رؤية استراتيجيَّة:
تمثِّل المدركات الإستراتيجيَّة Strategic Perception المعيار العام، الذي يتمّ على أساسه قياس تأثير النشاطات الآنيَّة والمستقبليَّة لعوامل داخليَّة وخارجيَّة على المصالح الإستراتيجيَّة لدول الخليج؛ داخل، أو خارج أراضيها، فهي التي تشكِّل المنظور الجمعي لكل مجلس التعاون، بشأن القضايا الحيويَّة، كالأمن الداخلي، والعلاقات الاقتصاديَّة البينيَّة، والمصالح الإقليميَّة، التي تشمل بشكل أساس جوار دول الخليج الشرقي؛ إيران، والغربي؛ القرن الأفريقي. إلا أنها، وبنفس هذا الفهم، لا تتعلَّق عموماً بدولة محدَّدة في الوقت الراهن، إذ هي تمثِّل الخلفيَّة الأساسيَّة، التي يتمّ استناداً عليها تقدير ما تقدّمه كل حالة من دعم، أو تفرضه من تهديد، لمصالح جميع دول المجلس. وذلك على اعتبار أنَّ العلاقات الدوليَّة، بصفة عامَّة، والعلاقات الثنائيَّة بين الدول، بصفة خاصَّة، تتحكَّم فيها عدَّة متغيّرات، تجعل من هذه العلاقات قابلة للتطوّر، أو العكس. فالبيئة السياسيَّة الدوليَّة، في عمومها، لا تعرف سكوناً ولا هدوءاً، فهي تفاعليَّة بطبيعتها، وقد يجد طرف من أطراف اللعبة السياسيَّة نفسه موضع اهتمام بعد طول نسيان، أو تجاهل، وقد تفقد أطراف أخرى أهمّيتها وجاذبيتها وتصدرها لحين من الدهر. وفي كل الأحوال، تكون الأسباب وراء هذه الحالة المستجدَّة عائدة إلى معطيات ومتغيّرات دوليَّة جديدة لم تكن منظورة من قبل.
نُذر الحاضر:
يعيش العالم العربي اليوم عدداً من النزاعات والصراعات، التي لا يبدو أن دول الخليج العربيَّة بعيدة عنها، ولكن من المستحيل عملياً الحصول على معلومات موثوق بها حول تكاليف الصراعات العنيفة والمدمّرة، التي تجتاح أكثر من بلد عربي. إذ إن البيانات المتوفّرة تميل إلى أن تكون جزئيَّة، وغير مكتملة، وغير جديرة تماماً بالثقة. لذا، يتطلَّب الأمر وضوحاً وشفافيَّة، وقد حان الوقت لكسر التابوهات والصمت المحيط بالمحاسبة الصادقة. وهذا من شأنه أن يسمح بإجراء تحليل أكثر موضوعيَّة عن التكاليف الضخمة لإخفاقات منع نشوب الصراعات، والتحقُّق من صحَّة فرضيَّة أن الجهود الاستباقيَّة لمنع الصراعات هي أكثر فعاليَّة من حيث التكلفة من تلك المرتبطة بردّ الفعل. ويبدو أنَّ واحدة من أهمّ التحدّيات التي تواجه المجتمع العربي الآن، وربما طوال العقد القادم، هي محاصرة ومنع الصراعات المدمّرة، التي تتطلَّب تدخُّلات عليمة وحكيمة؛ دبلوماسيَّة وسياسيَّة. إذ إن مجرَّد الاستماع إلى الخطاب الإعلامي والانتظار يشي بأنَّ حالنا قد يبدو مثل الركل في الأبواب المفتوحة على مصراعيها، لأنه يشير إلى أن الطريق الذي علينا أن نقطعه بلوغاً للحلّ ما يزال طويلاً.
