تتوقَّف المعاناة في أن تكون مؤلمة في اللحظة التي نكتشف فيها المعنى؛ لحظة أن تتحوَّل إلى تضحية من أجل التغيير. وعندما يعاني الناس من الظلم القاسي والطويل، لا شيء يمكن أن يكون منطقيّاً بالنسبة لهم حتى يغيِّروا بؤس واقعهم. إذ إنهم لا يستطيعون مقاومة الشعور بأن العالم قد تجاهلهم، ولم يعد مبالياً بمعاناتهم، وأنهم وحيدون تماماً في هذا الموقف الصعب، وسجناء قدرهم الذي لا فكاك لهم منه، إلا بالثورة عليه. وقد يقول قائل إنهم لا يستندون في شعورهم هذا إلى فهم واقعي منطقي لكل مآزق الإنسان، ولكنهم مقتنعون بأنهم جزء من هذا المأزق، ويتساءلون: كيف يمكن أن يكون هناك أي معنى لحياتهم على الإطلاق دون أن يحدث التغيير؟
إن هذا هو سؤال المعنى المركزي، الذي يشعل نفس أي إنسان نَزَّاعٌ للحريَّة تَوَّاقٌ للتغيير. إذ إن المسؤوليَّة الأساسيَّة لحياة الإنسان الشخصيَّة هي العثور على معنى وهدف؛ عالٍ وغالٍ، لحياته ضمن الجماعة الإنسانيَّة، وليس فقط في العيش ضمن قطيع، أو حتى مجرد الحصول على الشهرة والجاه، أو الثروة والسلطان، ولكن من خلال تأكيد كرامته الإنسانيَّة. والأهم من ذلك، من خلال الإيمان بقدرته على إحداث التغيير، والأمل بأن المستقبل، الذي يسعى له، سيكون أفضل من احباطات الماضي، وأجدى من عثرات الحاضر.
وبالطبع، فإن مركزيَّة موضوع الكرامة الإنسانيَّة هذا، هو واحد فقط من العديد من الأسباب، التي أجَّجت الانتفاضات العربيَّة. ولكنه، أيضاً، السبب الرئيس، الذي كان يُعَبِّر؛ أقسى درجات التعبير، عن مصير الإنسان العربي، الذي عانى من انحرافات السلطة المتراكمة، وهُمِّش عبر تاريخ طويل، وفصل من وظيفته في الحياة كمواطن وإنسان. فقد اكتشف؛ في غمرة الحِراك، أن له كامل الحقوق، وعليه شرف أداء كل الواجبات، فطفق يبحث عن فرص المشاركة في فِعل التغيير، والتساؤل اللاهث عن أصول المعنى، ويطالب بمنحه عبر الشعارات الطنانة صكّ الجدوى. ولكنه غير متأكِّد من: كيف يمكن أن يكون هناك أي معنى في ظل استمرار إجراءات الإقصاء، وبقاء تشريعات التمييز؟ وكيف له أن يتخلَّص من هذه المعاناة الظالمة والقاسية، التي تمأسست بسلطة الدولة ولامبالاة المجتمع؟
غير أنه، عندما حزب الأمر واستجمع إرادته، استدرك فجأة أنه قادر على صناعة هذا المعنى، الذي يبدو ممكناً وبسيطاً جداً، وذلك عبر انتهاج التمرُّد والانتفاض والثورة ضدّ كل القيود، حتى يتمكَّن من عبور كل السدود والحدود. ووجد أن مشاركة الآخرين في سلوك طريق الحريَّة يمكن أن يعني له كل شيء، وأن أهم حريَّة يبحث عنها هي حريَّة اختيار مواقفه، وكيفيَّة اختبار تمسّكه بها، واستجابته لها، أياً كان وضع وشكل المعاناة المستقبليَّة، التي قد يجد نفسه فيها.
إنَّ المطلوب في هذه المرحلة الانتقاليَّة الحرجة هو خطاب عقلاني يفتح مجالات الخيال المغلقة لدينا، ويحرِّر قوانا المبدعة والخلاقة من قيودها حتى نتمكَّن من التفكير في غدٍ أفضل، والدخول في مساومات جادَّة مع تحدّيات الحاضر وانعطافات الانتفاضات العربيَّة؛ توظيفاً لعطاءاتها، وتنظيماً لطاقاتها، وتعديلاً لما ينحرف من مساراتها، ودرءاً لمخاطرها، وتعظيماً لما فيها من فرص مانحة للقدرة على تقرير شؤون حياتنا والمساهمة الإيجابيَّة فيما يجري في العالم من حولنا.
