التنويريسلايدرفكر وفلسفة

مِنَ الوِلادة إلى الوِلادات

 

يولد الإنسان (ذكراً كان ام أنثى) على مرحلتين. المرحلة الأولى، لحظة انبثاق المولود الجديد من ظُلمات الرحم الأنثوي، وهي مناط للجسد نتيجة الالتحام الجسدي الحاصل بين الذكورة والأنوثة. وفي المرحلة الثانية، لحظة ينطق المولود الجديد بالاسئلة نتيجة ما يراه من حوله وما تستعريه نفسه من موجودات هذا الكون، وهي مناط الفكر، إزاء الممارسة العقليَّة التي يمارسها الإنسان ناحية موجودات هذا العالم من أشخاص وأفكار وأشياء. وهَاتَيْنِ الولادتين ليستا سوى مخاضٍ وجودي وتهذيب وتشذيب للولادة الكبرى للنفس البشريَّة وانتقاله من مرحلة الوجود إلى العدم المطلق (الولادة الكبرى)([1]).

الولادة الأولى استجابة لاستكمال الشرط الوجودي الإنسانيّ بصفته وريث هذه الأرض، وبصفة هذه الولادة حدثٌ كبير للجسد الإنسانيّ الفاني، من حيثيَّة العمليَّة الاستخلاقيَّة التي تنبثق من الجسد الأنثوي، لما يحدثه هذا المخلوق الجديد – المولود – من اختراق للشرط الوجودي الإنسانيّ المحكوم عليه بالفناء.

الولادة الثانية استجابة للفاعليَّة الإنسانيَّة في واقعه المتعيّن بصفته قادراً على إجراء العمليات العقليَّة والجسديَّة التي تعينه في ممارسة حقّه الوجودي، وتعمل على تطوير الملكات الفكريَّة للذات الفاعلة نفسها في بادئ الأمر وليس انتهاءً بآخر الموجودات على هذه الأرض.

مقالات ذات صلة

 

الولادة الجسديَّة

حين تتَّقد شرارة الجاذبيَّة بين الذكر والأنثى، فإنها تكون لحظة مفارقة في تاريخ البشريَّة، حيث تكون بداية “الإنسان” الناشئ الذي “يتخلَّق” داخل الرحم الأنثوي في حين لا يحمل أي أفكار أو قيود سوى تلك الغريزة المشفرة جينياً للصمود داخل الرحم التكويني، التجلي المثالي لصفاء المدونتين الفكريَّة والأخلاقيَّة “الإنسان بصيغته العالميَّة الصافية”. وفي مرحلة الانبثاق والانتقال من الانعزال النشوئي المادي المرادف “للجسد” إلى الانفتاح الكوني – من ظلمات الرحم الأنثوي إلى نور الرحم الكوني – التي تكون بواكير نحت المقدّمات الفكريَّة والأخلاقيَّة الكبرى والصغرى للمبتعث الجديد كلٌ حسب زمكانيته التي تساعده على وضع المُتن لأي تبصّر في المستويين الأفقي والعمودي. فإن الصرخات التي تصدح من التجويف الصدري للمولود، ما هي إلا استجداءات مبك   رة لإعانته على ثقل الوجود والمشاق التي تنتظره في رحلته الشاقة في هذه الحياة، والآلام في الولادة الأولى تكون في بادئ الامر للأنثى، لاحتمالها مشاقّ التخلّق الجنيني داخل ظلمات رحمها التكويني (آلام جسديَّة)، وتالي الأمر تكون الآلام للمولود الجديد لحظة خروجه من الرحم، فالآلام ههُنا تكون استباقيَّة لما سوف يعانيه إزاء سيره في هذه الحياة (آلام وجوديَّة-انطولوجيَّة-فكريَّة).

