مَعْرَكَةُ تَجْدِيدِ الخِطَابِ بين الفِكْرِ الدِّينِيِّ والفَلْسَفَةِ العَرَبِيَّة
في مصر المحروسة ظهرت بعض الأصوات تنادي بضرورة إلغاء تدريس مادة التربية الدينيَّة بالمدارس وبالأحرى على لسان المفكِّر مراد وهبة الذي يوصف في مصر بأنَّه آخر الفلاسفة، بغض النظر عن عقم الفلسفة العربيَّة الراهنة وعدم جدواها المعاصرة بصفة عامَّة وفشلها المستدام في علاج مشكلات الإنسان المصري والعربي على السواء، وتناول الإعلام المصري بوسائطه المتعدِّدة ما بين مسموعة ومقروءة ومرئيَّة هذه الدعوة بقدر من التردُّد والتأرجح، حتى وصل الأمر إلى مناقشات مجلس النواب المصري، فهناك من يرى أنَّ مادة التربية الدينيَّة تؤدِّي إلى التطرُّف والإرهاب والعنف والتنمُّر المدرسي، ويرى آخرون أنَّ تدريس التربية الدينيَّة ضرورة لأنها تتوافق مع رؤية مصر 2030 وهي بناء الإنسان، والدين وحده كفيل بتحقيق هذا الهدف النبيل.
والذين يردِّدون شعارات أراها بليدة ومكرورة وخائبة بأن مادة الدين بالمدارس تكرِّس للانفصال وعدم المساواة بين المسلم والمسيحي لم يلتفتوا أن ما يتمّ إقراره بالكتب الدراسيَّة التي تحتاج إلى تطوير في المضمون والشكل والإخراج والتقديم لا تشير بأيَّة صورة إلى تلك العلاقات المنفصلة أو حالات الاستبعاد الاجتماعي أو الإقصاء والتهميش الذي يشيرون إليه.
وكل الظن أن هؤلاء يتحدَّثون عن مناهج التعليم الأزهري الذي هو بالضرورة لا يخصّ سوى أهل الإسلام المنضمين لتلك المعاهد الأزهريَّة، وأكاد أشك أن تلك المناهج تحضّ على كراهيَّة الآخر أو تمسّ عقائد المخالفين بالسوء والبغضاء. وجميل ما ذكره النائب المصري محمد الغول بعد رفضه لهذا المقترح الأكثر عجبا لأن إلغاء تدريس التربية الدينيَّة حسب وصفه سيخلق جيلا كاملا ملحدا لا يعرف شيئا عن مبادئ دينه سواء الإسلاميَّة أو المسيحيَّة.
وفي سياق متَّصل بهذا الموضوع، أشارت النائبة دينا عبد العزيز عضو مجلس النواب المصري، في تصريحات لـصحيفة “اليوم السابع” القاهريَّة إلى أن مادَّة الدين لا تسبِّب في فصل الارتباط الوجداني، مشيرة إلى أن الدين بطبيعته يعمِّق الارتباط الوجداني ويرتقي بالإنسانيَّة، ولكن أسلوب وطريقه التدريس والشخص القائم بالتدريس هي المشكلة التى يجب حلّها. وأكاد أتَّفق مع هذا الرأي الذي شارف على الصواب واليقين، بأن المشكلة الحقيقيَّة تكمن في إجراءات التدريس وطريقة تقديم المحتوى وما يتعلَّق بكفاءات المعلِّم وقدراته وإمكاناته المعرفيَّة والدينيَّة والمهنيَّة.
ومجمل دعوة المفكر المصري الدكتور مراد وهبة كما جاء في حديثه مع صحيفة اليوم السابع القاهريَّة هو أنه لا بد من استبعاد تدريس المادة الدينيَّة من المدارس، لأنه في هذه الحصَّة يدخل المدرس، ويغلق الباب خلفه، ويقوم بالتدريس للطلبة، سواءً كانوا المسلمين أم المسيحيين، وأنت لا تعرف على الإطلاق ماذا يقول للطلبة، ولكن بحكم الفصل المكاني يجد الطالب نفسه أمام الفصل الفكري، لأن الطالب المسلم يجد زميله المسيحي فى فصل آخر، والعكس.