ومع الأخذ بعين الاعتبار جميع هذه التحدّيات، التي تواجه الإنسان العربي في اجتراحه لهدف التغيير، إلا أنه يصبح من الممكن التنبؤ باحتماليَّة الوصول إلى عمليَّة تشكيل الهويَّة الجديدة للدولة الوطنيَّة في العالم العربي، وانعكاس ذلك على الاستقرار الاجتماعي الداخلي، ممكناً. وقد تختلف نتيجة عمليَّة التشكيل الجارية الآن في المدى القصير المنظور؛ عما يمكن أن يحدث في المدى المتوسط، والطويل. وعلى الرغم من اللامبالاة الاجتماعيَّة التقليديَّة، يمكن أن تكون عائقاً للسياسات، التي تقودها الحكومات المنبثقة عن هذه الانتفاضات، وتفتقر إلى القدرة على التأثير في خلق التوازن الوطني المطلوب، وتعجز عن تعزيز تماسك البنية الاجتماعيَّة، مثلما تفتقر إلى الخبرة في تصويب الحياة الاقتصاديَّة، وإعداد الأسس الفكريَّة للديناميات الجديدة لثقافة التغيير الإيجابي.
ونُقَدِّر أنه إذا رُتّبت أمور السلطة على نحو فعَّال، فإنه يمكن إنشاء، والحفاظ على، التماسك بين الجماعات المكوّنة للمجتمعات العربيَّة؛ الدينيَّة، والمذهبيَّة، والعرقيَّة، وغيرها، داخل حدود الدولة الواحدة. أما إذا انحرفت سياسات الإدماج الاجتماعي عن مسارها الصحيح، لا قدر الله، فسوف يؤدي ذلك بالتأكيد إلى تزايد التوتُّر وزعزعة الاستقرار في البلاد. كما أن علاقات الدولة مع جيرانها المباشرين، ومصالحها مع الشركاء الدوليّين، ستضطرب، لأن سياساتها الخارجيَّة تعتمد على قيمة التماسك الداخلي لمكوّنات مجتمعها.
وفي حين لا تزال مهام التغيير تمثِّل إشكاليَّة، تحاول بعض بلدان “الربيع العربي” انتهاج سياسة داخليَّة أكثر تركيزاً على تثبيت عُرى الهويَّة الوطنيَّة ومحاولة التمكين للاستقرار الاجتماعي، مما يجعل كل الجهود تنصب للإجابة على سؤال أساسي: ما الذي يعنيه أن يكون المواطن، مثلاً، مواطناً كامل الحقوق؟ فإنسان الدول التي شهدت تغييراً في بنيتها السياسيَّة، يعيش الآن مرحلة جديدة تماماً، هي مرحلة ما بعد الدكتاتوريَّة، التي شكَّلت تاريخ انتمائه الحديث. وهذا بكل المقاييس تحوّل عميق ومستمر، إذ إن انهيار سلطان الحكم السابق قد تزامن مع عهد من الحريَّة جديد؛ تكتنفه تحدّيات كثيرة، ولكنه يزخر بكل الفرص.
لهذا، يتوقَّع الناس العاديون من قادة الفكر، في فترة التغيير، أن يهيئوا الرأي العام لتحدّيات وفرص هذا التغيير، بما في ذلك موضوع الاستقرار والتماسك الاجتماعي والحفاظ على الهويَّة الوطنيَّة الجامعة، وأن يعملوا على نقل الحكمة العمليَّة عبر كتاباتهم وأحاديثهم، وأن يقدِّموا قراءة موضوعيَّة للحالة الثوريَّة، ويوفِّروا تصوّرات بنّاءة لمرحلة الانتقال، ويطالعوا المستقبل بنظرة ثاقبة تستصحب القيم الثقافيَّة، والمثل الأخلاقيَّة والمعنويَّة الإيجابيَّة، وفقاً للخطط والمناهج والاستراتيجيات، التي تهيِّء للعهد الجديد.
إنَّ المطلوب في هذه المرحلة الانتقاليَّة الحرجة هو خطاب عقلاني يفتح مجالات الخيال المغلقة لدينا، ويحرِّر قوانا المبدعة والخلاقة من قيودها حتى نتمكَّن من التفكير في غدٍ أفضل، والدخول في مساومات جادَّة مع تحدّيات الحاضر وانعطافات الانتفاضات العربيَّة؛ توظيفاً لعطاءاتها، وتنظيماً لطاقاتها، وتعديلاً لما ينحرف من مساراتها، ودرءاً لمخاطرها، وتعظيماً لما فيها من فرص مانحة للقدرة على تقرير شؤون حياتنا والمساهمة الإيجابيَّة فيما يجري في العالم من حولنا.
الدكتور الصادق الفقيه
الأمين العام
منتدى الفكر العربي
عمان، الأردن 11/4/2014