“إذا أردت أن تصلح أمر الدولة فاصلح نفسك”/ مالك بن نبي.
الحديث عن المفكِّر الجزائري مالك بن نبي، هو حديث عن الأفكار وبناء الإنسان الحضاري، حديث عن شخصيَّة ارتبطت بمشروع حضاري وشخَّصت أسباب تخلُّف العالم الإسلامي الذي كانت له قابليَّة للاستعمار.
ومالك بن نبي من مواليد 1905 بمدينة قسنطينة شرق الجزائر لأسرة فقيرة ومحافظة، ولظروف الاستعمار مكَّنت قراءاته الأدبيَّة والفكريَّة باللغة الفرنسيَّة، فكانت جلّ كتابته بلغة غير اللغة العربيَّة، وتعتبر نظريّته “القابليَّة للاستعمار” من أهمّ المفاهيم التي لاقت اهتمام النقَّاد، فمالك بن نبي يعدُّ مفكِّرًا إسلاميًّا ورجل تنوير بامتياز ما جعله غريبا وسط قومه وأبناء وطنه، لا لشيء إلا لأنه دعا إلى توجيه الفعل السياسي وأخلقته، إذ يقول: إذا أراد مجتمع أن يصنع تاريخه لا يكفي أن تكون له حاجات، بل ينبغي أن تكون له مبادئ، حتى يمكنه سلك طريق التحرّر من قيوده الخارجيَّة والداخليَّة، ولذا يقول مالك بن نبي: “إذا أردت أن تصلح أمر الدولة فاصلح نفسك”.
اهتمَّ المفكِّر الجزائري مالك بن بي بعالم الأفكار وإعاة النظر في التركيبة البشريَّة للمجتمع الإسلامي وكيف يمكن إعادة النظر في البناء الحضاري في إطار “براديغم إسلامي” وعن طريق محاربة ما سمّاه بالقابليَّة للاستعمار وتصحيح الأفكار السلبيَّة أو الأفكار الميِّتة التي تعيق نمو المجتمع وتجعله مجتمعا مشلولا، مخدّرا، طاقاته معطَّلة وإبداعاته مجمَّدة، فالمجتمع الإسلامي كما يقول مالك بن نبي غير مستقرّ فكرا؛ إذ تسوده الفوضى في كل الميادين، الفكريَّة الأخلاقيَّة وفي ميادين السياسة، مجتمع يحمل أفكارًا مستوردة، فانحرف عن مثله العليا، وبدلا من أن يعالج مشكلاته من خلال نقد الذات، لجأ إلى إخفاء عيوبه واستغفال الآخر عن طريق نشر أفكار ميِّتة لا تتماشى مع العصر الذي نعيش فيه الآن وما تشهده الأمم الأخرى من تطوّر وتقدّم تكنولوجي، هذه الأفكار الميّتة في نظر مالك بن نبي أشد فتكًا بالمجتمع، وقال إنها إرث خلفها مجتمع ما بعد الموحّدين، وهذا يعني كما يقول إنَّ الحضارة الغربيَّة لا تتحمَّل مسؤوليَّة ما حدث للمسلمين، وإنما مصدر هذه الأفكار هو انحطاط المجتمع الإسلامي، ويضيف أنّ المجتمع الإسلامي ما هو إلا مجتمع مستهلك، لأنّه التقط نفايات ما أفرزه التطوّر الغربي السريع.