 

وِلادة المُقدّمات الفكريَّة والأخلاقيَّة الصغرى

ولادة تكون برسم الغير – الآباء والأجداد والمحيط الذي ينشأ فيه – وانتقالها إلى المولود في مرحلة طفولته نتيجة السجالات التي تحصل في دائرة نشوء المولود، وهذه السجالات هي التي تقوم على نحت المدوّنتين الفكريَّة والأخلاقيَّة الصُغرى، حيث تكون قابلة للإزاحات والهدم والبناء من جديد، في هذه الولادة تكون الشرارة التي تتّقد بين عقل المولود وما يتلقّاه من أفكار وأخلاق حول وجوديته والعالم المحيط به بشقّيه الفيزيقي والميتافيزيقي، وقلب الطفل لما يتلقاه من مشاعر حبّ وكره، بغض ومودَّة ..الخ، إزاء الأشخاص والأشياء المحيطة به. هذه الولادة هي مبتدأ الرسم للخلفيَّتين الفكريَّة والاخلاقيَّة للمولود الجديد وتحدد أولى النظرات إلى الأشياء والأشخاص والإله، وهي تكون مرحلة يقينيَّة للمولود – رغم عدم يقينيَّته بيقينيَّة هذا النحت الفكري والعاطفي – وهي مرحلة عدم الشَّك والأمان والارتكان المثالي إزاء الخلفيَّة الثقافيَّة والمعرفيَّة والإيمانيَّة التي اكتسبها أثناء تقدّمه في الزمن وضمن مرحلة الطفولة.

 

وِلادة الشَّك إزاء المقدِّمات الفكريَّة والأخلاقيَّة الصُغرى

عند الانتهاء من مرحلة الطفولة وابتداء مرحلة النضوج الفكري، وابتداءً بالتفاعل بين الموجودات، تكون الذات الفاعلة على علاقة تواصليَّة([2]) بين أفكارٍ مشابهة للأفكار التي ارتسمت في خلفيته الثقافيَّة – الولادة السابقة – وتارةً أخرى على مفترق طرق بين أفكار ورؤى جديدة إزاء العالم وتمظهراته، ومن هنا، ومن تحقيق شرطٍ إنسانيّ لازم للإعمال العقلي، فإن الذات البشريَّة تبدأ بالانتقال من ساحة اليقين والأمان إلى ساحة الشَّك والخوف، الشَّك في ما تم رسمه في خلفيَّته الثقافيَّة وانعكاساتها في أبعاده الوجوديَّة، والخوف من الحاجة إلى تطوير تلك الخلفيَّة وإحداث انزياحات وجوديَّة انطولوجيَّة لما تحتاجه من عمليَّة نقد دقيقة ومضنية في آن، ولما يمكن أن تحدثه هذه الانزياحات من تصادم عنيف مع ما هو متعارف ومُلقّن بين الآباء والأجداد وبين المحيط من جهة، وهي مرحلة ولادة الاعتلالات في النفس البشريَّة بين ما هو ثابت – استاتيكي – وما هو متحرّك – ديناميكي -، بين يقينٍ مشروخ وشك معلول.

 

عند الانتهاء من مرحلة الطفولة وابتداء مرحلة النضوج الفكري، وابتداءً بالتفاعل بين الموجودات، تكون الذات الفاعلة على علاقة تواصليَّة بين أفكارٍ مشابهة للأفكار التي ارتسمت في خلفيته الثقافيَّة – الولادة السابقة – وتارةً أخرى على مفترق طرق بين أفكار ورؤى جديدة إزاء العالم وتمظهراته، ومن هنا، ومن تحقيق شرطٍ إنسانيّ لازم للإعمال العقلي، فإن الذات البشريَّة تبدأ بالانتقال من ساحة اليقين والأمان إلى ساحة الشَّك والخوف.

