الإشكاليَّة التي يتصدى لها عنوان هذه المقالة، هي موضوع بحث عريق في قدمه وفي طابعة الإشكالي المركَّب والمعقَّد، خصوصًا في التاريخ العربي، كما في التاريخ العالمي. وثمَّة مسألة جديدة بالفحص الأولي، وتقوم على الإجابة عن السؤال التالي: لماذا ظهر التاريخ البشري في مرحلةٍ أو أخرى من مراحله كأنّه تاريخ للأسطورة وحدها في هذه المرحلة، أو تاريخ للفن، أو تاريخ للعلم أو تاريخ للدين؟ في الحالة الأولى يُختزل تاريخ اليونان بالأسطورة (وكذلك تاريخ الشرق) وتاريخ إيطاليا بالفن، وتاريخ أوروبا الغربيَّة الحديثة بالعلم، وتاريخ العرب والمسلمين بالدين.
إنَّ نمطًا من هذا التفكير ذو طابعٍ اختزالي ولا تاريخي، إضافة إلى أنّه يجهل مصطلح “الوظيفيَّة” لإدراك دور ظاهرة أو أخرى في لحظةٍ تاريخيَّة ما. ومع أنّ الدين يمتلك خصوصيَّة لا يمتلكها غيره، فهو كذلك قابل للبحث العلمي وتحديدًا من موقع علم الاجتماع الديني، وهذا الأمر يصبح ذا أهمّيَّة خاصَّة، حين نطرح مثل العنوان، الذي يتصدَّر هذه المقالة. وبذلك نكون قد أبرزنا الخصوصيَّة المذكورة نفسها إلى مستوى السؤال عنها، مثلًا: لم يظهر “الفردوس” في الدين الإسلامي مختلفًا عن مثيله في العقيدة الزرادشتيَّة؟ وينبغي القول إنّ التفريط في الخصوصيَّة الدينيَّة يمكن أن يقود إلى خلطها، مثلا، بالخصوصيَّة السياسيَّة أو العلميَّة، فيغدو كل شيء في كل شيء.
وقد وضع عباس محمود العقاد، في حينه، يده على خطل الخلط بين العلم والدين، حين رأى أنّ ذلك يقود إلى خلط المبادئ الثابتة الماورائيَّة بالقواعد العلميَّة النسيّة المتحرّكة، ممّا يعود بالضرر على الأولى، التي ستكون، والحال كذلك، مدعوّة إلى التغيّر مع تغيّر نظريَّة علميَّة أو أخرى.
ويُلاحظ أن الوضع يغدو أكثر تعقيدًا، حين يدور الكلام على الدين والمجتمع، فالمجتمعات مختلفة في عقائدها وثقافاتها وحاجاتها تبعًا لتراثاتها وتواريخها وأوضاعها الراهنة. ومن ثمّ، فإنّ فكرة ما يمكن أن تتجلَّى متعدِّدة مختلفة، بحسب تلك المعطيات. وهنا ومن موقع علم الاجتماع الديني، لا يُسأل عن “صحّة” المعطيات المذكورة فحسب، بل كذلك، وربّما بالدرجة الأولى عن “المشروعيَّة المجتمعيَّة” المستمدَّة عادة من التقاليد والعادات والأيدولوجيّات المهيمنة، أو التي هيمنت.
وفي رأينا، يكمن وراء ذلك عاملان اثنان، يتحدَّد أولهما في المستوى الثقافي العمومي، الذي يتلقّف الناس عبره ما يأخذون من عقائد اجتماسياسيَّة وثقافيَّة وكذلك ما ورائيَّة. أمّا العامل الثاني، فيأتي غالبًا على نحوٍ مُضمر أو خفي، وهو المصالح الفاعلة في حياة الناس. ومن هنا، جاءت التعدّديَّة الدينيَّة في الفهم، وفي البحث عن الجدوى المصالحيَّة الفرديَّة أو الفئويَّة أو الطبقيَّة أو الشعبيَّة أو الوطنيَّة أو القوميَّة… إلخ. وأتى البُعد التفكيكي الديني ممثّلا خصوصًا بـ”التفسير والتأويل” ليضفي على تلك التعدّديَّة نمطًا من الخصوصيَّة الأنثروبولوجيَّة ومن اللون الحضاري. ولنا، كذلك، أن نأخذ اتّجاه التعدّديَّة في المذاهب ضمن الدين الواحد (الإسلامي)، مثل ما قام به، مثلا، أحمد بن حنبل والعزّ بن عبد السلام.
ولمّا جاء الإسلام وانتشر في مجتمعات مختلفة، وضعت المؤمنين في مواقف مفعمة بالدهشة حيال ذلك كلّه (كما حدث مع الخليفة الرابع حين أعلن أنّ القرآن حمّال أوجه). فقد وجد النصّ الديني نفسه أمام استحقاقات متعدّدة، جعلت البعض- مثل الإمام الشافعي- يعلن عن تغيير آرائه التي اكتسبها في مكّة، بعد أن غادر إلى مصر المختلفة في معظم الآراء التي هيمنت فيها، في حينه.
ولم يكن في ذلك غضاضة، حيث اكتشفه رهط متتالٍ من الفقهاء ودعوا إلى الاعتراف به وتدبّره. وفي هذه الحال، يمكن التمييز بين اتّجاهين اثنين من اتّجاهات متعدّدة محتملة في حياة النصّ والخطاب الديني؛ واحد نشأ في ظروف سياثقافيَّة واجتماعيَّة تتّسم بالرفاه المادّي أو الكفاية الدينيَّة، والنموّ العقلي والتوازن الاجتماعي، فظهر في عمومه- تعبيرًا عن التوازن والاعتدال والتسامح بين الناس، واتّجاه ثانٍ نشأ وتبلور في ظروف من الخراب الاقتصادي واستباحة المؤسّسات والكرامات وإخفاق “الدولة” في المهمّات، فظهر في عمومه- تعبيرًا عن الاضطراب ومفعمًا بالنزعة الثأريَّة ومنطويًا بقوّة على الوعود الخلاصيَّة، بقدر الإخفاق الذي أحدثته الدولة والمؤسّسات الأخرى.
ها هنا ترتع حيثيّات تلك الوعود الخلاصيَّة، وفي مقدّمتها “الدولة الدينيَّة” على النمط الباكر، والدعوة إلى الماضي الديني “الذهبي واستجراره للحاضر. ومن شأن ذلك أنّه جعل العلاقة بين المجتمع القائم واليدن المهيمن مؤسّسة على المناوأة والثأريَّة عبر السلاح واليد واللسان. ومن ثمّ، فإنّ الأصوليَّة الدينيَّة التكفيريَّة المهيمنة عربيًّا وإسلاميًّا لم تبتدعها النظم الجائرة ولا الخارج “العدو” وإنّما نشأت (أولا) في مجتمعها.
_________
*الراصد التنويري/ العدد الثالث (3)/ يناير- كانون الثاني 2009.