جوكر .. فيلسوف الجنون في المدينة الفاسدة

image_pdf

كمْ هو قاسٍ هذا الفيلم! إنَّه تحفة فنيَّة ستظلُّ محفورةً في سجلّ الأفلام العالميَّة؛ فهو المحلّ المعتاد للأفلام التي جمعتْ بين الجودة الفنيَّة على كافة الأصعدة وبين حشدها بالمعاني ذات الطابع الفلسفيّ. وفيلمنا “Joker” من ألمع ما قُدِّم في هذا الصنف من الأفلام. إنَّه الفيلم الذي استطاع أن يطلق رصاصة الامتياز على أفلام عالم “DC” -الذي يوصف بالسطحيَّة من الكثيرين- ليُخرج لنا فيلمًا حقيقيًّا مليئًا بالمعاني، ومُفجِّرًا فيك الكثير من الأحاسيس.

فمنذ نهاية المشهد الافتتاحيّ نرى “الجوكر” -على خلاف شخصيته التي اعتاد المشاهدون عليها من القسوة والإجرام- نراه مطروحًا أرضًا من ضرب مراهقين له. والكاميرا تبتعد عنه ثمّ يظهر فجأة على الشاشة اسم الفيلم “Joker” (ومعناه بالعربيَّة مُهرِّج) بطريقة مُميَّزة؛ حيث لُطعتْ على الشاشة لطعًا. كأنَّ صانع الفيلم يقول لنا: هذا “جوكر” أيْ مُجرَّد مُهرِّج، أو تافه، أو نَكِرَة لا قيمة له. ثمَّ يبدأ الفيلم يدلي بما لديه من أسرار ونِكاتٍ لنْ يفهمها أحد؛ لذلك لن يضحك عليها أحد. إنَّها ضحكات لكنْ صُنعتْ من دموع البُكاء.

فيلمنا فيلم الشخصيَّة المُوحَّدة حيث هو محورها الأول والأخير. كل شيء ينعكس عليه وكل شيء يصدر عنه. فمَنْ هو “جوكر” الذي قدَّمه لنا صُنَّاع الفيلم؟ إنه واحد من الناس، أحد العابرين. شابٌّ لا يريد من مجتمعه إلا نظرة احترام، وعيش كريم. معاملته كشخصٍ سويّ وحسب. وأنْ يدعه الآخرون يمارس ما يريده، ويظنّ إنَّه سيصيب فيه نجاحًا. يقدم لنا الفيلم “جوكره” الخاصّ في صورة الإنسان الذي لوَّثتْه المدينة. وصمَتْه بالمرض وغُربة الطبع، وعاملته كمسخ بغيض، اعتبرته حِملاً وعبئًا دون أنْ يكون.

إنَّه مواطن يعيش حالة اغتراب كاملة عن مجتمعه وعن حياته. يحمل مرضًا غير اعتياديّ، غير مألوف يجعله يضحك وهو في عمق الألم والحزن. ليضعه مجتمعه في مصحَّة مُحتجزًا باتهام المرض، ثم يلقي له بالفُتات القليل الذي به يتداوى، ثمَّ يحجب عنه هذا الفُتات قائلاً: كانتْ رغبتي أن أساعدك بالفُتات لكنْ لديَّ ما هو أهمّ منك. عُذرًا!!

هذا المجتمع الذي يرفض مساعدة أبنائه ويصنفهم غُرباء على أرض الوطن؛ هو المجتمع الذي تعتلي فيه بضع ناطحات سحاب تشرف على ملايين الجحور التي تُسمَّى بيوتًا. يسكنها بقيَّةٌ من “مُهرِّجين” يُسمَّون “مواطنين”. لا قيمة لهم إلا أن يحقدوا على الأغنياء مُحاولين إيذاءهم. إنَّها مدينة العطن والفساد التي تُتخَمُ بالفساد الماديّ؛ فها هي القُمامة تملأها عن آخرها، وها هي الجُرذان ترعى فيها شر الرعي.