وهذه الفكرة قديمة بل أصبحت من كلاسيكيات الطرح الفلسفي المناهض لتدريس التربية الدينيَّة، وكادت تستحيل من القضايا التراثيَّة التي لا يكترث بها سوى أصحابها فقط، ويكفي لفصل القول في هذه القضيَّة أنني درست بالمرحلة الابتدائيَّة في إحدى المدارس المسيحيَّة الكبيرة والتي كانت تضمّ أيضا كنيسة كبيرة تتبع الطائفة الإنجيليَّة وكان مدير المدرسة أحد القساوسة آنذاك وكان زملاؤنا من المسيحيين يغادرون الفصل في حصَّة التربية الدينيَّة ونمكث نحن به، ورغم ذلك لم يخرج منا متطرِّف أو إرهابي أو ملحد أو حتى مدعٍّ للنبوة، لذا فالفكرة وحدها قاصرة وباقيَّة بعقول هؤلاء الذين يردِّدون أفكارا أصبحت منتهية الصلاحيَّة في زماننا هذا، وهذا أيضا يدفعنا للحديث مجدّدا عن فساد العلمانيَّة وفقر الفلسفة العربيَّة التي لم يعد لها مكان وسط الفلسفات والطروحات الذهنيَّة العالميَّة ؛ لانفصالها عن واقع الإنسان العربي من ناحيَّة، ولأنها لم تعد كفيلة وجديرة بحل مشكلات الإنسان.
فحينما نجد صوتا يردّد بأن المؤسسة الدينيَّة الحاليَّة تعدّ سببا لوجود الإرهاب، فالواقع يفترض علينا يقين الإشارة بأن الفلسفة التائهة التي تقدِّم عبر المقالات والدراسات والندوات هي التي أصابت عقول الشباب بالتخبط والحيرة والقلق، وأن النزعات الفلسفيَّة الشاردة هي التي دفعت الكثير من هؤلاء الشباب لعدم الالتفات لرجال الدين من المخلصين للعقيدة سواء الإسلاميَّة أو المسيحيَّة.
ولقد أشار المفكر المصري الطاعن في السن الدكتور مراد وهبة بأن المؤسَّسة الدينيَّة ليست مواكبة للعصر، فلو كانت مواكبة ما كنا لنرى أي شكل من أشكال الإرهاب.وأعتقد أن المفكر المصري يقصد المؤسَّسة الدينيَّة المسيحيَّة، لأن المؤسسة الدينيَّة الرسميَّة في مصر الأزهر الشريف وكذلك وزارة الأوقاف المصريَّة تقومان بجهد واضح منذ سنوات ليست بالبعيدة للتطوير سواء على مستوى الدعوة أو المناهج الدراسيَّة وأخيرا صدور وثائق رسميَّة معتمدة لتجديد الخطاب الديني، فضلا عن الجهود المبذولة بين الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين بإصدار كتب تنويريَّة لتصحيح المسار الحالي.
حينما نجد صوتا يردّد بأن المؤسسة الدينيَّة الحاليَّة تعدّ سببا لوجود الإرهاب، فالواقع يفترض علينا يقين الإشارة بأن الفلسفة التائهة التي تقدِّم عبر المقالات والدراسات والندوات هي التي أصابت عقول الشباب بالتخبط والحيرة والقلق، وأن النزعات الفلسفيَّة الشاردة هي التي دفعت الكثير من هؤلاء الشباب لعدم الالتفات لرجال الدين من المخلصين للعقيدة سواء الإسلاميَّة أو المسيحيَّة.
وأخيرا هذه الأصوات وغيرها تشير إلى أن كليات التربية هي التي تحضّ على التطرّف نظرا لوجود بعض الأفكار الإخوانيَّة بها، وأن التطوير لن يحدث إلا إذا تمّ تطوير كليّات التربية نفسها وتطهيرها من الفكر الإخواني والأفكار التي تبدو متطرِّفة، وفي هذا الشأن غفلت هذه الأصوات عن حقيقة واقعيَّة بأن الجامعات المصريَّة وتحديدا تمّ تطهيرها من الكيانات الإخوانيَّة أعضاء تنظيم حسن البنا الذي لم يعد له وجود بالفعل لا لكونه إرهابيّا بالقدر الذي صار فيه هذا الفكر غير مناسب لمرحلة تسعى فيه مصر رئيسا وحكومة وشعبا وجيشا للبناء وعبور المستقبل وإعادة الوصول إلى منصَّات التتويج في مجالات الحياة.
وبات من الصعب بل فشلت كافة المساعي الإخوانيَّة في عرقلة العمل والتطوير بكليات التربية، هذا ليس من باب السرد فحسب، بل أظن أن دراستي الأخيرة التي نشرت بمجلة إحدى كليات التربية وكان موضوعها تطوير مقرّر الدين وقضايا العصر لطلاب كليَّة التربية في ضوء أبعاد تجديد الخطاب الديني والتوجّهات المعرفيَّة المعاصرة، كفيلة بدحض هذه الدعوة وتلك الأفكار..