وِلادة تكوين المُقدّمات الفكريَّة والأخلاقيَّة الكبرى

وهي ولادة استتباعيَّة لما سبق، حيث الاعتلالات التي تصيب النفس البشريَّة وعمليات الهدم والانزياحات الفكريَّة التي تُحدثها النفس البشريَّة في سبيل استحداث تَمظهُرات وجوديَّة أو حتى في الإتيان بتطُّلعات ورُؤًى جديدة للكون وما فيه من موجودات، ونبذ الرتابة التي تعيشها غالبيَّة الأشخاص لما تلقوه من الآباء والأجداد ومحيطهم التفاعلي، وهي إحدى استحقاقات الوجود الإنسانيّ الأساسيَّة، وإحدى أسباب وجوده الأساسيَّة بصبغته “الإنسانيَّة” وامتلاكه عقل يَعقل به الموجودات “إنسان عاقل”، أو بصفته إنسان مفكِّر/شكّاك حسب الكوجيتو الديكارتي([3]).وهذه المُقدّمات الجديدة أو المستحدثة قد تَتَعدَّى البُعد الذاتي وتلامس البُعد الجمعي كما حصل مع أوائل الفلاسفة وليس انتهاءً بهم، وتكون ضمن معادلتي الوجود التراكمي الجمعي لولادة نظريات معرفيَّة وأخلاقيَّة جديدة.

 

هذه الولادات الأربع ما هي إلا جانب بسيط من الولادات التي تتعرَّض لها النفس البشريَّة في مسار وجوده المتعين، أو في مسار حقل من حقول المعارف المتخصِّصة، فالاستبصارات التي ينتجها العقل البشري ما هي إلا انعكاسات من الموجودات المرئيَّة “الفيزيقيَّة” والعلاقات التفاعليَّة فيما بينها، ورؤى وتبصرات و”استجداءات” معرفيَّة للماورائيات “الميتافيزيقا”. فنحن ما احوج إلى ولادة مقدّمات فكريَّة وأخلاقيَّة كبرى إزاء العالم وموجوداته، وتحويلها إلى مدوّنات معرفيَّة – أخلاقيَّة كبرى تنتقل من مستوى الذات العارفة ضمن حدود عقل ناحتها، إلى مستوى الانفراج العالمي واستحداثها لسجالات واسعة وممتدَّة لوضعيتها الآنيَّة في بادئ الأمر وتطويرها وإنتاج نظريات نقديَّة مبنيَّة على سلسلة من الإعمالات العقليَّة ليس على مستوى الفرد وإنما على مستوى الجموع / الأفراد في البعد الثقافي والمعرفي الواحد، دون انقطاع معرفي على مستوى الذوات العارفة)[4](.

[1]– وهو ما أرجئ الحديث عنه في مقالٍ آخر مفصل نظراً لانه لا يفي غرضيَّة هذا المقال.

-[2] ليست كل العلاقات تواصليَّة، فمنهم من يتواصل جسدياً فقط ضمن ابعاد وشروطٍ معينة دون الاكتراث إلى عمليَّة التواصل الفكريَّة والتعرف والتشابك على ثقافات ورؤى مغايره لما هو عليها من ثقافة ورؤيَّة، والانكفاء على قوقعة الذات بما تحويه من مقدمات صغرى دون المحاولة في عمل اي انزيحات في تلك المقدمات.

[3]– “أنا أفكر إذاً أنا موجود”.

 [4]- اود الاشارة ههنا إلى ان “القطيعة المعرفيَّة” لم تكن ازاء حضارات بعينها وازمنة معينة، وانما كانت نتاج الانقطاع عن العمل الفكري من جموع الاشخاص لابتعادهم عن القراءة للنتاجات الفكريَّة المعاصرة لهم في حيز وجودهم المكاني والاطلاع على منتجات الثقافات الاخرىز وترجى اسباب الانقطاع الاخرى لفرض مذهب فكري او ديني معين باستعمال القوة السياسيَّة كما حصل مع المذهب الاعتزالي، وكما حصل مع ابن رشد اثناء حرق كتبه نظراً للافكار الجديدة التي كان يطرحها وشروحاته للرؤيَّة الافلطونيَّة وغيرهم.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة