يخدع النصوصيون التقليديون الجماهير بكثرة إيرادهم للنصوص. وهذا جزء من ممارسة الخداع النفسي؛ حيث يتصورونهم الأشد وفاء للنص؛ لأنهم الأكثر (استشهاداً!) بالنص.
يحاول النصوصيون التقليديون إيهام الجماهير المتدينة أنهم – وحدهم! – الأوفياء للنص المقدس، ومن ثم الأوفياء للدين، بينما الآخرون، وهم بقية الأصوات غير التقليدية، لا يمنحون النص المكانة التي يستحقها، في عالم المعرفة، وفي عالم الواقع، ومن ثمَّ، فهم – حسب ما يصورهم به التقليديون- إما جاهلون بالنص أو متجاهلون له، وهم بهذا التصنيف الظالم، قد خانوا النص، ونابذوا الدين وهذه تهمة التهم للخطاب التنويري.
التقليدية تحاول تقسيم الحراك الفكري المشتبك مع الديني إلى: نصوصية سلفية تقليدية، هي المعبر – في تصورهم – عن الدين، وعقلانية تحررية، تشتبك مع الديني بعد ازورار واضح عن النص. وهذا التقسيم يريد أن يصل إلى نتيجة تخدم التقليدية إيديولوجيا، وذلك عندما تؤكد أنها المعبر الشرعي والوحيد عن الدين، معززة ذلك بحديث الافتراق المضطرب سنداً، والمتعذر – عقلاً – أن يدرج في سياق الافتراق.
ما تحاول التقليدية السكوت عنه، أن التقسيم ليس بهذه الثنائية الدوغمائية المشحونة بالأبعاد الإيديولوجية التي تمتد في عمرها إلى أكثر من أربعة عشر قرناً. الحقيقة العلمية، كما الواقعية، أن الظاهرة الإسلامية، نصوصاً وأحداثاً، خضعت لعدة قراءات، يستحيل حصرها في سبعين أو مئة، أو حتى ألف. كما أن التقليدية ذاتها ليست قراءة واحدة، بل هي عدة قراءات، ولكل مذهب وفرقة وطائفة، درجات من التقليدية، التي تحاول – من داخلها – ممارسة هذا التقسيم الثنائي، والتأكيد على أنه التقسيم الوحيد الموجود.
هذه الثنائية التي تحاول النصوصية التقليدية الإيهام بأنها ثنائية إيمانية، أحد أطرافها: منافق/ كافر. لا تريد التقليدية النصوصية أن تعترف بمأزقها النصوصي مع الواقع، وأنها ليست إشكالية نص، وإنما هي إشكالية غياب العقل في التعاطي مع النص. لا بد أن تتحول هذه الثنائية – في هذه الجزئية خاصة – إلى ثنائية: نصوصية عقلانية، ونصوصية غير عقلانية. نصوصية تعتقد أن فاعلية النص لا تتحقق إلا من خلال العقل، ونصوصية تقليدية آلية، تعتقد أن فاعلية النص لا تتحقق إلا من خلال تغييب العقل.
النصوصية التقليدية تجد نفسها من خلال العداء المضمر للعقل. وجودها لا يتحقق في مجتمع مشبع بالعقلانية، يعي تلك المسافة التي لا بد من قطعها بين الوجود المتعالي للنص، وبين الواقع المتعين. لهذا، تفترض التقليدية أن كل دعوة لعقلنة الخطاب الديني، هي دعوة لنقض الخطاب الديني ذاته، وليس لتطويره فحسب.
ما لا تريد التقليدية أن تعترف به أن الوعي التنويري الخاص بالإسلام، هو وعي نصوصي، ولكنه وعي نصوصي معقلن، بعيد عن الجمود والتقليد، وعي يضع النص في كيميائية خاصة، تحمل في تركيبتها تحولات (العقل = الوعي) البشري، وتحولات الشرط الواقعي، فيخرج من خلال ذلك تنصيص خاص بالزمان والمكان، يمكن له أن يتكرر – بتنوع – في كل زمان ومكان.
النص يحتوي على بعدين: بُعد متعال، عابر للزمان والمكان، ذي طابع نظري عام، أو شبه نظري، وبعد تفصيلي، مشدود إلى الواقع التاريخي الذي كان النص استجابة له البعد الأول، وعلى ضوء القراءة المقاصدية، ومراعاة الشرط الواقعي، هو البعد الذي يمكن استحضاره الآن، أما البعد الآخر، فهو بُعد تاريخي (بالمفهوم القارّ للتاريخ) يستحيل عليه عبور الزمان والمكان.