والجزائر تحيي ذكرى وفاة المفكِّر والفيلسوف مالك بن نبي المصادفة للواحد والثلاثين من أكتوبر تسعمائة وألف وثلاثة وسبعون ( 31 أكتوبر 1973 ) تجعلنا نقف وقفة تأمّل وتدبّر على هذه الذكرى والتطلُّع على جانب من جوانب الرجل الفكريَّة وإضافتها إلى المخزون أو الرصيد الفكري الحضاري، فمالك بن نبي يرى أنَّ “الإنسان” هو الذي يصنع تاريخه بيده، ويُبَسِّطُ فكرته بأنَّ النشاط البشري سواء كان فرديا أو جماعيا مشتركا لا يتمّ إنجازه فعليا، إلا ضمن شروط وهي تَوَفُّر “الأداة” مقدّما في ذلك أمثلة بالصانع الذي يبدع وهو منكبّ على عمله وبيده المقصّ أو الجندي المسلَّح ببندقيته في ميدان القتال،فالعالم اليوم كما يقول بن نبي يعيش مشكلة ” أفكار” على مستوى النشاط المشترك لجماعة وطنيَّة في مرحلة معيَّنة من تاريخها، وهذا راجع حسبه إلى وجود ما سمّاه بـ: “الفراغ المفاهيمي”، فعندما يسود الجهل بسنن التغيير، تطغى على المجتمع ما سمّاها مالك بن نبي بـ: “الشيئيَّة”، وقد شبّهها مالك بن نبي بمرحلة الطفولة عند الفرد، لأنَّ الطفل لا يرى في العالم أفكارا، بل أشياء، وقد فرَّق بين الطفل المسلم والطفل الياباني وقال إنَّ هذا الأخير رغم انتسابه للمدرسة الغربيَّة فإنه لمّا وجَّه سلوكه وفقا لعالم أفكاره حجز له مكانا بين الكبار، عكس الطفل المسلم الذي قلَّد الأصوات التي يسمعها وقلَّد سلوك الكبار الذين حوله، لأن المجتمع لم يقدِّم له الضمانات الضروريَّة لاكتماله الاجتماعي.
فطغيان الشيئيَّة حسب النظريَّة البنيويَّة امتدَّت إلى الصعيد الفكري، وأصبح المثقَّف لا يقيِّم العمل الفكري من خلال مضمونه بل من خلال عدد صفحاته، وهو ما نشهده اليوم في دور النشر، إذ لا يعطر العمل الفكري قيمته ، ونجد ناشرين يقزِّمون العمل الفكري ويختزلونه في صفحات معدودة، فيتحوَّل الكتاب من كِتَابٍ إلى كُتَيِّبٍ بحجَّة أزمة الورق وارتفاع أسعارها وصعوبة التسويق، وما يسوَّق لا يخرج عن دائرة الشعر والرواية، أمَّا الأعمال الفكريَّة أو التاريخيَّة فهي ممنوعة من النشر، وحلَّ الشّخص محلّ الفكرة ، بمعنى أن النشر لا يكون لفلان وعلان، وهذا ما تحدَّث عنه مالك نبي عندما قال إنَّ الانحراف عن الطريق الصحيح للنهضة سببه تغييب الفكرة وليس غيابها ليحلّ محلّها الشخص، الذي يكون في هيئة مبدع محترف، أو مصلح هادي، أو زعيم سياسي، وعن هذا يقول مالك بن نبي: إنَّ عبادة الرجل السماوي ( الزعيم الذي تحوَّل إلى وثن يعبدُ) كعبادة الشيء الوحيد، منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي المعاصر، وتكون أحيانا سبب ما نشاهده من حالات إفلاس سياسي مذهلة، لدرجة أنَّ الغرب وصل إلى قناعة أنَّ الإسلام أصبح شيئا فات أوانه، ممَّا أدَّى ببعض المسلمين إلى الارتداد عن الإسلام.
وقد ساعد هذا الوضع في المساس بالإسلام ونبيّ الأمّة، من خلال سبِّه وتشويه صورته، ويرى مالك بن نبي أن “الشيئيَّة” هي إحدى معوقات النهضة ومقوماتها، وهذا راجع بدوره إلى غياب رؤية متكاملة لدراسة المشكلات المترابطة مع بعضها البعض وغياب كذلك للنقد الذاتي وإلصاق أسباب العجز أو التخلّف بالاستعمار، الذي كان وجبة الصراع الفكري، فقد وظَّف الاستعمار خططا علميَّة لتحطيم الأفكار وتفكيكها، وأحيانا يخلق افكارا تتماشى ومصالحه الإستراتيجيَّة وترسيخها في وعي الجماهير، فمثلا إنشاء دولة باكستان، وإنشاء دولة الأمازيغ في الجزائر، أو إرسال بعثات طلابيَّة لإدخالها في الصراع الفكري، هي من هذا النوع، حتى لو كانت هناك جهود نهضويَّة فهي غالبا ما تنتهي بالفشل لغياب الوعي بسنن التغيير وغياب منهجيَّة التفكير الصحيح.
