تخدم الأيديولوجيا شبكة المصالح للفئات المهيمنة في المجتمع، وهي إذ تفعل ذلك، تبرّر للناس النظام السائد؛ بل وتشرعن لنسق السلطة المسيطر في هذا الواقع عبر تدعيم الاتجاهات والميولات المعبرة عن سلطة ومصلحة صاحب السلطة باعتباره الفاعل المهيمن في هذا الواقع الاجتماعي.[1] يعمل هذا النزوع التبريري للأيدلولوجيا بفاعليَّة كلّما تعلّق الأمر بالبحث عن القيّم والأفكار التي من شأنها تدعيم مشروعيَّة هيمنة ما، وخدمة ذوي المصلحة والسلطة .
غير أنّ التبرير الأيديولوجي عادة ما لا يتّخذ طرقا واضحة ومباشرة، وإنما يلجأ المروّجون له، وللنسق القيم والأفكار المؤسّسة للسلطة والمصلحة السائدة، إلى التعتيم والتمويه والتضليل، نظرا لتصادم إرادة هذه السلطة بإرادة مضادَّة لها، عادة ما تتجسّد في تضرّر الفئات غير المستفيدة من المصالح المتنازع عليها.
يكرّس هذا النزاع الأيديولوجي سيادة نفوذ صاحب المصلحة المسيطرة، ممّا ينجم عنه سيادة خطاب السلطة المهيمنة. تتحوّل الايديولوجيا في هذا المستوى إلى خطاب شمولي، بحيث يستطيع أن يحتوي التشكيلات الفكريَّة الفئويَّة والنفعيَّة التي تضعف مقاومتها لهيمنة صاحب السلطة. ويعمل التبرير الايديولوجي على صهر وتذويب الاختلافات داخل نسق خطاب أشمل، عبر أفكار ومعتقدات تبريريَّة ضعيفة المناعة تجاه إغراءات السلطة واكراهاتها.
عادة ما يقع في هذا المستوى أن تتشابك المصلحة والايديولوجيا تشابكا معقّدا، لينتهي بهما الأمر، في النهاية، بخدمة صاحب السلطة الأوفر هيمنة والأكبر نفوذا. وينجم عن تحالف المصلحة والايديولوجيا قيام خطاب سلطة أيديولوجيَّة ذات أبعاد شموليَّة وكليانيَّة؛ وهنا تصبح السلطة متجليَّة في ثنايا التعبيرات السياسيَّة والفنيَّة والإعلاميَّة والاقتصاديَّة، حيث تشمل مختلف مناحي الواقع الذي تهيمن عليه.
يصبح للسلطة، بموجب هذا الأمر، خطابها المتلبّس بها لغويا وفكريا وقيميا وفنيا ورمزيا ودينيا. فضلا عن ذلك، تغدو الأيديولوجيا في خطابها تجسيدا واقعيا لسلطة ومصلحة المهيمنين الذين يعبرون عن منظومة ونسق مقنّع، له رؤية معيّنة للعالم يعمل بموجبها المرء لأجل حفظ الوضع القائم وإعادة إنتاجه على مختلف الأصعدة: الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والفنيَّة والثقافيَّة. غير أنّ الغريب في هذا كلّه هو أنّ الأفراد عادة ما ينخرطون في الوهم الأيديولوجي، بل ويقبلون عليه رغم معرفتهم السابقة بزيف وعوده.
حاول الموقف التشكيكي للنظريَّة النقديَّة المعاصرة على فضح الطابع الاستلابي للأيديولوجيات، وذلك بجعل الناس يدركون تمام الإدراك خداع الأيديولوجيا لهم. يحدث هذا الأمر للناس لأنّهم غالبا ما يجهلون هذا الوهم الناظم لنشاطهم الجمعي الحقيقي.
لذلك فإنّ الانتباه إلى هذا الأمر، يعتبر في غاية الأهميَّة من حيث إنّ مجتمعاتنا الراهنة تبدو كما لو أنّها منفصلة، ومقطوعة، عن الأيديولوجيات، وهي بذاك عادة ما توصف بكونها مجتمعات ما بعد أيديولوجيَّة بداعي أنّها لم تعد تأخذ الأيديولوجيا على محمل الجدّ.
