هذا الفيلم لمقال طويل لاستعراض فنيَّاتها، وقد يكتفي الذكيّ بكل هذه المعاني التي مكَّنَّنا من إدراكها جميعًا امتلاك هذا الممثل لأدوات فنِّه وفي هذا القول وحده الكثير من المعاني المُغنية عن الإطالة.

جديدنا