ومن أجل تحقيق التغيير وإحداث نهضة إسلاميَّة وضع مالك بن نبي مشروعه الحضاري، ويتمثَّل هذا المشروع في تشكيل “كومنولث إسلامي”، وسلَّم مشروعه إلى الأستاذ عمر مسقاوي، لطبعه على الآلة الراقنة، والكومنولث وثيقة تاريخيَّة بدا فيها العالم الإسلامي يشهد تطوّرات تجعله بين موقفين أو قرارين، إمّا أن يقوم بثورة عربيَّة إسلاميَّة تاريخيَّة، أو يستجيب لثورة تأتيه من الخارج في غياب قيادة حكيمة ترسم لهم خطّة سيره، لعلَّ العالم الإسلامي يستيقظ ويضع حدّا للنزاعات الطائفيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة ولا يتَّخذ الأصوليَّة سبيلا لها ويجعل خريطة خاصَّة به، ومن وجهة نظره هو، لا يمكن بالضرورة لهذا الكومنولث أن يُعَرَّفَ كـ: “اتِّحاد فدرالي” بين العوالم الإسلاميَّة إلا بمؤتمر إسلامي يقوم بدور الهيئة التنفيذيَّة للاتّحاد، وحدَّد مالك بن نبي هذه العوالم الإسلاميَّة وهي: (العالم الإسلامي الأسود والإفريقي، العالم الإسلامي العربي، العالم الإسلامي الأوروبي، العالم الإسلامي الإيراني، العالم الإسلامي الماليزي، والعالم الإسلامي الصيني المنغولي).
كما لم يغفل مالك بن نبي في وضع تخطيط يتعيَّن تجنّبه للعوالم الإسلاميَّة، وهو التخطيط الذي تنطلق فيه هذه العوالم من النقطة المركزيَّة، لأنَّ ذلك ينتهي بتفرّقها وتشتيتها، والعمل بالتخطيط الصحيح وهو أن تلتقي العوالم الإسلاميَّة في النقطة المركزيَّة، وهذا من أجل تحقيق الإرادة الجماعيَّة الإسلاميَّة، ويكون الكومنولث بمثابة الحجر الأساسي لهذه الإرادة، يشير مالك بن نبي الى مقولة ( لاميدوز) الشهيرة في قصته ( le guépard ) : ” يجب أن يعرف الإنسان كي يُحْدِثُ التغيير لكي يظلّ كل شيء على حاله” ولهذا كانت أفكار مالك بن نبي بمثابة “الطريق” الى بناء الإنسان الجديد وهي أفكار تحتاج الى الكثير من التأمّل والتدبّر والتبصّر والبحث في صيغة العلاقة بين المفكر ومجتمعه وعالمه الذهني الخاص الذي يتحرَّك داخله وعلاقاته مع الآخر وأسلوبه في التعامل مع الواقع، يقول مالك بن نبي في كتابه “ميلاد مجتمع”: إنَّ شبكة العلاقات الاجتماعيَّة هي العمل التاريخي الأوَّل الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، هي رسالة للنخبة ودعاة التغيير والتجديد أن لا تبقى حبيسة أبراج مثاليَّة متجاهلة دورها في تنوير العقل البشري وتحريره من التبعيَّة، فإنَّ مسعاها سيكون مصيره الفشل، لأن الإنسان هو أهمّ بعد من أبعاد النهضة.