إذا أردنا للنص أن يمارس فاعليته الحقيقية في الواقع؛ فلا بد أن نفهم هذين البعدين، أي أن نعتقه من أسر الفهم التقليدي الذي لا يزال يفهم النص كمجرد خطاب مباشر، يتكرر في الزمان والمكان، موجّه إلى قارئ سلبي، خال من الأبعاد المعرفية، ومتجرد من تطوره التاريخي. وهذا فهم يقتل النص – بالغاء انفتاحه على تنوعه وتطور الحياة البشرية؛ موضوع خطاب النص – وهو يظن أنه يقوم بإحيائه.
يتهم التقليديون الخطاب التنويري بأنه خطاب يلغي النص؛ عندما يتعارض مع الواقع، وهذا اتهام يتكرر، نتيجة سوء فهم، أو تعمد إساءة فهم الخطاب التنويري، بإنتاجه دلالة النص، من خلال المعرفة والواقع، هو الأشد التزاماً بالنص؛ لأنه الأشد استبطاناً له، والأقرب إلى كليات النص (= النص هنا: مجموع النص المقدس، وليس مفرداته) وهي الكليات المرتبطة بالمقاصد العامة والأزلية للرسالة.
بل يصرح التقليديون بأن جزءاً من (صوابيتهم) مستمدة من هذه الكثرة في الاستشهاد . طبعاً، لا يهم الجماهير (كيفية) الاستشهاد؛ لأنها لا تتوقع الخداع في هذا المضمار، ومن هؤلاء بالذات.
الخداع بالكثرة، ليس شيئاً يتم في الخفاء، وإنما هو شيء معلن، بل هو جزء من آلية الهجوم على الخطاب التنويري، ذي المنحى الليبرالي. نسمع ونقرأ كثيراً عن افتخار التقليديين بأن مقولاتهم متخمة بالنصوص، وأن في كل سطر يكتبونه نصاً ما، وأن خصومهم التنويريين، تكاد تخلو مقولاتهم من النصوص. وكما قال لي أحدهم: إنك تكتب مقالاً مطولاً يناهز الثلاثة آلاف كلمة، ليس فيه آية ولا حديث، بينما لا يخلو سطر أو سطران لي آية أو حديث. هكذا قال. وحسب هذا الفهم، فهو أشد إسلامية؛ لأنه الأكثر نصوصية!
كون الخطاب التقليدي، لا يكثر من إيراد النصوص في مقولاته، حقيقة. لكن، ماذا وراء هذه الحقيقة؟! جزء من احترام الخطاب التنويري للنص، أنه لا يمتهن النص في كل سياق، وهو لا يورده كدليل، إلا عندما يكون دليلاً بالفعل، وليس مجرد تلاعب بعواطف الجماهير. كثير من الذي يقال في معظم القضايا، لا يحتاج لدليل نصي، وإنما لدليل عقلي.
وضع النص – اعتسافاً – في موضع الدليل العقلي أو التجريبي الواقعي، لمجرد الاحتماء بالنص، خيانة للنص، من جهة، وخيانة لمتلقي الخطاب التقليدي من جهة أخرى.
استغباء الجماهير، حالة ملازمة لتيار النصوصية التقليدية، الذي يمارس الإقناع من خلال عملية (قص/ لصق) عشوائية أو شبه عشوائية، وإخراجها في صورة الخطاب الشرعي الوحيد، المعبِّر عن إرادة الإسلام. بينما يتم تصوير النصوصية التنويرية، بأنها تجاوز للنص، أو إلغاء له، أو قفز عليه، في محاولة لتشويه الخطاب التنويري.
حقيقة أن التنوير الإسلامي، هو الامتداد العصري للإسلام، يجري تغييبها اليوم في واقعنا الذي يحاول التقليديون التهامه . التنوير الإسلامي ليس غريباً، ولم يأت من فراغ، وإنما هو النتاج الطبيعي لعملية التقاء الإسلام بالعصر، أي بكل مكونات العصر.
النصوصية التقليدية يمكنها أن تعيش في مخيالها، وتمارس الارتهان إلى تفاصيل الماضي فيما وراء الواقع. أما أن تحاول مَوءضعة ماضويتها في واقع لم تأخذ به عند مقاربتها للنص. التقليدية، عندما ألغت الواقع: المعاصرة من معادلة تأويل النصوص؛ ألغت – آلياً – قدرتها على الاشتباك الإيجابي مع الواقع. تأويل يلغي الواقع، تنتج عنه بالضرورة، رؤية تعجز عن رؤية الواقع، بل تصطدم به على نحو كارثي، كما هو حال النصوصية التقليدية اليوم.
______
*الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.