لكن، هل نجحت الفلسفة العربيَّة الراهنة، أعني المعاصرة في مواجهة الاستيطان الصهيوني الغاشم ؟ وهل الفلسفة التي تدَّعي اليوم بأنها عربيَّة خالصة استطاعت تفكيك الجغرافيات الفلسفيَّة القديمة لتأتي بطرح جديد يمكن معالجة واقعنا الحالي؟ الإجابة تأتي دوما بالنفي، لأن مشكلة هذه الفلسفة الحقيقيَّة هي غياب الوعي بمعطيات الحاضر، دونما أدنى عناء بمحاولة تحسين الواقع أو حتى بناء المستقبل.
وغياب الوعي المستدام لدى الفلسفة العربيَّة الراهنة هو الذي دفع أصحابها إلى ممارسة كافة أشكال الإقصاء أو الدمغ أو التهميش وأحيانا الإدانة والاستبعاد لكل رؤية مغايرة لإحداثيات الفلسفة التي لا تعبأ بالتجديد رغم كون الفلسفة تنويرا للعقل والمجتمع، حتى باتت فلسفتنا العربيَّة اليوم سيرة محفوفة بالغموض والحيرة لا تصل بالمواطن العربي إلى مرافئ اليقين. لاسيما وأن السلطة الفلسفيَّة اعتمدت محاور تشبه الشراك المفخخة التي لا تخرج عن أفلاك الثنائيَّة، وهي العقل والنقل، والخلق والقانون، والسلم والحرب، والجبر والاختيار، والخير والشر، وأخيرا العلم والدين، وكأنَّ الفلسفة العربيَّة الراهنة التي نتجت عن إرهاصات عربيَّة أصيلة قديمة، أو منتوج غربي خالص، استمرأت الدور الباهت الذي لا يقضي ويفصل بالحقّ اليقين.
وكم من مصيبة آنيَّة نجدها في سرديات الفلسفة العربيَّة تحاول من جديد تأويل مشكلة الألوهيَّة، والحديث عن العلل الأولى وطروحات الفارابي وابن سينا مما يدل بقوّة وشدّة على نضوب العقل العربي الذي في الأساس يسعى جاهدًا إلى التنوير والتجديد. ولايزال الحديث في مجمله العقيم يتناول مباحث الوجود والممكن، والعالم، وأصل الماهيَّة، وأن النفس الكليَّة هي الواسطة بين عالمين ؛ عالم الخير والعقل، وعالم الإنسان أو عالم الحسّ والشاهد، وهي جميعها بمنأى عن واقع المواطن العربي الإيجابي الذي يهرول من أجل التمكين والوصول إلى منصات التتويج المعرفيَّة.
ولطالما أرهق دارسو وأساتذة الفلسفة في معاهدنا الأكاديميَّة العربيَّة أنفسهم بالبحث عن كنه الوظيفيَّة الفلسفيَّة بعد العبقري العربي الوليد بن رشد، وهذا الإرهاق الذي يتبعه الإحباط وربما الاكتئاب من صعوبة الوصول إلى يقين معرفي للإجابة مفاده أن الفلسفة باختزال شديد واختصار غير مخل بالمعنى هي فن تكوين وإبداع ووضع مفاهيم من شأنها ضبط إيقاع تفكير الفرد والمجتمع على السواء. وما شأنهم الضارب في القدم بحكم الدراسة والتخصّص ثم التمكين المهني النظري سوى استيراد الأفكار وإعادة صياغتها وتحديدا في مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين ما عرف بالتمصير الذي أخل بالضرورة بالنظريَّة الأصليَّة التي نجمت وفق سياقات سياسيَّة واجتماعيَّة ونظم فكريَّة ترتبط بمجتمعاتها الوافدة.
ومنذ وفاة النابه العربي ابن رشد والفلسفة العربيَّة لاتزال مغرورقة في تفاصيل التنظير لطروحاته الفلسفيَّة دون عناء البحث عن إيجاد فلسفة تبدو واقعيَّة للمواطن العربي الاعتيادي الذي ينفر بالضرورة من فعل القراءة والتأويل وإعمال العقل، لذا فإن كل الكتابات التي تواترت بغير اتفاق بعد رحيل ابن رشد عن دنيانا مجرد ارتحال اضطراري لتفسير ما خطه الفيلسوف الكبير بغير طرح فكرة الوظيفيَّة أو التطبيق أو حتى هاجس القابليَّة للتداول المجتمعي، مما أفقد الفلسفة العربيَّة مكانتها الطبيعيَّة التي تحقَّقت بدمغ التاريخ الذي لا يكذب ولا يزيف الحقائق على يد الفارابي وابن سينا وإن كانا قيد ورهن أرسطو وكتابه ما بعد الطبيعة. وربما أجنح بعيدا حينما أظن أن الفلسفة اليوم هي كابوس المعرفة، بعدما كانت لقرون بعيدة ضاربة في القدم فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم من أجل تطبيقها، لكن اليوم وإن تشدَّق دارسو الفلسفة بكنه علومهم هي مجرد استيراد أفكار ونظريات ومن ثم إعادة صياغتها بصورة تقريريَّة قد تبدو سخيفة مطلق الأمر.