وهناك ما يؤشِّر على أَّن مستقبل مخاطر الإيذاء الناتج عن الصراعات في أجزاء مختلفة من العالم العربي عالٍ جداً. فالمؤكَّد أنَّ فشل منع نشوب الصراعات في عدد كبير من مناطق النزاعات شديدة الحدَّة، أو عالية الكثافة، كما يصطلح عليها الدبلوماسيون، أو الصراعات الأقل شدَّة، أو النزاعات الخطيرة، ستورثنا تكاليف باهظة جداً. وليس خافياً على صناع القرار في دول الخليج العربيَّة أنَّ نموّ المشاعر الثوريَّة عقب ما عُرِفَ بانتفاضات “الربيع العربي”، وانفجار الهويَّات المحليَّة، وما يرتبط بها من مطالب، ليس سوى البداية للمزيد من المعاناة. فمن المتوقَّع أن تنشأ مزيد من الصراعات، بالأسباب القديمة والجديدة، مثل الموازين التنمويَّة غير المتكافئة، أو غير العادلة، بين المركز والهامش، والبطالة بين الشباب، والفساد، والتلوّث البيئي، والغلو الديني والتطرّف العلماني، والهجرة الجماعيَّة، وعدد متزايد من الأنظمة الفاشلة. وهذه المشاكل، وغيرها، يمكن أن تؤذي الناس إلى الحدّ، الذي يجعلهم على استعداد للقتال من أجلها.
تكلفة الصراع:
إنَّ دول الخليج تعي أنَّ تكاليف القوَّة التدميريَّة للصراع والحرب وإعادة بناء السلام عالية جداً، وأنه من المستحيل عملياً إيجاد حساب دقيق وكامل لتلك التكاليف. إذ إنَّ أي تقييم كامل للتكاليف لا ينبغي أن يشمل فقط التكاليف البشريَّة والاقتصاديَّة، ولكن أيضاً التدمير المادِّي والمعنوي، الذي يلحق بالحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والإيكولوجيَّة والنفسيَّة والروحيَّة. وهذه الأبعاد المعروفة لدمار الحرب تعطينا فكرة عن حجم وتعقيدات إعادة بناء السلام. وعلى الرغم من حقيقة أنَّ جهود منع نشوب الصراعات الاستباقيَّة هي وسيلة أكثر فعاليَّة؛ من حيث التكلفة في التعامل مع الصراعات، إلا أن المجتمع الدولي لديه صعوبة في التخلُّص من ميله إلى التصدِّي للصراعات بطريقة ردِّ الفعل. وفي حالة اليمن، فقد اجتهد مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة كثيراً للوصول إلى معادلة وفاقيَّة سلميَّة، تُجنِّب الجميع أخطار المواجهة العسكريَّة، ولكن تقديرات ميدانيَّة مستجدَّة فرضت قراراً جماعياً؛ وإن تَحَمَّل عبئه البعض، وتجافى عن الدخول فيه عملياً آخرون، لحسابات يعلمها كل فريق منهم. غير أن جدوى هذا القرار الخليجي المشترك تبقى حافزاً مهماً للنظر من جديد في مسألة السلام، إذ يمكن للذين لم يشاركوا في آتون الصراع العسكري أن يُجَرِّدوا كل أدوات الدبلوماسيَّة التقليديَّة لمصلحة هذا السلام، الذي هو خير وأبقى، على المدى المتوسط والبعيد، لكل المنطقة وجوارها الإقليمي؛ على الضفة الشرقيَّة للخليج مع إيران، وعلى الضفة الغربيَّة للبحر الأحمر مع دول القرن الأفريقي.
إنَّ المنطقة كلها تتطلَّع لأن يكون العقد القادم عقد سلام وتنمية، يعوِّض شعوبها عن سنوات الأزمات والصراعات، وذلك بوضع استراتيجيات مُحْكَمَة لمنع مثل هذه النزاعات، وكبح جِماح ما قد ينشب الصراعات، لأن البدائل الأخرى جميعها سيئة. فإذا تساءلنا: كيف يمكن للمرء حساب فشل منع نشوب النزاعات والصراعات؟ سندرك كم نحن بحاجة لمثل هذه الاستراتيجيات، التي تستصحب آليّات الدبلوماسيَّة الوقائيَّة في مقدِّمة أولوياتها. وبغير ذلك، فإنَّ محاولة الإجابة تستدعي وضع عدة تفسيرات علينا أن نضعها قيد النظر، منها: عدم الاهتمام؛ وهذا نحسب أنه مستبعد، وعدم وجود تصوُّر بأنَّ مصلحة حيويَّة على المحكّ؛ وهذا يجافي منطق الأشياء، والميل إلى ردِّ فعل؛ وتجارب الماضي في الخليج تقول بغير ذلك، وبطء الدبلوماسيَّة التقليديَّة؛ وقد أثبتنا كم هي ناجعة في غالب المنعطفات الخليجيَّة التاريخيَّة، والافتقار إلى الإجماع، أو توافق الآراء، ومشقَّة صنع القرار؛ وقد حسم تأسيس مجلس التعاون هذه المسائل، وعدم كفايّة الخبرة؛ والنهضة البشريَّة والعمرانيَّة تدل على غير ذلك، وانعدام الدراية بمهارة تحويل الصراع، وتعقيدات الصراعات إلى فرص؛ وهذا تحديداً هو مطلب العقد القادم. وبالمفاضلة، نجد أنَّ استيعاب اليمن والعراق، وربما الأردن، في معادلة تنمويَّة جماعيَّة، واجتراح خطط مستدامة للتهدئة مع إيران، وإيجاد شراكات مصالح راسخة مع دول القرن الأفريقي، ستؤكِّد على مهارة تحويل، ما يُنظَر إليه الآن كنزاع وصراع، من حالة سلبيَّة إلى أخرى إيجابيَّة.
