التجربة الدينيَّة وحوار الأديان

image_pdf

 

عديدة هي النزعات الأيدولوجية والاجتماعيَّة، التي برزت في فضاء العالم والإنسانيَّة، وتستهدف تقليص مساحة ودور الدين في الحياة العامَّة للإنسان والفرد والجماعة. ومع تراكم هذه النزعات واندفاعها صوب تطبيق قناعاتها وأفكارها ونزعاتها الخاصَّة بالدين، إلا أنَّ الواقع الإنساني لم يشهد تراجعا لموقع أو دور الدين في الحياة العامَّة.

وهذا يجعلنا نعتقد أنّ الدين كمنظومة مفاهيميَّة وقيميَّة وأشكال طقوسيَّة وتعبّديَّة، يحتلّ موقعاً مركزيّاً في حياة الأمم والمجتمعات.

وتتأكَّد هذه الحاجة في إطارنا الإسلامي، لكون النزعات الإرهابيَّة والدمويَّة التي تمارس أعمالها ضدّ الإنسانيَّة باسم الإسلام وقضاياه العقديَّة والثقافيَّة. بمعنى أنّ النزعات الإرهابيَّة التي تمارس اليوم باسم الإسلام، تثير الكثير من الأسئلة والتحدّيات، التي تتطلَّب من المجال الإسلامي دولا ومؤسّسات وعلماء ودعاة، العمل لإنهاء عمليَّة اختطاف وتشويه الإسلام، وبالتالي فإنَّ المجال الإسلامي بكل ثرائه العلمي ومؤسّساته ومعاهده الدينيَّة والثقافيَّة معني للعمل في اتّجاهين أساسيين في وقتٍ واحد وهما:

  1. العمل على تحرير الإسلام كثقافة وكمجال حضاري ومعرفي، من نزعات الإرهاب والقتل والغلو. وفي تقديرنا بمقدار ما يتمكَّن مجالنا الإسلامي من تحرير الإسلام كثقافة ومجال حضاري من نزعات الإرهاب والتطرّف والقتل على الهويَّة، بذات المقدار تتبلور إمكانات المجال الإسلامي لتبوّء مواقع متقدّمة في المشهد الإنساني والعالمي.
  2. المساهمة والمشاركة الجادَّة في مشروعات الحوار والتعارف والتلاقي بين الثقافات والأديان والحضارات. إذ أنّنا معنيّون ببلورة المبادرات وبناء الأطر والمؤسّسات، التي تعنى بشؤون التفاهم الإنساني والحوارات الدينيَّة والحضاريَّة وفي تقديرنا أنَّ تفعيل هذه الثقافة والمبادرات، سيقلّص بشكلٍ أو بآخر نزعات الحروب والصراعات المفتوحة في العالم.

والإنسانيَّة اليوم بحاجة إلى استحضار كل المخزون القيمي الإنساني الفرد والجماعة نحو السيطرة والهيمنة واحتكار مصادر القوّة. ولا ريب أنّ الأديان من أبرز الروافد، التي أثَّرت البشريَّة ولا زالت بالكثير من القيم والمناقبيات، التي تساهم في تهذيب الحياة الإنسانيَّة، وضبط نزعات الشرّ فيها.. والقوّة المعنويَّة للأديان في نفوس وعقول الناس، سيكون لها مفعولها الإيجابي والفعّال لإرساء حقائق السلام ونبذ العنف في العلاقات الإنسانيَّة والدوليَّة. وكل النزاعات والحروب التي تعنونت بعناوين دينيَّة، قيم الأديان الأساسيَّة بريئة منها، وهي محاولة من قبل مشعلي الحروب لتوظيف السلطة الرمزيَّة للدين في معارك سياسيَّة أو استعماريَّة، تعود بالنفع السياسي والاقتصادي إلى النخب السياسيَّة والاقتصاديَّة السائدة.

 

فالأديان التوحيديَّة الكبرى، بكل قيمها ومبادئها، لا تشرع للقتل والحروب، وقيم ومبادئ الجهاد في الرؤية الإسلاميَّة، ليست تشريعاً للقتل وقهر الناس على الدخول في الدين الإسلامي، وإنّما هي من أجل رد الاعتداء، ذلك الردّ الذي لا يقع في مطبّ الاعتداء المقابل. والفرق الجوهري بين مفهوم الجهاد ومفهوم العنف هو أنّ الأخير “العنف” يعني ممارسة الإيذاء والعدوان لأهداف مشروعة أو غير مشروعة. بينما الجهاد في الرؤية الإسلاميَّة شرع من أجل دفع الظلم وردّ العدوان ومقاومة المعتدي.

 

فالالتزام بقيم السماء لا يشرع إلى العنف وإجبار الناس على ما ذهب إليه الملتزم، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أن الالتزام العقدي والسياسي، يدفع بصاحبه إلى الدقَّة والالتزام الموضوعي وعدم التعدّي على الآخرين مهما كانت المبرّرات والمسوغات. والدين كما هو معروف، لدى كل الأمم والمجتمعات، بحاجة إلى نقد ومساءلة، لأنَّ فيه العديد من العناصر والممارسات، التي لا تنسجم وقيم الأديان العليا. ويبدو على صعيد التجارب الدينيَّة، أنَّ المهمَّة الأساس هي تجسير الفجوة بين الدين كقيم معياريَّة، متعالية على الزمان والمكان، والدين كما هو معيوش ونسبي وخاضع لظروف الزمان والمكان. ولكون تجسير الفجوة على الصعيد الجمعي، من المهام الخالدة، تبقى أهمّيَّة أن يقبض الإنسان على قيمه العليا، ويستوعب مضامينها، ويعمل وفق إمكاناته المحدودة على تجسيد هذه القيم وتمثّلها في حياته بكل مستوياتها.

وعليه فإنّ حوار الأديان، ليس حوارا عقديّا، يتّجه إلى تظهير الجوامع العقديَّة، وإنّما هو حوار يستهدف تعاون أمم وشعوب هذه الأديان لعلاج مشاكلهم الثقافيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.

والتجربة الدينيَّة لكل الأطراف، بحاجة إلى مساءلة ونقد، وذلك من أجل ترتقي هذه التجربة، وتلتحم بكل مستوياتها مع الإنسان ومصالحه النوعيَّة. والتعدّد الديني الموجود في المجال العربي يتطلَّب إدارة سياسيَّة ومجتمعيَّة راقية ومرنة، بحيث لا تلغي الخصوصيّات الدينيَّة ولا تحبسها في إطارها الضيّق في آن، وذلك من أجل أن تنفتح كل هذه التعدّديّات على الواقع العربي لإثرائه معرفيّا واجتماعيّا، وتمتين الأوضاع الداخليَّة في كلّ بلد عربي على قاعدة الحرّيَّة والاحترام المتبادل وصيانة حقوق الإنسان.

______
*الراصد التنويري- العدد (1) – أيار مايو 2008.

جديدنا