لعلّه صار نافلة، وذلك القول بأنّ الهويَّة ليست أقنومًا ثابتًا يُعطى للأمم مرَّة واحدة وإلى الأبد وبشكلٍ يعلو على التاريخ، بل فاعليَّة تلك الأمم المستمرَّة وهي تلتحم بمتغيّرات عصرها من داخل روح تكوينيَّة أو شخصيَّة حضاريَّة ما.
ولأن روح الأمم تعرف ثباتًا نسبيًّا، ومتغيّرات العصور قانونها التحوّل، تقع الهويَّة بين شقي رحى ركائز ثبات وعوامل تغير، ولذا فوجودها التاريخي تصوغ مضموناته عمليّات تشكيل مستمرّة ومتوازنة ترفض الجمود عند لحظة تركيبيَّة بعينها، وتأبى في المقابل الانخلاع من روحها أو من شخصيّتها التي صاغها مجموع لحظاتها التكوينيَّة السابقة. الهويَّة إذن هي عمليَّة تشكيل وئيدة أقرب إلى النحت في صخور غرانيت حيث التطوّر بطيء جدا يفعل فعله بالتراكم والاستمرار، منها إلى القطع في لدائن بلاستيك حيث التطوّر حاد قاطع يفعل فعله بالانقلاب والقطيعة.
غير أن المشكلة الحقيقيَّة هنا لا تكمن في الإيمان بحقيقة التطوّر، ولا في الاعتبار بفضيلة الاستمرار، وإنّما في آليَّة التعرّف على الآخر المجاور والمختلف في خضم تاريخ واعٍ يشهد العمليتين المتساوقتين؛ إدراك الذات بقصد إنمائها، والتعرّف على الآخر بقصد تعامل أفضل معه. وهنا تتمايز الثقافات، وتتعدَّد المناهج بفعل رؤية كل ثقافة/ أمّة للتاريخ، ونظرتها إلى دورها فيه ومدى إيجابيَّة هذا الدور وفاعليّته في تشكيل الواقع المحيط بها، أو سلبيّته وانطوائيّته على ذاته التي تتحوّل هنا إلى “ماضيه” بفعل ضغط الواقع الراهن عليه، وغياب الأمل في أي مستقبل آتٍ لديه. وهنا يمكن أن نميّز بين مقاربتين نقيضين لإدراك الذات تفرض كل منهما طريقتها في التعرّف على الآخر، أي أنّنا أمام إستراتيجيتين متناقضتين، لكل منها نقطة انطلاق، وطريق خاصّ بها يحكم توجّهها في صياغة الهويَّة، إمّا عبر مسار يوجب ينطلق من الذات متّجهًا نحو الآخر، أو من خلال مسار سالب يبدأ من الآخر متّجهًا إلى الذات، ولا شكّ في أنّ اختيار أمّة ما لكلتيهما يتأثّر بمجموعة العوامل التي كانت صاغت رؤية هذه الأمّة/ الثقافة للتاريخ:
الاستراتيجيَّة الأولى يمكن وصفها بالإيجابيَّة، إذ تنطلق من الذات إلى الآخر، بحيث يكون إدراك الذات وتحديد مكوّناتها الأساسيَّة اللغويَّة والثقافيَّة والعرقيَّة والدينيَّة وغيرها بمثابة عمليَّة مستقلَّة سابقة على التعرّف إلى الآخر والذي يحوز في كل الأحوال تكوينًا مغايرًا بنسب مختلفة لتكوين الذات، ولكن من دون أن يعوق هذا الاخنلاف التعامل معه أيًّا كانت درجة غيريته ومفارقته للذات طالما كانت تلك واثقة بنفسها، مدركة لتكوينها، ناجحة في توكيدها في الواقع، ومتفائلة بدرجة نموّها في المستقبل. فهنا تسود رؤية إيجابيَّة للتاريخ، تعكس نفسها في رؤية ثقافيَّة منفتحة على الآخر تستطيع قبوله والتعامل معه لأنها تؤمن بيقين أنّه، مهما كانت نصاعة مكوّناته وأشكال وجوده، غير راغب وربّما غير قادر على تهديد مكوّنات وجودها.
