هل لدينا صناعة نشر؟

image_pdf

إنَّ طرح قضايا النشر في الوطن العربي، يبدو مستغربًا من البعض ومستهجنًا من البعض؟ ومثار تعجُّب من آخرين؟ لكن الحقيقة المرَّة التي أريد أن أصدم بها القارئ أنه لا توجد صناعة نشر في الوطن العربي، بل يوجد لدينا طبَّاعون للكتب، وهيئات ودور تعيش على ميراث قديم، أو بالدفع  المستمرّ من دعم الدولة، أو تقتات على نشر الكتاب الجامعي، أو تستغلّ حفنة ممَّا تبقَّى من أسماء عربيَّة لامعة في عالم الكتابة، دون أن تخرج أجيالاً جديدة.

 

حقيقة الأمر أنه لا يوجد ناشر يحمل هذه الصفة بصدق سوى عدد قليل من دور النشر، وغير ذلك ناشرون ينشرون دون خطط مسبقة، ودون وعي بما ينشرون ولماذا ينشرون سوى المكسب المادِّي الذي إن قلَّ تسارعوا للشكوى من ركود صناعتهم؛ لأنَّ بضاعتهم لا إقبال عليها من الجمهور. هذه إحدى الدور التي تنشر ما يعرف بالكتاب الإسلامي، فإذا ركد تتحوَّل فجأة ودون مقدِّمات لنشر كتب عن الزينة والجمال والتخسيس والمطبخ وإصلاح السيارات، بل ترى إحدى الهيئات المختصَّة بنشر الكتب تنشر مقالات لا تقرأ لصحفي أو صحفيَّة من باب المجاملة في هيئة كتاب؛ ليحصل على حفنة من الأموال؛ ليتحوَّل بعدها بوق دعاية لهذه الهيئة. بل نرى طامة كبرى حين تُهْدَرُ أموال طائلة في موسوعات كل ما فيها من معلومات تقادم عليه الزمن، وليقع كل من اشتراها في مطب معلومات تغيَّرت وتواريخ لم تعد صحيحة، بل نرى إحدى دور النشر تستجدي دولة خليجيَّة بطبع مطبوعات تروِّج لسياساتها. عجبًا إذن حين نرى ناشرًا يتعرَّض لمؤلف بإذلاله لكي ينشر له كتابًا، بل يدفعه لكي يشاركه في تكاليف طباعته. بعدكل هذا هل مازال لدى القارئ شكّ أن لدينا صناعة نشر؟

 

​هذا السؤال بحاجة فعليًّا إلى إجابة حقيقيَّة تشخِّص الوضع الراهن في الوطن العربي وتقدِّم الحلول لتردِّي هذا الوضع واستمراريَّة تردّيه بصورة مذهلة يومًا بعد يوم.

 

​إنَّ تحميل جهة بعينها المسئوليَّة أمر فيه اختزال للمشكلة في طرف واحد دون بقيَّة الأطراف، لكن هذه الأطراف لابد وأن نتعرَّف عليها، وهي كما يلي:

 

​هيئات الكتب الرسميَّة، واتّحاد الناشرين العرب، واتِّحاد الكتّاب العرب، والصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وكليات الفنون الجميلة والتطبيقيَّة، ودور النشر العامَّة والخاصَّة، وغرف صناعة الطباعة والمطابع، ووزارات الماليَّة، ووزارات الصناعة لمسئوليتها عن صناعة الورق.

 

​وإحقاقًا للحقّ فإنَّ هناك في وسط هذا الكابوس المظلم وهذه الحقيقة المفجعة، تجارب نشر تستحقّ أن نشيد بها لأن النقد لمجرَّد النقد لا جدوى منه، وإبراز بعض الضوء الشارد واجب، ففي الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب نجحت سلسلة تاريخ المصريين في سدِّ فراغٍ كبير في التاريخ المصري، وقدَّمت مؤرّخين شبابًا للساحة الثقافيَّة المصريَّة والعربيَّة، حتى أضحت مرجعاً لا غنى عنه لأي باحث، خاصَّة مع بيعها بسعر زهيد، وما جعلنا نستثنيها هنا هو وجود منهج علمي واضح في اختيار موضوعاتها بغض النظر عن ماهيَّة المؤلِّف؟

 

​هناك المشروع القومي للترجمة الذي ينفّذه المجلس الأعلى للثقافة في مصر، والذي سيؤدِّي إلى تنوّع اللغات المترجم منها إلى العربيَّة. وقد دفع تنوّع الموضوعات المترجمة، والحرص على الجديَّة في كل ما ينشر، دفع هذا المشروع لكي يحتلّ مكانة مرموقة على الساحة الثقافيَّة العربيَّة. بل نجح المشروع في تخريج جيل جديد من المترجمين الشباب سيكون لهم أثر كبير في السنوات القادمة، والمدقّق في المشروع يجد أنه يتطوَّر عامًا بعد آخر، وها هو قد نشر خلال العامين المنصرمين كتبًا في العلوم التطبيقيَّة وليس فقط في الإنسانيّات.