وتتخم بالفساد المعنويّ؛ فها هو النظام الفاسد مفضوح على الحيطان، وفي المصاعد، وفي الحمامات فساده، وها هم الأغنياء وحدهم يستأثرون بكل شيء، وها هي الدعارة تُمارس، والأفلام الإباحيَّة تُعرَض. وها هي التفاهة والاستعراضيَّة والسطحيَّة والادعاء يظهر يوميًّا في صورة برنامج المُقدِّم له “روبرت دي نيرو” ليحشو المواطنين بما يريد لهم أن يعرفوا وما يريد لهم أن يتخلَّقوا به. وأخيرًا، ونتيجةً لكل السابق ها هو الصالح اللامع على الشاشات -في الحقيقة- غير صالح، وها هو الخرِب المُنتَن في شوارعها -في الحقيقة- غير مُنتَن، وغير مريض. إلا أنَّ مجتمع الفساد يحب أن يصم مُخالفيه بالجنون، والمرض العقليّ، والحقد، والجهل.

إنَّ الفيلم اعتمد على رصاصاته التي ظلَّ يُطلقها على فكرنا المُعتاد، وثوابته؛ ليُرديَها واحدةً تلو الأخرى. لكنَّه صائد ماهر شديد المهارة. وقد أحكم خطته قبل أن يبدأ الرماية والتصويب. فقدَّم “جوكر” مختلفًا عن “الجوكر” الذي نعرفه. “جوكر” ضعيف وهو في الحقيقة مستضعف. ثم تقدَّم بنا خطوة، وبحث عن هدف آخر ثم أطلق ألمع رصاصاته ومفاجأته؛ التي تمثلَّتْ في معرفة “جوكر” أنَّه ابن لـ”توماس وين” -أبي الرجل الوطواط، والملياردير الأشهر في مدينة “جوثام”-! ويا لها من مهارة في التصويب يُحسد عليها. إنَّه بهذا قد قلب الموازين جميعًا فجعل “الجوكر” أخًا لـ”الرجل الوطواط”! جعلنا نرى “رمز الشرّ” أخا لـ”رمز الخير”، “مُدمِّر المدينة” أخًا لـ”مُخلِّص المدينة الجسور”.

كأنَّ صُنَّاع الفيلم تأثروا بالتراجيديا القديمة اليونانيَّة التي نكتشف فيها بعد حين أن “أوديب” هو ابن “زوجه” التي تزوجها وأنجب منها. فيا لها من أقدار عجيبة! .. “جوكرنا” النكِرة التافه يلهث وراء أبيه الحقيقيّ الرجل اللامع المتأنِّق الذي سيتفضل على المدينة بالإنقاذ ويكون عمدتها القادم. ليكتشف “جوكرنا” أنَّ المظاهر خدَّاعة، وأنّ الطيب ليس طيبًا، بعد أن أرانا هو نفسه أن “الجوكر” الشرير لم يكن شريرًا في يوم ما.

وفيلمنا من هذه الجهة خطير جدًّا؛ حيث يطرح رؤية فلسفيَّة تضرب في الصميم قضيَّة “الثابت المعرفيّ”، و”الثابت الأخلاقيّ”. بل مَنْ يدقِّق النظر في معاني الفيلم يجد أنَّ المقصود الأول هو هذا الاختلال المعرفيّ الذي يقدِّمه؛ حيث ما نعرفه خيرًا نجده شرًّا، وما نعرفه شرًّا نجده ذا مُبرِّر للشرّ. وبالقطع هذا يلقي بظلاله على أحكامنا الأخلاقيَّة؛ فالإنسان من الأساس يحكم على الشيء أخلاقيًّا بأنَّه صالح أو طالح، وبأنَّه خير أو شرّ من خلال معرفته بالشيء. ومن هنا إذا اختلَّتْ معرفتُك اختلَّ حُكمك على الشيء كثيرًا. بل فلنقلْ بصراحة شديدة تاهتْ بَوصلتُك الأخلاقيَّة. ولمْ يبقَ لك إلا حسُّك الفرديّ الشخصيّ وحده. والحسّ الفرديّ هذا لا يكفي لتأسيس بناء أخلاقيّ متين. ومن هنا تأتي أهميَّة دور المُرشد -مثل الديانات- في تأسيس الحُكم الأخلاقيّ على الأشياء؛ بصفتها المعرفة المُوجِّهة المُرشِدة التي تقول لك: هذا صواب افعله، وهذا خطأ لا تفعله.

وهنا لا يكتفي صُناع الفيلم بهذا بل يفجِّرون المشهد كُليَّةً بزرع ماهر للشكّ في حقيقة نسب “جوكر”؛ هل هو ابن الرجل اللامع أمْ هو ابن السيدة من سفاح آخر أمْ هو ابن متبنًى لها ألصقته بالملياردير حين كانت تعمل خادمته؟! مزاج غريب وزحام أغرب من مشاعر وأفكار، تضارب وتراكب يقضي على فكرة اليقين. فها هو “جوكر” مواطننا لا يدري هل ينتسب حقًّا لرجل النظام وهذه الدولة أمْ أنَّ هذا -حتى هذا- سيُحرم منه ليصير “جوكر” كاملاً؛ ليس تافهًا وحسب، بل أيضًا غير مُتحقق النَّسب!

وهنا قد وصلنا أو أوصلنا الفيلمُ إلى “خط اللاعودة” حيث لمْ يبقَ شيء، ولا حتى الأمل الزائف. فيتفجَّر الوضع تفجيرًا ويبدأ “جوكرنا” في الانتقام له، ولشرفه، ولتجاهله، وللمجتمع الزائف الفاسد الذي يعيش فيه. فيقتل أمَّه -التي لا يعرف أهي أمّه أم ليست- مُلخِّصًا فلسفة في قوله: كنت أظنّ أن حياتي مأساة لكنها تبدو لي الآن ملهاة لعينة! ثمَّ يقف أمام النافذة والشمس تسقط عليه وكأنَّها أضواء الشهرة التي كان ينتظرها.

تتصاعد رغبته الجَمُوح في الانتقام مع تصاعد تلك الحركة التي نشأت في المدينة -إثر قتله الأوَّل لثلاثة من موظفي شركة الملياردير “وين”- هي حركة “اقتلوا الأغنياء”، والمدينة صارت تعجُّ بوجوه “المُهرِّج” المستعارة رمزًا لقتل كل ما يحمل ويحمي فساد تلك المدينة العفِنَة. ونراه يحمل مسدسه الذي كان مفتاح الحلّ من وجهة نظره، ويتدرَّب على تلك المقابلة التي رُتبتْ مع “دي نيرو” في برنامجه الشهير اليوميّ. وقد قرَّر أن يكون هذا اللقاء يومه الأخير في الدنيا، والفرصة الأشد مناسبةً ليتخلَّص من كل شيء وينتحر أمام هذه المدينة وأضوائها اللامعة.

وهنا اختيار مُوفَّق جدًّا من مخرج الفيلم ليظهر “الجوكر” وليس “جوكر” في أحد أشهر إطلالاته وهو مُلقًى على أريكته، ومُرسلاً رأسه للخلف والكاميرا تصوِّره تصويرًا جانبيًّا. حيث نراه بعدها يغيِّر رأيه؛ فلِمَ أقتلُ نفسي لأجل أوغاد سفَلَة؟! فلأقتلْ هؤلاء الأوغاد السفلة وأرقص على أجسادهم، فوق طرقات المدينة التي قرَّرتْ أن أكون غريبها لا ابنها! ويا لها من براعة ومهارة هذا المشهد الرمزيّ وهو مُطارد من قِبَل الشرطة التي تتورط في إطلاق الرصاص على أحد اللابسين وجه المُهرِّج فتشتبك معها الجماهير الغفيرة محاولة الانتقام لا من فرد الشرطة، بل من النظام مُمثَّلاً في فرد الشرطة. ثم نرى “جوكر” يضع وجه المهرِّج فوق صندوق القمامة؛ وكأنَّه يضع رمز الثورة والانتقام عاليًا فوق المدينة الفاسدة التي ما هي في حقيقتها إلا صندوقًا من القمامة!