إنَّ المنطقة كلها تتطلَّع لأن يكون العقد القادم عقد سلام وتنمية، يعوِّض شعوبها عن سنوات الأزمات والصراعات، وذلك بوضع استراتيجيات مُحْكَمَة لمنع مثل هذه النزاعات، وكبح جِماح ما قد ينشب الصراعات، لأن البدائل الأخرى جميعها سيئة.
نعم، نحن نُدْرِك إن عدم وجود بصيرة كافيَّة بطبيعة تعقيدات المنطقة، في كثير من منظّمات العالم، أو نظم الإنذار المبكر بها، حَوَّل الدبلوماسيَّة إلى مجرَّد آليَّة لإدارة الأزمات المزمنة، إلا أن المطلوب من دول الخليج هو أن تعمل هذه الدبلوماسيَّة باستمرار لتحسين أدوات التشخيص والانذار، لتجنُّب المفاجآت. ويعلم القائمون على الأمر أنَّ المطلوب القيام به أكثر من ذلك بكثير، إذ يتعيَّن لتحقيق فهم أفضل وبصيرة استشراف أدقّ لديناميات الصراع، توجيه قدر كبير من الاهتمام لهذه الدبلوماسيَّة، وإعانتها بنظم الإنذار المبكِّر للتطوّرات، لرصد أسوأ حالات التصعيد العنيف المحتملة. لأن لا أحد يريد أن تفاجئه الأحداث، أو تطل عليه الملمَّات وهو في غفلة من أمره، أو من يهمّه أمرهم من الأشقّاء والأصدقاء، الذين تكاد أن تتخطّفهم الأزمات والصراعات ويتطلَّعون لأن يُهرع لنجدتهم الأشقاء والأصدقاء، كما حدث في الحالات التي مرَّ ذِكرها، وغيرها، ممَّا لا يتَّسع المجال لذكره، والإفاضة في تِعداد أدوار دول الخليج فيه. إذ كيف يستطيع المرء العيش وفقاً للمنطق إذا كان غيره، من الغرباء والأجانب، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، قد يقتحمون عليه عالمه الخاصّ في أيَّة لحظة؟ ومهدّدات الأمن والسلام معلومة ومُدْرَكة، كما أن قابليَّة قلبها إلى فرص ومغانم ممكنة ومتاحة.
الدبلوماسيَّة الوقائيَّة:
تتميَّز أكثر النزاعات، التي حدثت تاريخياً بين دول الخليج العربيَّة، وبينها وجيرانها، بأن معالجاتها كانت وديَّة، أو بترتيبات ديبلوماسيَّة، استهدت بتقاليد شعوبها، وإرثها المعنوي التليد. وهذا يختلف كثيراً عن طبيعة النزاعات، التي وقعت في غير الخليج، وجرى التعامل معها دبلوماسياً، أو عسكرياً، حيث أنها كانت نزاعات بين الدول، التي لا تجمع بينها كثافة الروابط الاجتماعيَّة والتاريخيَّة والمصيريَّة، كما الحال بين الخليجيين. فقد أثبتت الأساليب التقليديَّة، التي تمَّ اعتمادها في الحلّ في دول الخليج، أنها ذات أهميَّة محدودة لمعالجة النوع الغالب من ما يُصنف عادة بأنه صراعات في غيرها، والتي سيطرت بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة، وما تزال، أي الصراعات منخفضة الحدَّة. إذ تميل العديد من الخصائص للدبلوماسيَّة التقليديَّة إلى كبح، والوقاية الفعَّالة من تصاعد النزاعات العرقيَّة، أو القوميَّة. ففي الدبلوماسيَّة العالميَّة، هناك، على سبيل المثال، ميل للتمييز الحادّ بين الحروب الأهليَّة، التي يفترض ألا تتدخَّل أيَّة قوَّة خارجيَّة فيها، والحروب الدوليَّة، والتي هي الشغل الشاغل لجميع الدول. فمن المرجَّح أن تشكِّل الحرب الأهليَّة تهديداً فقط عندما تتمدَّد خارج الحدود، أو عندما تصبح القوى الكبرى معنيَّة بها. ومن ثمّ، فإنَّ النهج الصحيح هو عزل، أو الحجر على، منطقة الحرب. وهذا هو منطق السياسة الواقعيَّة، التي تعطى الأفضليَّة لسبب الحالة، أو إلى المصلحة الوطنيَّة، وسيادة الشعب لأنها لا يتعارضان. وتميل الدبلوماسيَّة التقليديَّة أيضاً إلى أن تكون نخبويَّة وتختصر وظيفة منع الصراعات على تطبيقات الأساليب المألوفة لصنع السلام، بما في ذلك التفاوض، والوعود والترغيب، والترهيب والتهديدات، إذا لزم الأمر، و/ أو صنع السلام والإنفاذ، إذا تطلَّبت الحالة ذلك، لأن التعامل مع أنواع جديدة من الصراعات يتطلَّب تحليلاً أكثر تعقيداً لديناميات الصراع، والتأقلم بشكٍل أفضل مع الأدوات المتاحة وآليات منع نشوب الصراعات. فالمنطقة ابتليت كثيراً بحروب العراق، التي حتمت عليها جيرتها القوميَّة والجغرافيَّة أن تكون طرفاً متأثّراً بها، ومتحملةً لبعض تكاليفها. وينشغل بعضها الآن، بما عَرَّفَتْهُ بحرب “الشرعيَّة” في اليمن، والتخوّف من تطويق النفوذ الإيراني لها، الذي أخرجها من تقاليدها الدبلوماسيَّة الوقائيَّة الهادئة.
ولأننا نعيش اليوم جميعاً في عالم متداخل، تتناوشه الأحداث والاضطرابات، كما تتعاظم بين دوله المنافع والمصالح؛ وعملياً لم يتمّ فعل شيء يذكر من خلال المؤسَّسات الدوليَّة، فإننا بحاجة لتطوير نظم الإنذار المبكر، التي يمكن أن توفِّر لدول الخليج فرصاً للتدخل الإيجابي لتجنّب نشوء، أو نشوب، أي نوع جديد من الأزمات؛ فيما بينها، وبينها وبين جيرانها الأقربين في الشرق والغرب. كما أن هناك حاجة ملحَّة لتطوير نظام أكثر دقَّة لتقييم الأثر الناجم عن ما مرَّ، أو ما هو قائم، من نزاع وصراع. وهذا ضروري لأنَّ سياسات منع نشوب الصراعات اليوم تبدو وكأنَّها مجموعات من المناهج ذات بعد واحد، ولا تأخذ في الحسبان العوامل الخارجيَّة السلبيَّة المحتملة والمُعَطِّلَة لجهود النوايا الحسنة. فقد أصبحت تدخّلات بعثات المنظّمات الدوليَّة، وما تنتدبه من قوات حفظ السلام، في عدد من الحالات، عقبة أمام تعزيز سلام فعال، وهذا ما لا ينبغي تكراره في حالات لدول الخليج طرف فيها. إذ يمكن للتدخّلات الأمميَّة غير المدروسة، في ظلِّ ظروف معيَّنة، أن تُطيل أمد النزاع المعقَّد، وتزيد من حِدَّة الصراع العنيف. ويمكن أن يكون ظاهر الضغوط الأمميَّة لتبني خيارات بعينها نعمة، ولكن يمكن أيضاً أن تعزِّز قوى الطرد المركزي، وتؤدِّي إلى الفوضى، وينتهي الأمر إلى حالة من التشظِّي؛ كما نشهد في ليبيا. لذا، فإنَّ تطوير نظام خليجي فعّال لمنع نشوب النزاعات والصراعات، في العقد القادم، يتطلَّب إجراء تقييم منهجي للأثر الإيجابي و/ أو السلبي للتدابير المختلفة لديناميات هذه النزاعات والصراع.
إنَّ القادة الخليجيين يدركون أنَّ السبب الرئيس لعدم كفاية نظام منع الصراع العالمي اليوم يعود إلى ضعف تصوّر وجود مصالح بين المتخاصمين. وإذا استبعدنا صراعات الشرق الأوسط القديمة – الجديدة برهة، فإن أفريقيا المجاورة، مثلاً، مليئة بأجراس الإنذار والأضواء الساطعة، التي تنبئ بوجود أزمات، ولكن طالما الدول الكبرى، أو منظّماتها الدوليَّة، لا ينظرون إلى أن مصالحهم الحيويَّة على المحكّ، فإنَّ المناداة بجهود استباقيَّة لمنع نشوب الصراعات تظلّ مجرَّد أضغاث أحلام. ولا يبدو أنَّ المخاوف الأخلاقيَّة، أو الإنسانيَّة، يمكن أن تكون ضمانة لاتِّخاذ تدابير فعَّالة لمنع ما قد ينشب من صراعات. وهذا يؤدِّي إلى نتائج متناقضة. وبدلاً من جهود استباقيَّة أكثر فعاليَّة من حيث التكلفة، تبررها المصلحة الذاتيَّة المستنيرة، فنحن نرى تدابير ردود الفعل المكلفة، الناجمة عن الاعتبارات الأخلاقيَّة المتأخِّرة؛ كحال رواندا والصومال. ويتمثَّل السبب الآخر للفشل في منع نشوب الصراعات في عدم وجود المهارة التحويليَّة للصراع ليصبح مصالح معلومة. إذ إنه بالنسبة لمعظم المشاكل الخطيرة في العالم يجد المرء البحوث وبرامج التدريب. ويلزم الأطباء بالدراسة لمدة سبع سنوات، والقانونيين والمهندسين المدنيين خمس سنوات، والاقتصاديين وعلماء النفس خمس سنوات، الخ. ومع ذلك، فللتعامل مع حالات العنف واسع النطاق لم يتمّ توفير برنامج أكاديمي شامل في المؤسَّسات التعليميَّة العربيَّة. وفي المؤسَّسات العالميَّة، وحتى وقت قريب، كان التدريب على إدارة الصراع العالمي حكراً على الدبلوماسيين والجنود. ويقدِّم التدريب في الأكاديميات العسكريَّة، أو في مكان العمل الدبلوماسي.
المصالحة مع المستقبل:
وفقا لخطَّة السلام، التي اقترحها الدكتور بطرس غالي، إبّان توليه لمقعد الأمين العام للأمم المتحدة عام 1992، فإنه لا يتطلَّب فقط مهارات في صنع السلام وحفظ السلام، ولكن أيضاً في “إعادة” بناء السلام. وكأحدث إضافة إلى المفردات الدبلوماسيَّة، يميل تعريف بناء السلام إلى أن يكون عامّاً وفضفاضاً. يشير بناء السلام إلى خلق السياق الموضوعي والذاتي، الذي يعزِّز التحوُّل البناء للصراعات ويؤدِّي إلى سلام مستدام. والسلام المستدام هو السلام المشروع، الذي يدعمه الأشخاص المعنيّون. لقد وضعت فكرة بناء هذا السلام على مفهوم تحويل النزاع، مما يؤكِّد هدف تحريك عدد معين من السكان من حالة الضعف الشديد والتبعيَّة إلى وضع الاكتفاء الذاتي والرفاه، وقد يصدق هذا على اليمن، كما ينسحب أيضاً على أوضاع القرن الأفريقي. وبعبارات أكثر تحديداً لتطوّر الصراع، فإنَّ التحوّل هو الانتقال من الصراع الكامن إلى المواجهة، إلى التفاوض، إلى علاقات سلميَّة لمجتمع آمن. إذ يتطلَّب بناء السلام مجموعتين من الجهود المتَّصلة: “إعادة” بناء، و”إعادة” التوفيق. والجهود التي ينبغي أن تكون أكثر وضوحاً هي التدابير الهيكليَّة، التي تهدف إلى تحسين ظروف الحياة، للحدّ من التمييز وتوفير السبل والوسائل لتسوية المنازعات. فهناك الكثير من اتّفاقات السلام تشتمل على التدابير الهيكليَّة ذات الطبيعة السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والقانونيَّة، والتعليميَّة، والعسكريَّة، والإنسانيَّة. كل هذا يترجم إلى الجهود المبذولة لتنظيم والإشراف على بناء العمليَّة السياسيَّة، ولإعادة بناء الاقتصاد، ومن أجل تعزيز النظام القانوني ووقف الإفلات من العقاب، ولإعادة بناء البنيَّة التحتيَّة التعليميَّة، ولإعادة توطين النازحين واللاجئين، وتنفيذ نظام فعال لمراقبة الأسلحة، واستدامة السلام.
وأقل وضوحاً، ولكنها حاسمة، هي جهود التوفيق والمصالحة. ويُراد بهذه الجهود خلق المناخ المعنوي والسياسي الجديد، الذي يلتزم فيه الناس برتق نسيج العلاقات، الذي تمزَّق، وبناء مستقبل جديد. وهذا لا يعني فقط المصالحة مع الحاضر؛ عبر اتّفاق سلام يسوي المنازعات فحسب، ولكن أيضاً المصالحة مع الماضي، ومعالجة الجروح النفسيَّة – التاريخيَّة، الذي يمكن أن يستغرق قدراً كبيراً من الوقت، والمصالحة مع المستقبل. فالمصالحة مع الماضي والحاضر والمستقبل أمر ضروري لتحقيق سلام مستدام. وجزء أساسي آخر من المناخ السياسي الأخلاقي الجديد هو “إعادة” التوفيق بين المتناقضات، التي هي في الواقع قيم وقوى مترابطة؛ مثل البحث عن الحقيقة، السلام، والعدل، والرحمة، والرفاه، والتي سوف تساعد الجماعات المتصارعة على تضميد جراح الماضي وتصوّر مستقبل مشترك مترابط.
إنَّ الحقيقة تنطوي على التوق إلى الاعتراف بالخسارة والخبرات الخاطئة والمؤلمة، بل تسعى إلى فهم أفضل لأسباب العنف، وتجنّب سوء التصوّر، وسوء الفهم. والرحمة تتبنَّى موقفاً حميداً، يعتمد التصرّف لإظهار التعاطف، أو الشفقة؛ والحاجة للقبول، والعفو، لبداية جديدة. والسلام يؤكِّد على الحاجة إلى الأمن والعلاقات المتناغمة، التي تخلو من العنف، أو القمع. وتعكس الرعاية الحاجة الماسَّة للمادَّة الكافية، أو الموارد الماليَّة، لتحقيق الازدهار والرفاه. في حين تمثِّل العدالة الحاجة إلى الإنصاف من خلال تسوية موضوعيَّة حول المزاعم المتضاربة، أو التنازل عن المكافآت، أو العقوبات المستحقَّة. وهذه وغيرها من القيم يتمّ إظهارها كمفاهيم سياسيَّة لها دوائرها الخاصَّة بها. في عدد من حالات ما بعد الصراع نجد منافسة شرسة بين أنصار “محكمة جرائم الحرب”، و”لجنة الحقيقة والمصالحة”، و”العفو”. إذ إن المصالحة تخلق الإمكانيَّة والفضاء الاجتماعي حيث يتمّ التحقّق من صحَّة كل تلك القيم، أو الاحتياجات، بدلاً من الإطار، الذي يشير إلى أن البعض يجب أن يفوز على الآخرين.
المصالحة مع الماضي والحاضر والمستقبل أمر ضروري لتحقيق سلام مستدام. وجزء أساسي آخر من المناخ السياسي الأخلاقي الجديد هو “إعادة” التوفيق بين المتناقضات، التي هي في الواقع قيم وقوى مترابطة؛ مثل البحث عن الحقيقة، السلام، والعدل، والرحمة، والرفاه، والتي سوف تساعد الجماعات المتصارعة على تضميد جراح الماضي وتصوّر مستقبل مشترك مترابط.