لكن الواقع يؤكّد أنّ الأيديولوجيا تخدعهم بحيث تتسلّل إلى فكرهم عبر اللغة والخطابات الرمزيَّة، فتسلب وعيهم. أكثر من ذلك، تجعل الأيديولوجيا النفوس مروّضة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بالتالي تصبح في غاية الاغتراب عن حاضرها، فتقبّل مختلف الدلالات التي تحملها خطابات السلطة والسيطرة المهيمنتان.
أظهرت النظريَّة النقديَّة المعاصرة مدى تقاطع الأيديولوجيات المهيمنة مع الأشكال التعبيريَّة اللغويَّة والرمزيَّة المتداولة، والرائجة في الفضاء العام المشترك. وقد مكّن هذا المستجد النقدي من فضح الخطابات الرمزيَّة المتلبّسة بالسلطة، كاشفا عن كونها لم تعد مجرّد أنظمة مستقلّة للمعتقدات والأفكار كما كان يعتقد الموقف الكلاسيكي للفلسفة، وإنّما تحوّلت إلى ما يمثّل خطابات مهيمنة.
اعتبرت الأيديولوجيات في هذا السياق بنيات رمزيَّة مقنّعة، حيث تبحث لنفسها عن طرق مباشرة، أو غير مباشرة، لخدمة علاقات السيطرة الموجودة في الواقع؛ وذلك، لتدعيمها وتبريرها من طرف تلك الفئات السائدة والجماعات المسيطرة.
لقد تحوّل معنى الأيديولوجيا انطلاقا من هذا المنظور ليتَّخذ صورة جديدة، هي الدلالة في خدمة السلطة. وقد سمحت نظريَّة السلطة الجديدة للتعامل مع اللغة انطلاقا من نزوع السيطرة، حيث الدلالات في خدمة علاقات السيطرة في واقع اجتماعي معيّن. ومن هذا المنطلق لم تعد تستعمل اللغة ببراءة في خطابات الناس، وإنّما تقع وراءها صراعات ومصالح فرديَّة وجماعيَّة.
تحاول الأيديولوجيا أن تؤمّن تجانس الواقع المتصدّع ووحدة الاجتماعي المتصارع فيه، كما السياسي والاقتصادي المتنازع حولهما، وذلك بأشكال وصيغ تعبيريَّة خطابيَّة ضمنيَّة غير مرئيَّة بإضفاء اعتقادات تبريريَّة قد نختلف حولها كثيرا. لهذا أصبح فهم طريقة توظيف اللغة لخدمة السلطة هدفا للكشف عن كيفيَّة اشتغال الأيديولوجيات بغرض فضح أشكال حضورها وجعلها مهمّة نقديَّة للتحليل النقدي للخطاب.
تحوّلت الأيديولوجيا بفضل هذا التحليل النقدي المعاصر إلى بؤرة لتتبع تقنّع السلطة وتلبّسها بالخطابات الإعلاميَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. لذلك تحوّل الخطاب السائد في الواقع إلى حصان طروادة، بحيث يحتوي في بنيته الكثير من التشكيلات الفكريَّة والفئويَّة ذات الأبعاد النفعيَّة والمصلحيَّة التي تعمل على خدمة الفئات المسيطرة والمهيمنة، والتمكين مصلحتها ما على حساب مصالح الفئات الأخرى الأقل استئثارا بالسلطة.
تجعل الايديولوجيا الدلالة في خدمة سلطة ما، وبصفة خاصّة تلك السلطة المستحكّمة في الواقع الاجتماعي والسياسي لمجتمع معيّن. وهذا الأمر، هو ما تعمل الأيديولوجيات المختلفة على تكريسه خدمة لمصالح أصحابها.
_______
[1] John (B) Thompson: Studies in the theory of Ideology; University of California Press, Berkley, Los Angeles, 1984, p.73.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.