جلس أمام الملايين الذين ما أتوا به إلا ليكون طرفة من طُرَفهم، ونكتة يتسلون بها بعض الوقت. وما عرفوا أن النكات في المدينة مأساة، وأن مأساة المدينة هي أبرع ما قِيلَ في فنّ الإضحاك. وها هو يعترف أمام الملايين بجريمة قتله للموظفين الثلاثة، ويكشف لهم أنَّه ما قتلهم إلا لكونهم أوغادًا، وحوشًا في هيئة الإنسان. وها هو يطلق نكتة ليس الهدف منها أن تضحك، بل هدفها أن تواجه المدينة، أن تكشف عوارها.

وها هو يمسك مسدسه وينفذ حُكمه على فاسدي المدينة، على روح الضحالة والاستعراض الرخيص، على ثقافة التضليل، على بوق الشرّ مُمثلاً في “دي نيرو” ليمحقه من أول طلقة ثمّ لا يدري ما يفعله إلا أنْ يضطرب لما حقَّقه من انتقام، ونراه متأرجحًا بين إكمال إطلاق النيران وبين الحديث، بين توضيحه للمدينة وبين أن يتركها غير مُقدِّرة لدوافع ما فعل. ثمَّ يأتي على الكاميرا مُردِّدًا كلمات أغنية “فرانك سيناترا” الشهير: “هكذا هي الحياة”!

وها هو بين الجموع التي تابعته في صراعه مع فساد المدينة يقف فوق عربة الشرطة المُحطَّمة في مشهد رمزيّ. ويجد الدماء تملأ فاه فيحولها إلى دهان به يرسم الابتسامة على وجهه، ثم يتراقص أمام الجماهير الغفيرة. وفي الخلفيَّة موسيقى ملحميَّة وطبول تدقّ وكأنَّها طبول الحرب.

ويا له من مشهد ختاميّ! حيث نراه أمام مُعالجة نفسيَّة يضحك. وتسأله: لِمَ الضحك؟! فيذهب المشهد لـ”الرجل الوطواط” وهو واقف بين أبوَيْه القتيلَيْنِ، ثم يعود لـ”الجوكر” قائلاً: أضحك على نكتة لنْ تفهميها! فهل هي نكتة مفادها أنّ المجتمع -فيما بعد- سينظر لـ”الرجل الوطواط” على أنه محض خير، وسينظر لـ”الجوكر” على أنه محض شرّ؟!!

ثمَّ نرى “الجوكر” بقدَمَيْن مُلطَّختَيْنِ بالدماء يتراقص بخفة على ممر من لونَيْ الأبيض والأسود؛ قد يذكرنا بلعبة الملوك “الشطرنج” كما يطلقون عليها. فها هو الراقص على رقعة الملوك والأنظمة، اللاهِي على نظافة المدينة وبكارتها -التي يرمز لها الممر- المُدَّعاة الزائفة. يقول: هكذا هي الحياة .. فرغم غرابة هذا إلا أن الكثيرين يسعدون بتحطيم الآخرين .. لكن لنْ أسمح لذلك بتحطيمي .. كلَّما وجدتُ نفسي مطروحًا أرضًا سأقوم وأقاوم .. فهكذا هي الحياة”..

جديدنا