وعود الصعود:
إن دول الخليج العربيَّة ربما تكون موعودة بصعود جديد في العام القادم 2020، وما يليه من عقد 2030، إن هي أحكمت ترتيب البيت الداخلي لمجلس التعاون، وطوَّعت الإدراك الاستراتيجي لأهميَّة موقعها في صياغة علاقات نديَّة بناءة مع جوارها الإقليمي في الشرق والغرب. رغم أن التركيز الكبير للأدبيّات السياسيَّة العالميَّة حول قضايا الأمن في الخليج، التي تجري مناقشتها في الأوساط الأكاديميَّة، ومراكز صناعة الرأي العالميَّة، قد تجيء أحياناً بنتائج ليست في معظمها إيجابيَّة، لأَّن عدداً كبيراً من الموضوعات المهمَّة الأخرى بالنسبة لدول الخليج العربيَّة لم يحظَ بالاهتمام، الذي تستحقّه. وذلك، لأن الموضوعات، التي يُعاينها هؤلاء تنصب في كثيرها حول دور ازدياد التنازع الدولي على الممرَّات المائيَّة في تفاقم المشكلات المتأصِّلة في طبيعة العلاقات الإقليميَّة للدول المشاطئة لهذه الممرّات. كما أنهم ينظرون إلى التداخل والتباعد على المستوى الإقليمي، وكأنه يثبت عدم وجود حدود “خليجيَّة” واضحة لدول الخليج بغير إضافة كلمة “العربيَّة”، كمنطقة تنفصل جغرافياً عن إيران، والاعتماد على فكرة “العروبة”، كقوميَّة تبعدهم عن “الفرس”، الذين يناظرونهم في الشاطئ الشرقي لهذا الخليج. وقطعاً لا ينبغي المبالغة في تقدير منافع هذا التداخل، أو عواقب ذلك التباعد، حيث أن كلتا الضفتين بعيدتان كل البعد، في الوقت الراهن، عن توليد أي شكل كبير من التكامل، الذي يقلِّل من نسبة ما هو حادث من توتّرات. ومع ذلك، فقد أثَّر ذلك التباعد على التعاون الإقليمي الأشمل، الذي يتقاطع فيه الجانبان، خاصَّة فيما يتعلَّق بإدارة النزاعات، والوساطة فيها، مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان. ففي هذه الحالات، كان لدول الخليج العربيَّة وإيران أن يلعبا دوراً مشتركاً إيجابياً، رغم ما بينهما من مواقف مختلفة. وكان ذلك كفيل بأن يجعل الأطراف المتنافسة في هذه الصراعات غير قادرة على الوقوف مع الطرف الإقليمي، الذي أظهر تعاطفاً أكبر مع مخاوفهم؛ وإنما مع من يعمل على إجبارهم جميعاً على التسوية على أساس مبادرة واحدة مشتركة ينداح خيرها على المنطقة بأسرها.
في المجال الاقتصادي، خاصَّة فيما يتعلَّق بالسياسات التجاريَّة، لا شكّ أنَّ التباعد بين طرفي الخليج يمثِّل معضلة أقل حدَّة من إشكاليَّة إدارة صراع النفوذ بينهما. ومع ذلك، لا شكّ أنَّ بعض المبادرات المفصَّلة، التي كانت ترمي إلى التقارب، دخلت في منافسة مباشرة مع بعضها البعض، وأن تأثيرها المشترك كان ضعيفاً للغايَّة. على سبيل المثال، كان ينظر إلى التعاون الاقتصادي والسياسي داخل داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة باعتباره أداة لتضييق شقة الخلافات السياسيَّة في جميع أنحاء المنطقة، وخاصَّة بين بلدان المجلس وإيران، وبينها ودول القرن الأفريقي، التي لديها العديد من النزاعات السياسيَّة العالقة، بما في ذلك صراعات الصومال، ومنطقة الحدود بين جيبوتي وإرتيريا، والتي كانت هدفاً لنزاع بين البلدين، وما تزال. ومع ذلك، ولأسباب اقتصاديَّة بحتة، ليس من المستغرب أن يكون لدى الدول الأعضاء في المجلس اهتمام أكبر في العقد القادم بالتنمية ذات العائد المشترك في دول القرن الأفريقي، حيث كان من الواضح أنَّ زيادة الاستثمارات السعوديَّة والإماراتيَّة مع دولة مثل إثيوبيا أثر مفيد داخل المنطقة برمتها، إذ شجَّعها على المصالحة مع إرتيريا والمساعدة في عمليَّة الانتقال السياسي في السودان. ونتيجة لذلك، ولأسباب أخرى داخليَّة، نال رئيس الوزراء الإثيوبي الدكتور أبيي أحمد علي جائزة نوبل للسلام.
لذلك، حتى لو اقترح بعض العلماء أنَّ المشروعات القائمة على “اتِّجاهات خارجيَّة مختلفة”، و”مجموعة مختلفة من الانتماءات الإقليميَّة”، في المجال الاقتصادي، يمكن أن تؤدِّي إلى “الإقليميَّة المفتوحة”، التي تستفيد فيها الدول من هذا التداخل الإقليمي. ونرفض في هذه الحالة المخصوصة تشاؤم البعض الآخر من العلماء القائل إنه قد يكون العكس هو الحال أيضاً، كما هو الحال في المجال السياسي، فإنَّ التسوّق في المنتديات بين التحالفات الاقتصاديَّة المختلفة يمكن أن يقوِّض التماسك داخل المنطقة، ويضعف احتمالات تسرُّب الوظائف الاقتصاديَّة إلى التكامل السياسي الأوسع، لأن التكامل السياسي ليس مطروحاً هنا، وإنما توسيع لقاعدة التنمية لتحقِّق على المستوى الاقتصادي مصالح مشتركة أكبر، وتعاون سياسي لضمان هذه التنمية حتى يتعزَّز بها نطاق الأمن والسلام الأشمل.