 

تجربة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت سواء في سلسلته الرائعة عالم المعرفة التي تعد أفضل ما ينشر على مستوى الوطن العربي، أو سلسلة روائع الأدب العالمي التي بدأت بروائع المسرح العالمي، كما أن حرص القائمين على برامج النشر في الكويت على الدقَّة واختيار الموضوعات بعناية فائقة، جعل سلاسل النشر الكويتيَّة ذات مصداقيَّة عالية.

 

تعدّ صناعة الكتاب عمليَّة معقَّدة ومركَّبة في مجملها، تتطلَّب من أي دار نشر أن تعمل وفق آليّات هذه الصناعة، بصورة منضبطة وسليمة، فهناك مرحلة تحدِّد فيها الدار مجالها كناشر هل هي ناشر متخصِّص أم ناشر عام أم ناشر يجمع الاثنين معًا. وهو ما تمثِّله كبريات دور النشر الدوليَّة.

 

تعدّ صناعة الكتاب عمليَّة معقَّدة ومركَّبة في مجملها، تتطلَّب من أي دار نشر أن تعمل وفق آليّات هذه الصناعة، بصورة منضبطة وسليمة، فهناك مرحلة تحدِّد فيها الدار مجالها كناشر هل هي ناشر متخصِّص أم ناشر عام أم ناشر يجمع الاثنين معًا. وهو ما تمثِّله كبريات دور النشر الدوليَّة.

 

تلي هذه المرحلة تحديد دور مستشار النشر، وهو في الوطن العربي عملة نادرة، من المفترض فيه أن يكون مثقّفًا وقارئًا ملمًّا بحركة النشر، لديه خبرة بكافة مراحل صناعة الكتاب، يستطيع أن يقيم العمل المقدَّم له بصورة سليمة، دوره هنا ليس دور المتلقّي بل دور المقيم الذي يطلب إدخال تعديلات على المادة المقدَّمة له، وهو يوجِّه المؤلف لكي يجعل من كتابه مادة شيِّقة مقروءة، أو مادة علميَّة رزينة، ويوجِّه بعد ذلك مصمّم الكتاب، ويحدِّد الجمهور المستهدف منه، والكميَّة المفترض طباعتها، ولكي نخضع المؤلف لرأي مستشار النشر وما يطلبه من تعديلات وإضافات أو اختصارات، فلابد أن نضمن حقوق المؤلّف، وهي غالبًا حقوق مهدورة في مصر والوطن العربي، بل يتعدَّى دور مستشار النشر ذلك في دور النشر الكبرى إلى أن يطلب من مؤلِّف أو عدَّة مؤلفين الكتابة في موضوعات بعينها يرى أنها ستكون أكثر رواجًا، أو أن حركة النشر تفتقدها بشدة. وفي كثير من الأحيان يسعى إلى كتَّاب محدّدين لكي ينفِّذ من خلالهم خطَّة نشر يرى أنها هي التي ستحقِّق للدار التي يعمل بها أرباحًا معقولة. مثل هذه النوعيَّة من المستشارين، فضلاً عن خطط تسويق الكتب المدروسة هي التي تحقِّق في الولايات المتَّحدة وأوروبا واليابان مبيعات للكتب بالملايين؛ لأن الناشر هنا يعتبر عمليَّة النشر صناعة متكاملة، بل نرى بعض الناشرين في الغرب يدفعون جزءًا من حقوق كتابهم مقدّمًا لأنهم يرغبون في نشر مؤلّف يعدّه هذا الكاتب.

 

​هذا يقودنا إلى العلاقة بين الناشر والمؤلّف في الوطن العربي، فدائمًا ما نتحدَّث عن حقوق النشر، لكن دائمًا ما ننسى حقوق المؤلف، ذلك الإنسان الذي يبذل من جهده ووقته لكي يبدع لنا مؤلفًا، لا ينال منه ما يوازي جهده من المال، بل يسعى بعض الناشرين إلى اعتبار مجرَّد النشر لمؤلف ما، أن النشر في حدِّ ذاته مكسب له، بل يضطر بعض المؤلفين إلى الدفع للناشرين لكي ينشروا لهم. من هنا يجب إخراج قانون لحفظ حقوق المؤلِّف، كما أخرج قانون يحكم حقوق المطربين والملحنين، هذا القانون سيكون بدايَّة لنهوض حقيقي بصناعة الكتاب، ويكون هناك علاقة عقديَّة محدّدة، يحمي فيها القانون حقوق الطرفين الناشر والمؤلف، يلتزم خلالها الناشر بالكشف عن حجم مبيعاته الحقيقيَّة. إنَّ احترام حقّ المؤلف سيجعل منه مبدعًا يحترم جمهوره المخاطب، وسيجعل لنا حقوقًا نحاسبه من خلالها على ما ينشره ويبدعه.

 

هنا نرى أن دور اتّحاد الكتاب العرب غائب، فهو لا يؤدِّي دوره في حماية المؤلف، بل إنَّ هناك حقيقة يجب إقرارها وهي أن نصف أعضاء الاتِّحاد ليسوا بكتاب، انضمّوا إليه من خلال المحسوبيَّة والواسطة لدى لجنة القيد، وهناك مفهوم خاطئ، وهو اعتبار عضويَّة الاتّحاد مقتصرة على الأدباء وكتَّاب السيناريو، فهناك مبدعون في غير هذين المجالين، لديهم مؤلّفات رائجة وقرّاء كثر، قد رفضت عضويتهم للاتّحاد أو اعتبروا أعضاء منتسبين، وتوقَّفوا عن سداد اشتراكاتهم للاتّحاد، فمتى يدافع الاتّحاد عن الكتاب؟ وهل الاتّحاد في ظلّ التغيّرات المتلاحقة سيكون هو الحصن الذي يأخذ على عاتقه البحث عن حقوقه لدى الناشرين، وحقوق المؤلفين؟ هل سيسعى الاتّحاد لضمّ الكتّاب إليه؟ هل سيصحِّح دوره ومفهوم هذا الدور؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة. فضلاً عن تحدِّي الكتاب الموجودين في العالم الرقمي من خلال مواقع عربيَّة مخصَّصة لنشر الروايات أو القصص القصيرة أو المقالات، هل يعد هؤلاء كتّابًا لهم حقوق لدى اتّحاد الكتاب العربي، أو الاتّحادات الوطنيَّة.

 

ما سبق يقودنا أيضًا إلى تصنيف ما ينشر من كتب، وسنجده كما يلي:

– مطبوعات بهدف تلبية رغبات قرّاء بعينهم، وهي كتب الخدمات كالمطبوعات التي تتناول الأمراض الطبيَّة وعلاجها بطريقة بسيطة، وكتب الديكور والأزياء والموضة، وكتب  الحاسب الآلي وبرامجه.

– مطبوعات بهدف الاستخدام الجامعي، وتعيش عليها نسبة كبيرة من دور النشر المصريَّة والعربيَّة.

– مطبوعات للنشر العام الثقافي والعلمي والأدبي وهي تمثِّل النسبة الأقل بين كل ما سبق على عكس العالم كله.. ومنها المطبوعات السياسيَّة كالمذكرات والكتب التي تحلِّل الأحداث السياسيَّة.

– بين كل ما سبق تقف السلاسل الشهريَّة أو الأسبوعيَّة، وأبرزها في مصر اقرأ وتاريخ المصريين وكتاب الهلال وكتاب اليوم، وقديمًا المكتبة الثقافيَّة.

– هناك قضيَّة سأطرحها هنا، هل الكتاب وسيلة تسلية وترفيه وتثقيف وتعليم، معظم الناشرين لم يدركوا أن هناك منافسة شرسة للكتاب؛ لذا لم يهتمّوا كثيرًا بإخراجه حتى ظنّوا أن الإخراج الجيد يقتصر على الكتالوجات وكتب الفنون والأطفال، وأهملوا شكل الكتاب العادي في حدِّ ذاته، فلم يصبح سلعة جذَّابة تلفت الانتباه.

​إنّ هناك الكتاب الفاخر والكتاب الشعبي والطبعة الفاخرة والطبعة الشعبيَّة. حقيقة الأمر إن معظم دور النشر لا تعرف مثل هذه التصنيفات؛ لأن دورها هو إخراج الكتاب، ولا يوجد لديها من يقوم بدراسة تسويق الكتاب والبحث عن رغبات القراء، فالكتاب المصوّر الذي يشاهد ويقرأ من قبل العائلة في المساء غير متوافر في سوق الكتاب العربي    Coffee Book Table، فضلاً عن أن المؤسَّسات الاقتصاديَّة لا تدعم صناعة الكتاب فالبنوك والشركات لا تعتبر الكتاب ضمن قوائم إهداءاتها للعملاء كما يحدث في الغرب، كما أنه على الجانب الآخر فإن الصفحات المتخصِّصة في عروض الكتب وبرامج التلفاز المتخصِّصة في عروض الكتب في مجملها إما خبريَّة أو تميل إلى المجاملة، فضلاً عن أن روح النقد ظلَّت بعيدة عن عروض الكتب، هذه الروح تبيّن للقارئ لماذا هذا الكتاب متميّز عن غيره، أو لماذا قرأه الصحفي للقارئ؟

 

​إن طرح التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها هي التي ستخلق اهتمامًا بأي كتاب، كما أن ظاهرة نشر كتب بأكملها في الصحف قبل نشرها تساعد كثيرًا على رواجها. وهي ظاهرة شبه مختفية حاليًّا من الصحافة العربيَّة.

 

​فضلاً عن أن المكتبات العامَّة لا توجد لديها سياسة اقتناء واضحة ومحدّدة وبرامج تزويد تساعد دور النشر على تحديد برامجها المستقبليَّة. وتبقى العلاقة بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي محلّ تساؤلات كثيرة تحتاج إلى مناقشة منفصلة.

جديدنا