وكارثيَّة الفلسفة العربيَّة هي الاستغراق المستدام في الأفكار الماركسيَّة التي باتت منتهيَّة الصلاحيَّة وغير جديرة لا بالطرح الفكري أو بالتنظير، أو حتى بنقد تلك الأفكار لأنها بحق أفكار فاشلة وبليدة كشفت عن مرض أصحابها ونوازعهم التحريضيَّة لمجرد التحريض فحسب، وظلت الفلسفة العربيَّة وهي تسبح في بحر الماركسيَّة تفتش عن وجه لخطابها دونما جدوى، ففي كل سطر نجد ملمحا أو رائحة ماركسيَّة لايمكن الفكاك من أسرها، حتى استقر الأمر بهذه الفلسفة المكرورة بالإيمان المطلق بفكرة توطين التيارات الفلسفيَّة الغربيَّة والاكتفاء بنقلها.
ورغم أن أصحاب الفلسفة العربيَّة المعاصرة طالما تشدَّقوا بمصطلحات الحداثة وما بعد الحداثة، وصولا إلى ما عُرف بالحداثة السائلة، إلا أن الطرح الفلسفي العربي جاء بعيدا عن واقعنا الراهن المزدحم بقضايا الإنسان ووجوده لا من أجل البقاء بل من أجل الفعاليَّة والإيجابيَّة، وهو ما لم يتحقق في فلسفة العرب المعاصرة، وظل السؤال دائم الاجترار هو : هل يمكن صياغة فلسفة عربيَّة أصيلة في القرن الواحد والعشرين؟
غياب الوعي المستدام لدى الفلسفة العربيَّة الراهنة هو الذي دفع أصحابها إلى ممارسة كافة أشكال الإقصاء أو الدمغ أو التهميش وأحيانا الإدانة والاستبعاد لكل رؤية مغايرة لإحداثيات الفلسفة التي لا تعبأ بالتجديد رغم كون الفلسفة تنويرا للعقل والمجتمع.
ورغم اتِّهام الفلسفة العربيَّة الراهنة وأصحابها بأنهم قطَّاع طرق جدد يسطون على الأفكار الفلسفيَّة العالميَّة، إلا أن نظرة الفلسفة العربيَّة للفلسفة الغربيَّة نفسها تبدو خاطئة وبحاجة إلى تغيير للمسار أو تحسين لهذه النظرة الضيقة، ومجمل الصيحات المعاصرة الراهنة التي تنادي بتجديد الفلسفة هو خطاب بديل للفكر الكسول الذي اعتاد إعادة التأويل لنصوص فلسفيَّة قديمة لا إيجاد رؤية جديدة يمكن توظيفها لا مجرد نقدها.
ولاشك أن الذي أفقد الطرح الفلسفي العربي المعاصر هو الاستغراق أيضا في الاستعارات والتشبيهات، وتناول القضايا الفلسفيَّة من زاوية المباحث البلاغيَّة الأكاديميَّة لاسيما عن توظيف أيَّة نظريَّة فلسفيَّة غربيَّة. وإذا كانت هناك ثمَّة تشكيلات سياسيَّة تمثلت ولا تزال في الماركسيَّة السجينة أو الليبراليَّة المتوحشة، والأخيرة هي التي شكَّلت فلسفة الولايات المتحدة الأمريكيَّة وغرب أوروبا، فإنَّ إسهامات الفلاسفة العرب المعاصرين غدت صورة مضلّلة للواقع الفعلي الذي نحياه،حتى يمكن توصيف الفلسفة العربيَّة الآنيَّة بعودة الإمام الغائب.
والفلسفة العربيَّة الجديرة بالاهتمام حقا هي الفلسفة الإسلاميَّة لأصحابها الأوائل ؛ لأنها فلسفة مرتبطة ومتزامنة بالسلطة الزمنيَّة والمكانيَّة آنذاك، لذا حينما نجد عشرات الباحثين والفلاسفة يعيدون سرد النموذج الفلسفي لابن رشد لدرجة وصلت حقا إلى التقديس العاطفي، فإن هذا يفقدهم الدور الريادي والقيادة الفكريَّة لمجال الفلسفة إذ يصبحون مجرد أدوات لإعادة تفعيل أو تقديم نموذج فلسفي ارتبط بشدة بالسلطة الزمنيَّة التي انقضت.
وأيَّة عبثيَّة تلك التي تريد تغيير العالم وفكره وتحسين حياة المواطن بفلسفة عقيمة، لا أعني وأقصد فلسفة العبقري ابن رشد، إنما أعني تلك التبريرات التي تدفع الفلاسفة العرب لإعادة نمذجة فلسفة ابن رشد مرة أخرى في ظروف مغايرة ومختلفة بالكليَّة.
ويؤمن كثيرون من رجال التنوير أنَّ الفلسفة العربيَّة المعاصرة غائبة وهي ليست تلك المحاضرات الأكاديميَّة التي تقدم بالجامعات والمعاهد المتخصِّصة، فهي غائبة لأنها بمنأى عن الاشتباك بالأحداث الجارية المتسارعة والمتصارعة أيضا، لذا اتهمت هذه الفلسفة كثيرا بأنها صناعة الوهم. ومن الصعب حقا أن تجد الفلسفة العربيَّة اليوم مكانا لها في منطقة علاج القلق من المستقبل، وإذا ما حاولنا بغير جهد تفكيك الخطاب الفلسفي العربي الراهن لوجدناه متناقضا تماما عن الواقع الموجود والمعاش، وهذا يدفعنا من جديد لطرح السؤال الرئيس لفائدة الفلسفة، والذي أظن إجابته تكمن في كلمة واحدة هي الوعي.
ولأنني بصدد محاكمة عاجلة وسريعة للفلسفة العربيَّة الراهنة التي يمكن توصيفها بالبليدة تارة، وبالمكرورة تارة أخرى، أعتقد أن الفلسفة كطرح ثقافي في المقام الأول بعيد عن حاضر الثقافة العربيَّة الذي أصبح مرتبطا بقوة بوجهات أكثر قياسا وملاحظة واستخداما كاللغة، والترجمة، والفنون، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، حتى فلسفتنا العربيَّة اليوم أصبحت تعاني حالات واسعة من الغياب عن القضايا المصيريَّة مثل الهويَّة، والتعليم، والعقلانيَّة الاجتماعيَّة، والدراما، انتهاء بالحريات.
وقلما تجد غير المتخصّصين بمتعة وهم يطالعون الكتابات الفلسفيَّة الحاليَّة، لأنها باختصار فلسفة لم تنجح في حلّ إشكاليات الحياة بمختلف صورها السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، لأنها في حقيقة الأمر فلسفة تدعو في مجملها إلى التشاؤم والاعتزال والانزواء بعيدا عن مشكلات العصر، وفي ظل قارئ محدود الوقت ولا يمتلك رفاهيته تصبح الأصوات الفلسفيَّة العربيَّة غائبة عن المشهد العربي الراهن.
ومن مشكلات الفلسفة العربيَّة الغياب الواضح عن المنصات الرقميَّة الإلكترونيَّة وكأنها وجدت لتبقى حبيسة الثقافة الورقيَّة فقط، وهذا يدفعنا من جديد لطرح سؤال مفاده: متى تصبح الفلسفة العربيَّة واقعا وتطبيقا وليست مجرد تنظير وترميم لنظريات بائدة؟
من مشكلات الفلسفة العربيَّة الغياب الواضح عن المنصات الرقميَّة الإلكترونيَّة وكأنها وجدت لتبقى حبيسة الثقافة الورقيَّة فقط، وهذا يدفعنا من جديد لطرح سؤال مفاده: متى تصبح الفلسفة العربيَّة واقعا وتطبيقا وليست مجرد تنظير وترميم لنظريات بائدة؟
هذا فضلا عن ظاهرة ثقافيَّة تخلخل كيان الفلسفة العربيَّة، وهي ظاهرة غياب مفهوم الجماعات الفلسفيَّة أو الكيانات الفلسفيَّة الجمعيَّة ذات الهَم المشترك، وهذا دليل كافٍ على غياب الوعي لدى المشتغلين بالفلسفة أنفسهم وأنهم لايزالوا مرضى سريريين لحب الحكمة، لذا أطالب بتأميم الفلسفة التي لا تفيد البشر في أحوالهم المعاصرة بالقدر الذي تتحدث فيه ـ الفلسفة ـ عن أمور باهتة فائتة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.