وأمّا الاستراتيجيَّة الثانية فيمكن وصفها بالسلبيَّة، إذ تنطلق في مسارٍ عكسي، أي من التعرّف على الآخر أولا نحو إدراك الذات ثانيا. بمعنى أنّ الأمّة لا تستطيع أن تحدِّد مكوّناتها هي إلا بالتعرّف على مكوّنات الآخر أولا، قبل أن تقوم في مرحلة ثانية بوضع نفسها موضع السلب الكامل لكل ما يمثّله، لتصبح مجرّد نقيض له على صعيد كلّ المكوّنات والرؤى والمواقف والأدوار التي تصوّرها لنفسه. وهنا تواجه مثل هذه الذات التعسة مشكلتين أساسيتين:
أولاهما هي الإغراق التلقائي في إبراز التناقض مع الآخر، لأنّها إذ تنطلق من الآخر نحو ذاتها، تتصوّر أنّ كل عامل مشترك مع الآخر يعني إذابة الذات فيه، ولأنّها إذ تنطلق من تصوّر طهراني للثقافة وخلاصي للهويَّة وانطوائي للتاريخ، لا تتصوّر وجود عوامل مشتركة معه ولو بأقدار مختلفة نتيجة تواصل ما تاريخي قد يرجع إلى جذر ديني ولو بعيد، أو جذر عرقي ولو فرعي، أو قربى لغويَّة ولو جزئيَّة، فطالما وجد أي عامل مشترك فلا معنى لوجود غير أنّها ذابت في الآخر وتأثّرت به أو حتى انسحقت أمامه، وهذا أمر يفزعها ويدفعها، ومن ثم، إلى نفي هذا المشترك والبراء منه من خلال تحديد ذاتها بنقيضه، فتكون لغتها مجرد سلب للغة الآخر، ودينها مجرد سلب لدين الآخر، وثقافتها وتاريخها ..إلخ. وهنا إزاء حركة السلب هذه نكون بصدد عمليَّة ليست فقط تلقائيَّة بل ومتنامية لإبراز التناقض باعتباره الطريق الوحيد لتأكيد الذات.
وثانيتهما هي الإغراق كذلك في كراهية الآخر، وخصوصا كلما نما وزاد تقدّمه، وكان في مستطاعه الولوج إلى مساحات أوسع في الفضاء الإنساني، أو آفاق أكثر رحابة في التجربة البشريَّة، وخصوصا على صعيدي المعرفة والحرّيَّة حاملي لواء التقدّم التاريخي. وذلك لأنّ الذات الحضاريَّة هنا تقع بين شقي رحى، فإما مماثلة الآخر في هذه الآفاق جميعا، ما يعني لديها أنّها تمارس فعل الذوبان فيه، وإما النأي بنفسها عنه، واعتبار هذه الآفاق مساحات غريبة على ما تعتقده أصالتها، وربما غير أخلاقيَّة قياسا إلى ما تتصوّره فضيلتها. غير أنّها لا تقوم بهذه العمليَّة عن ثقة بل عن خوف، وليس من تسامٍ أخلاقي بل عن اغتراب نفسي، وليس عن زهد حقيقي بل عن شعور عميق بالحرمان. وإزاء كل تلك المشاعر السلبيَّة بالخوف والاغتراب والحرمان، ويتصوّر أن الآخر من فرضها عليها، لا يكون ثمّة طريق سوى كراهيته والنزوع إلى القطيعة معه.
ومع استمرار حال تفوّق هذا الآخر، وتمكّنه من السيطرة طويلة الأجل على حركة الواقع، وذبول متنامٍ للأمل في تغييره مستقبلًا، تبدا الذات الحضاريَّة في كراهيَّة حاضرها، والتشاؤم إزاء مستقبلها، فلا يبقى لها من أبعاد الزمن سوى الماضي فتلوذ به. وربما كانت هذه التجربة محض أوهام في بعض الحالات فتكون أقرب إلى فلكلور حضاري، وربما كانت تجربة حقيقيَّة بل وفذَّة في ريادة الإنسانيَّة، ولكن المشكلة التي تبقى قائمة في كلا الحالين أنَّ تجربة الماضي غير قادرة سواء على ملء فراغ الحاضر، أو على زيادة الأمل في المستقبل؛ لأنّها ببساطة غير قادرة للاستعادة ولا فائدة حقيقيَّة لها إلا في حالةٍ واحدة هي القدرة على فحصها وتفكيكها والخلوص إلى القيم الإيجابيَّة التي صنعتها وجعلتها على هذا النحو بقصد إعادة إنباتها في تربة العصر. غير أن المصادفة الصادمة والتي سرعان ما تتبيّن لهذه الذات التعسة، أو للتيار الغالب فيها، أنَّ تلك القيم الموجبة التي صاغت تجربتها الزاهية في الماضي، هي نفسها العناصر الديناميَّة التي تصنع تقدّم الآخر في التاريخ الراهن، ولو صيغت في أشكالٍ حديثة وقوالب جديدة ومسمّيات معاصرة، وأنّها جميعًا محض سنن يودعها الله- جل شأنه- في التاريخ حاكمة لحركة البشر، تكاد تشبه- ولكن من دون حتم- تلك القوانين التي يسكنها في الطبيعة، حاكمة لحركة الكون.
ولعلّ القاتل هنا هو أنّ اكتشاف الذات لمثل هذه الحقيقة الأساسيَّة ربما لا يسعدها إذ ترى فيه انتقاصًا ممّا تعدّه خبريتها الخاصَّة، ومن ثمّ تتنكَّر له لأنّ التفاعل مع معطياته سيما أنها بينها وبين الآخر، ويذيب هويّتها فيه فلا تعدو قادرة على التعرّف إلى نفسها، ومن ثمّ فهي غالبًا ما تتنازل عن الكشف الجديد حفاظًا على هويَّة قديمة، وتتخلَّى عن الحاضر والمستقبل حتى لا تغترب عن ماضيها الذي تصوّرته أصالتها، وهو لا يعدو غربتها في الزمن، وخوفها من الآخر، بل من الحقيقة.
_________
*الراصد التنويري/ العدد الثالث (3)/ يناير- كانون الثاني 2009.