الخلاصة:
بيد أنه، في الختام، يبقى السؤال الأوسع حول كيفيَّة ربط التنمية والأمن والسلام بنوع نظام الترتيبات الإقليميَّة الناجحة. فإذا كانت دول الخليج العربيَّة، على وجه الخصوص، قد رتبت أمرها مؤسّسياً، وبمقدورها حلحلة ما يطرأ بينها من خلافات، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان نوع النظام القائم في القرن الأفريقي، كالمنظّمة الإقليميَّة للتنميَّة الاقتصاديَّة الـ”أيغاد”، بمقدوره أن يستوعب شراكات على نطاق الإقليم، أم يترك الأمر للاجتهادات الفرديَّة لدوله، والبناء على جدوى العلاقات الثنائيَّة، أو يتدخَّل لتوجيه المسارات الكليَّة في العلاقة مع دول الخليج، وإيجاد علاقات ناظمة لجملة المصالح المتأتيَّة منها. لكن السؤال الملح، الذي ينتظر الإجابة، هو” كيف تتمكَّن الـ”إيغاد” من تحقيق استقرار النظام في بعض دولها؟ وليست الصومال وحدها، التي تتنظر مواءمة أوضاعها الداخليَّة، فالهشاشة التي تكتنف نُظمِها الداخليَّة في أكثر من بلد، وبعضها يعاني اضطرابات العبور من مرحلة الانتقال. رغم أن الـ”إيغاد” يُنتظر من تصميمها أن لتجاوز احتمال الفشل، كما نستطيع أن نجادل بذلك، لأنها ترتبط بمؤسَّسات إقليميَّة تعمل على أن تكون أكثر نجاحاً، كالاِّتحاد الأفريقي، الذي يدفع القارة الأفريقيَّة برمتها نحو التكامل الاقتصادي والوحدة السياسيَّة. ومع ذلك، في الوطن العربي، هناك موضوعان مهمَّان يتبادران إلى الذهن على الفور. من ناحية، يبدو أن هناك علاقة مباشرة بين الفشل المستمرّ في بناء الدولة الوطنيَّة في منطقة القرن الأفريقي، وبين إنشاء مؤسَّسات فعَّالة فوق وطنيَّة في المنطقة.
من ناحية أخرى، فإن الحجج الأوسع نطاقاً حول مقتضيات الترتيبات الإقليميَّة، أو غير الثنائيَّة، لها آثار مهمَّة على العلاقات المستقبليَّة لدول الخليج العربيَّة مع المنظومات الشبيهة في القرن الأفريقي. واستيعاب منظّمات المجتمع المدني في هذه الترتيبات سيوثق أكثر من العلاقات الشعبيَّة؛ وما تقوم به “مؤسَّسة آل مكتوم” في إثيوبيا خير مثال على ذلك. رغم أن الملاحظة العامَّة تقول إنَّ المجتمع المدني بالمعنى الغربي لا يزال متخلفاً في المنطقة بشكل كبير بسبب السيطرة، التي تمارسها أجهزة الدولة على المنظمات غير الحكوميَّة، وغيرها من حالات النشاط المدني؛ على هذا النحو، فإنَّ المنظّمات غير الحكوميَّة؛ ذات النطاق الإقليمي، قليلة وليس لها تأثير يذكر على السياسة الإقليميَّة. ومع ذلك، نظراً لطبيعة المنطقة والهويَّة الدينيَّة واللغويَّة والإثنيَّة المتعدِّدة والمتداخلة بين شعوب القرن الأفريقي، تظلّ الروابط الإقليميَّة العابرة للحدود كبيرة وتتطوَّر في بعض الأحيان إلى شبكات إقليميَّة غير حكوميَّة فاعلة، يتجاوز نطاق تأثيرها عمل المؤسَّسات الحكوميَّة والدوليَّة.
* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي
الثلاثاء 10 ديسمبر 2019
القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة