استدعت السنوات الأخيرة من القرن العشرين النقاش حول قضيَّة الفكر والدبلوماسيَّة، وجلبته إلى المقدّمة، لأسباب لا علاقة لها بالإشكاليّات الفكريَّة المطروحة، وإنما بمن طرحها ووظيفته المهنيَّة، في عالم تتمايز فيه التخصّصات عن المختصّين. فعندما نشر الدكتور يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما أطروحته المشهورة “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” في مجلة “ناشيونال إنترست”، صيف عام 1989، قبل أن يتوسَّع فيها ويصدرها ككتاب في عام 1992، انتبهت الانتلجنسيا الأمريكيَّة إلى ظاهرة بدأت غير مألوفة، وركّز الكثير من النقّاد آرائهم على الوظيفة لا الموظف، وهاجموا مكان العمل لا مكانة العامل العلميَّة والفكريَّة المعروفة في المؤسَّسات الأكاديميَّة، التي سبق أن عَمِلَ بها. وثار جدل كبير حول علاقة الفكر بالدبلوماسيَّة، لأن فوكوياما كان يعمل في “هيئة تخطيط السياسات” بوزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة.
لقد كتب جوناثان آلتر في مجلة “نيوزويك”، 9 أكتوبر 1989، مقالاً بعنوان: “الضجة الفكريَّة-The Intellectual Hola Hoop”، مصوباً نقده ناحية الخارجيَّة وحظّها المتواضع في الجوانب الفكريَّة، وأنها لم يُعرف عنها التفكير، وعندما فكر أحد منسوبيها سارعت بإبعاد نفسها عن الفكرة. وكتب جيمس أتلاس متسائلاً “ماذا يقول فوكوياما، ولمن يوجّه حديثه؟” في “مجلة نيويورك تايمز”، 22 أكتوبر 1989، مستبعداً قدرة رؤسائه ومرؤوسيه على استيعاب ما قال به الموظف المفكّر. وتناولت الكثير من المقالات الأخرى نفس التساؤلات، التي نشطت في تداولاها المجالس الفكريَّة في ذلك العام، وما تلاه من أعوام تعدَّدت فيها المدارس، والتي تراوحت نظرتها لعلاقة الفكر بالدبلوماسيَّة بين تأكيد التلازم الأصيل والإشارة إلى التباعد المفترض.
وتحدِّثنا أوراق التاريخ عن مثال آخر شكَّل ارتباطه بمؤسَّسات صناعة السياسة الخارجيَّة لغطاً وحوارات حول علاقة الفكر بالدبلوماسيَّة، ألا وهو المؤرِّخ المعروف أرنولد توينبي، الذي كان له نفوذ وتأثير كبير على السياسة الخارجيَّة البريطانيَّة، في بدايات القرن العشرين. فقد كان استاذاً للعلاقات الدوليَّة في عدد من الجامعات البريطانيَّة، وكان مندوباً في “مؤتمر باريس للسلام” عام 1919. وعمل مديراً للأبحاث الخارجيَّة في “المعهد الملكي للشؤون الدوليَّة- تشاتام هاوس”، بين عامي 39-1943، ومحرراً لتقرير “المسح السنوي للعلاقات الدوليَّة”، الذي صار مرجعاً مهماً للمختصين في العلاقات الدوليَّة في بريطانيا، وعمل في “إدارة الاستخبارات السياسيَّة”، ومديراً لـ”قسم البحوث”، في وزارة الخارجيَّة البريطانيَّة 43-1946. وقد كانت له مواقف متناقضة كثيرة؛ بين صفته كمفكّر وعمله كموظَّف في هيئة دبلوماسيَّة، خصوصاً بين عامي 15-1917، أو فترة المرافعات السياسيَّة، التي سبقت وعد بلفور حول خلق وطن لليهود في فلسطين. فبعد أن كان مناصراً بشدّة للفكرة الصهيونيَّة، أبدى لاحقاً جرأة وقدراً من التعاطف مع الفلسطينيين؛ في موقفٍ عدَّ وقتئذ معارضاً للسياسة البريطانيَّة الرسميَّة، مشيراً إلى أنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
فهل كان توينبي وفوكوياما ظاهرتين فكريتين شاذتين في الحياة الدبلوماسيَّة البريطانيَّة والأمريكيَّة، أو العالميَّة؟ تقول الأدبيَّات السياسيَّة أنه إذا كان هناك شيء يسمَّى الفكر في العمل الدبلوماسي فهناك بالقطع دبلوماسيَّة صحيحة. إذن، قد يكون الاستثناء هو ما يعتور المحتويات الدقيقة لطبيعة الوظيفة الدبلوماسيَّة، أو ما يمكن أن نُعَرِّفْهُ بـ”الفراغ الفكري”، الذي ينبغي تحديده ومعالجته في أيَّة مؤسَّسة من مهامها الحوار والتفاوض والعلاقات وتعظيم المصالح الوطنيَّة. وربما لا يكون هذا الشعور بالفراغ نتيجة لازمة للوظيفة الدبلوماسيَّة، وكأنها قد جُرِّفَتْ من كل فكر وتدبير، ونُزِعَت منها خصائصها الجوهريَّة، التي تُنَادِي على شاغليها بالتميز المعرفي الحافز على اللباقة واللياقة والأناقة، التي تتجاوز المظهر إلى المخبر. لكن قد يكون مرد علامات الدهشة والاستغراب، وحِدَّة الانتباه، التي يبديها المتتبعون لحركة الفكر والثقافة لنوابغ السياسة المفكرة، هو انكفاء الدبلوماسيَّة على نفسها، وتفاعلها الذي يكاد أن يكون معدوماً في الساحة الثقافيَّة العامَّة.
تقول الأدبيَّات السياسيَّة أنه إذا كان هناك شيء يسمَّى الفكر في العمل الدبلوماسي فهناك بالقطع دبلوماسيَّة صحيحة.
لقد شجب العديد من المؤرّخين والكُتَّاب؛ مثل ريتشارد هوفستادتر وسوزان جاكوبي، حقيقة الشعور والمواقف “المناهضة للفكر” في السياسة الخارجيَّة، التي تظهر بوضوح في تعميمات الثقافة وتعبيرات السياسة، خصوصاً في المجتمع الأمريكي. رغم أن المفكِّرين لعبوا على الدوام دوراً حيوياً في تشكيل الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة؛ من توماس جيفرسون وودرو ويلسون إلى ألفريد ثاير ماهان وبول وولفويتز ولوسيان باي، وحتى هينري كيسنجر وزبيغنيو برجينسكي. ويقول ديفيد ميلن، أستاذ السياسة الأمريكيَّة في جامعة إيست أنجليا، في مقاله “الدبلوماسيَّة الفكريَّة الأمريكيَّة”، مجلَّة الشؤون الدوليَّة، المجلد 86، العدد 1، 1 يناير 2010، إن هذه المناهضة قد كشفت عنها العديد من الدراسات، التي تناولت الأسباب المتنوّعة، والتي جعلت الحكومة الأمريكيَّة قادرة على استيعاب المساهمات المعرفيَّة من الأوساط الأكاديميَّة، والمفكرين والمثقّفين المستقلين.
ويؤكِّد ميلن إن هذه الدراسات قد ناقشت الطرق المختلفة، التي جرى بها تعريف “الفكر”، واقتراح معايير تسمح بتحديد من هو مفكّر السياسة الخارجيَّة. وعاينت الدراسات الظروف التاريخيَّة، التي أتاحت للمفكرين التأثير على الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة منذ عام 1890 وحتى الوقت الحاضر؛ مع التركيز على انتشار الجامعات الأميركيَّة خلال القرن التاسع عشر، والمحاولات الرائدة لاستخدام الأكاديميا، مثل ‘فكرة ويسكونسن، لروبرت لا فوليت. وإضفاء فكرة الطابع المهني على التعليم العالي في الولايات المتّحدة المستوحاة من إنجازات الجامعات البحثيَّة الألمانيَّة والروابط القويَّة، التي توثَّقت بين الأوساط الأكاديميَّة، والمراكز الفكريَّة والحكومة خلال الحقبة التقدّميَّة، والحربين العالميتين، وفي الحرب الباردة، وما بعدها.
ويمكن مقاربة تجربة الولايات المتّحدة، المتمثّلة في معادلة المناهضة والترحيب بالمفكرين في صنع السياسات، مع المملكة المتّحدة وفرنسا، وهما الديمقراطيتان اللتان أظهرتا طموحاً عالميا ًمشابهاً لواشنطن في التاريخ الحديث. وإذا قلنا إنه تصعب مناقشة تصنيفات وأنواع المفكّرين؛ كحالة المؤرِّخ في السياسة الخارجيَّة، أو الباحث في العلاقات الدوليَّة، إلا أن التجربة التاريخيَّة والحاضرة تؤكِّد أنه لا يمكن الاستغناء عن مشورتهم في السياسة الخارجيَّة. مثلما تتعذَّر مقاربة الاختصاصي مع المبتدئ، أو المهني مع العامل المحدود، ولكن حاجة كل طرف للآخر لا يمكن التقليل من أهميتها. رغم أن هناك من يحذرون من أن هؤلاء المفكرين ينزعون إلى اعتماد النظريات لإثبات صحة أفعالهم، في حين أن غيرهم من الدبلوماسيين العاديين غالباً ما يفتقرون إلى المرونة المعرفيَّة المطلوبة عند اتّخاذ القرارات السياسيَّة.
ومن جهة أخرى، اختطت اليابان منهجاً مغايراً للولايات المتّحدة الأمريكيَّة، وكلٍ من بريطانيا وفرنسا، في شأن القبول بمساهمات المفكّرين في السياسة الخارجيَّة. وذلك نظراً لطبيعة الانفتاح، التي تتميَّز به الدبلوماسيَّة اليابانيَّة عن غيرها من الدول الغربيَّة، إذ إنها مفتوحة للمشاركة العامَّة. وقد جاء في الفصل الرابع من كتاب وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة، الذي يحمل عنوان: “دبلوماسيَّة اليابان مفتوحة للجمهور”، تثمين لدور المفكرين في الدبلوماسيَّة الهادفة لبناء نظام دولي مستقبلي، في عالم متغيّر بمعدلات سريعة. إذ أصبح من الواضح أن خبراء مستقلين يمكن أن يأخذوا زمام المبادرة في إجراء مناقشات سياسيَّة حرة على نطاق عالمي، دون أن يكونوا ملتزمين بالآراء الرسميَّة للحكومة، التي يمكن أن يكون لها تأثيرها الخاصّ على الرأي العام، وكذلك على القرارات السياسيَّة، والتي تتّخذها كل إدارة حكوميَّة.
ومن الأمثلة على المجالات، أو المنتديات، التي يمكن أن يلعب فيها هؤلاء الخبراء، أو المفكّرون، أدواراً مساندة للدبلوماسيَّة؛ “المنتدى الاقتصادي العالمي – دافوس”، الذي له تأثير كبير على السياسات الاقتصاديَّة الدوليَّة لكل بلد، و”حوار شانغريلا”، الذي يوفِّر للخبراء البارزين والمفكّرين في العالم فرصة لمناقشة القضايا الأمنيَّة والإستراتيجيَّة الآسيويَّة. كما أن هناك أهميَّة متزايدة لتطوير الموارد البشريَّة لمراكز التفكير Think Tanks، والاستفادة من خبراء الجامعات والمنظّمات الأخرى في البلدان الكبرى، للمشاركة في النقاش في مثل هذه المنتديات. وذلك من أجل تعزيز سلطة الدبلوماسيَّة؛ على المدى المتوسط والطويل، من خلال توسيع القاعدة الفكريَّة لدبلوماسيَّة اليابان وأمنها.
جاء في الفصل الرابع من كتاب وزارة الخارجيَّة اليابانيَّة، الذي يحمل عنوان: “دبلوماسيَّة اليابان مفتوحة للجمهور”، تثمين لدور المفكرين في الدبلوماسيَّة الهادفة لبناء نظام دولي مستقبلي، في عالم متغيّر بمعدلات سريعة.
وتستكشف السيرة الرائعة لحياة المفكر والدبلوماسي الأيرلندي دانيال بينشي، الذي برزت شخصيته العامَّة في مرحلة ما بعد الاستقلال في أيرلندا. وأثناء عمل بينشي سفيراً لأيرلندا في ألمانيا من 1929 إلى 1932، كان ينادي بتحديث الدولة الأيرلنديَّة الحرَّة المستقلَّة، التي كانت تعاني بصورة مباشرة من الزيادة المقلقة لسطوة النازيَّة والفاشيَّة. وكان اجتماعه مع، ومواجهته لأدولف هتلر، حدثاً دبلوماسياً نوعياً، وشكَّلت مقالاته الثقافيَّة ودراساته الفكريَّة تحذيراً شجاعاً ضدّ أخطار الشموليَّة. إلا أنه لم يمض وقت طويل قبل أن يعود إلى الحياة الأكاديميَّة ومواصلة التحقيق في تاريخ العصور الوسطى، وقد أصبح أكبر باحث في الدراسات السلتيَّة في زمانه، وشغل مناصب عليا في جامعة كاليفورنيا، وكليَّة كوربوس كريستي بأكسفورد، وهارفارد، ومعهد دبلن للدراسات المتقدِّمة.
وثمَّة مقاربة أخرى تُدْنِينا أكثر إلى حيث نحن؛ مكاناً وزماناً. وبالمثال لا الحصر، يمكن النظر إلى التجربة المغربيَّة، التي أنجبت أمثال عبد الوهاب التازي، ومحمد بن عيسى، وعلي أمليل، وسعد الدين العثماني، كحالة تستحقّ المطالعة. فالانخراط الدبلوماسي للمغرب في العالم واكبه دائماً تطوّر الدور، الذي تضطلع به مراكز الفكر ومعاهد البحث باعتبارها آليات لليقظة الإستراتيجيَّة في مجال الدبلوماسيَّة، في تقديم أرضيَّة للتفكير تساعد على اتِّخاذ القرار. إن هذا ما أكَّدت عليه ورشة عمل، انتظمت في 18 فبراير 2014، بمعهد الدراسات الإفريقيَّة التابع لجامعة محمد الخامس السويسي بالرباط، حول موضوع “مراكز الفكر ومعاهد البحث: أي موقع للدبلوماسيَّة المغربيَّة بإفريقيا”. إذ نُظِرَ إلى هذه المراكز كفضاء للقاءات بين الباحثين من أجل تعزيز آليات عمل الدبلوماسيَّة، عبر إدماج كافة الأبعاد السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والإنسانيَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، والعقائديَّة، ضمن منظور فكري شمولي يساهم في تعزيز انفتاح المغرب على عمقه الإفريقي، وإبراز الحاجة إلى عقد لقاءات سنويَّة بين مراكز الفكر الإفريقيَّة من أجل تعميق النقاش حول التوجّهات الإستراتيجيَّة ذات الأولويَّة في السياسة الخارجيَّة.
والمؤكّد أن في غير المغرب ما يستحقّ الذكر، ومن تجدر الإشارة إليهم كأعلام للفكر والثقافة والدبلوماسيَّة. فالسودان كان له على رأس دبلوماسيته جمال محمد أحمد، ومنصور خالد، وفرانسيس دينق، وحسن عبدالله الترابي، الذين عُرفوا بإسهاماتهم الفكريَّة الواسعة قبل وبعد تجاربهم الدبلوماسيَّة، وكانت لكل منهم بصمته الواضحة في مسارات السياسة الخارجيَّة السودانيَّة. وقدّمت الدبلوماسيَّة المصريَّة نموذج بطرس غالي، الذي قادته موسوعيّته الفكريَّة وتجاربه الدبلوماسيَّة إلى اعتلاء قمة هرم الدبلوماسيَّة العالميَّة كأمين عام للأمم المتّحدة. وأعطى الوضوح الفكري للدبلوماسيَّة الجزائريَّة القدرة على إظهار قدرات فَذَّة، لعبت أدواراً مُشْهَرَة في المسرح السياسي الدولي؛ ليس محمد سحنون والأخضر الإبراهيمي إلا أمثلة للذكر الحميد.
واليقين أن مقارباتنا هذه لا تكتمل إلا بذكر الدكتور أحمد داؤود أوغلو، المفكّر والسياسي التركي، الذي اختارته مجلة “فورين بوليسي”، عام 2010، ضمن أهم مائة مفكّر في العالم، وذلك باعتباره أحد أهم العقول، التي تقف وراء نهضة تركيا الحديثة. وفي 2011 اختارته المجلة مع رئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان ضمن القائمة لدورهما في التفكير بدور جديد لتركيا في العالم وتحقيقه. ويتبنَّى أوغلو -الذي يتحدَّث الإنجليزيَّة والألمانيَّة والعربيَّة إضافة إلى التركيَّة- عدداً من الأفكار التي توصَّل إليها في بحوثه الأكاديميَّة، ومن بينها ضرورة خروج تركيا من الدور الإقليمي المحدود إلى أفق التأثير في السياسة الدوليَّة. وقد شكَّلت ثقافته ورؤاه بوصلة لأدائه السياسي فوظَّف الفكر لخدمة السياسة، وارتقى بالسياسة لمخرجات الفكر، آمن بدور تركيا في محيطها وقاد دبلوماسيتها بجدارة لفتت الأنظار، تولَّى وزارة الخارجيَّة ورئاسة الحكومة في وقت تسعى فيه تركيا لاستعادة عمقها الإستراتيجي.
لقد نشر أوغلو العديد من المؤلّفات والكتب باللغة التركيَّة والإنجليزيَّة، من بينها؛ “الفلسفة والسياسة”، و”العالم الإسلامي في مهب التحوّلات الحضاريَّة”، وكتاب “العمق الإستراتيجي”، الذي وضع الإطار النظري للتوجّه الجديد لسياسة تركيا الخارجيَّة، التي تقوم على أربعة محاور رئيسيَّة؛ أولها، عدم تجزئة الأمن، وثانيها، التحاور، وثالثها، التضامن الاقتصادي، ورابعها، التوافق الثقافي والاحترام المتبادل. كما عمل بالتدريس في الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بماليزيا عام 1990. وأنشأ قسم العلوم السياسيَّة في الجامعة، وعمل كرئيس لهذا القسم حتى عام 1993. وفي الفترة من عام 1995 إلى 1999، عمل في قسم العلاقات الدوليَّة في جامعة مرمرة. وكان له عمود صحفي راتب في جريدة يني شفق من عام 1995 إلى 1999، إذ نشر في هذه الفترة أكثر من 200 مقالة. كما قام بالتدريس في كليَّة بوغازتشي، وأكاديميَّة الحرب، وأكاديميَّة القوات المسلحة، وجامعة مرمرة، وجامعة بيكنت، في الفترة من 1998 إلى 2002، كعضو تدريس زائر، ونال درجة البرفيسور عام 1999.
يقول مايكل سي ديش في كتابه،إن الذي يثير الرثاء اليوم أن المفكِّرين المؤثّرين إما قليلون، أو ربما أن الوضع أسوأ من ذلك، أي لا وجود لهم، خاصَّة إذا قلنا إن من يشملهم التعريف غير ذوي صلة بأقضية الحياة العامَّة.
بيد أن هناك تساؤلات أساسيَّة، يمكن إعادتها هنا، تستصحب محاولات ديفيد ميلن حول: من هو المفكر؟ وأين يتمّ العثور عليه؟ قد تُشَكِّكُ في إمكانيَّة اتِّباع كل النماذج المذكورة آنفاً. إذ يقول مايكل سي ديش في كتابه، الذي صدر عام 2016، بعنوان: “المفكِّرون في الساحة العالميَّة: أساتذة أو نقاد؟”، إن الذي يثير الرثاء اليوم أن المفكِّرين المؤثّرين إما قليلون، أو ربما أن الوضع أسوأ من ذلك، أي لا وجود لهم، خاصَّة إذا قلنا إن من يشملهم التعريف غير ذوي صلة بأقضية الحياة العامَّة. ففي حديثه عن المفكّرين في الساحة العالميَّة، جمع مايكل ديش مجموعة من المساهمين لتقديم إعادة تقييم في الوقت المناسب وبعيد المدى لدور المفكرين في مجموعة متنوِّعة من الفضاءات الغربيَّة وغير الغربيَّة، بما فيها الفضاء العربي والإسلامي. فحدَّد المساهمون مركزيَّة الوعي التاريخي، والفهم الفلسفي الذاتي، والضرورات الأخلاقيَّة لأي مفكرين يفترض أن يتكلّموا الحقيقة إلى السلطة السياسيَّة، بما في ذلك ترتيبات السياسة الخارجيَّة والدبلوماسيَّة.
إن الإشارة إلى وجوب قول الحقيقة للسلطة يقودنا إلى السؤال: لماذا يصمت المفكّر؟ وإذا افترضنا أن الدبلوماسي هو ذلك المفكر، بين موظفي الخدمة المدنيَّة، فإنه يجب أن يكون مؤهّلاً بشكل فريد كمثقف يصعد بكسبه المعرفي إلى مستوى المفكرين الأخلاقيين، الذين لا يخشون في الحقّ لوم لائم، أو قول شائن. فعلى الرغم من تحفّظات مايكل ديش، التي ضمّنها كتابه “الدبلوماسيون كمثقفين: مزيج غير متوقّع”، فإنَّ الدبلوماسيَّة مهنة موجّهة في نهاية المطاف نحو الفعل؛ التفاعل، والتمثيل، والتفاوض، والسعي لتحقيق غرض عملي، أي إدارة العلاقات مع البلدان الأخرى. ولكن جزءاً غير يسير من عمل الدبلوماسي له بُعْدٌ تحليلي واستشرافي، يتطلَّب منه اكتساب معرفة متعمّقة للبلدان الأخرى ولغتها ومجتمعها وأنظمتها السياسيَّة؛ وفهم أهدافها ودوافعها، والتعرّف على الكيفيَّة التي يمكن أن يبتعدوا بها عنها، أو يتوافقون بها مع مصالح بلده، وإيجاد حلول وسط ممكنة، أو طرق أخرى، لتحقيق أهدافه. وقد تتضمَّن هذه الحلول العمل الميداني، والاتّصالات، التي غالباً ما يتمّ فيها تضييع الكثير من الوقت في الجانب الذي لا طائل منه من عمل الدبلوماسيَّة؛ أي المناسبات الاجتماعيَّة والمراسيميَّة.
ومع ذلك، فإن معظمها تتطلَّب كتابة تقارير، وينتج عنها مراسلات، أو برقيات، أو مذكرات رسميَّة، تتضمَّن بدرجات متفاوتة الأبعاد التحليليَّة والمفاهيميَّة والاستشرافيَّة المرتبطة عادة بالعمل الفكري، التي لا يستطيع الوفاء بتمامها إلا من تحصّن بمعارف ترتقي بأدائه إلى رسوخ المفكر. رغم أن عدداً غير قليل من موظفي البعثات، الذين عادة ما يتصرّفون كجزء من الخدمة المدنيَّة، يكرِّسون وقتاً طويلاً للكتابة كدبلوماسيين نمطيين. وهذا الجانب من أنشطتهم لا يختلف كثيراً عن تقارير الصحافة، ولا سيما ما أشرنا إليه كاهتمامها بالدقة الواقعيَّة والإبلاغ في الوقت المناسب. كما أن الكتابة الدبلوماسيَّة الحَقَّة تبدو قريبة جداً من البحوث الأكاديميَّة، حتى لو كانت ذات طابع تجريبي للغاية، وخالية من اللوائح الرسميَّة للعمل الجامعي.
وبعيداً عن مهام الإبلاغ عن الحقائق وإدراكها كصحفي، فإن لدى الدبلوماسي سؤالاً عملياً يتطلَّب إِعْمَال العقل الحصيف للإجابة عليه. وقبل الشروع في الإجابة، يجب أن يضع افتراضات من أجل التوصل إلى هذه الإجابة، التي لا بد أن تكون مُرْضِية للغاية، لأن عليها يتأسَّس القرار السياسي والإستراتيجي؛ بأبعاده المختلفة، وحتى في القضايا الثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لا يتصرَّف الدبلوماسي على عكس عالم الاجتماع، بل عليه ينفذ بمنهجه من استبانة الأزمة إلى استنتاج الحل. ونتيجة لذلك، واعترافاً بهذا التداخل، كانت هناك دائماً درجة من المقاربة بين هذه المهن الثلاث؛ إذ أصبح عدد من الصحفيين والأكاديميين دبلوماسيين، في حين أن العديد من الدبلوماسيين قد دَرَّسَوا في مرحلة ما من حياتهم في الجامعات، أو كتبوا في الصحف، أو كانوا قادة إعلاميين.
لقد رفدت هذه المسارات الثلاث؛ الأكاديميَّة والإعلاميَّة والدبلوماسيَّة، بعضها البعض بأدوات البحث والصياغة. إذ ثبت بالملاحظة أن الكتابات الدبلوماسيَّة، بأقلام المتميّزين فكرياً وثقافياً، قد تضمَّنت دائماً اهتماماً كبيراً بالجودة الأدبيَّة، بالإضافة للمحتوى التحليلي والاستشرافي. وهذا بالطبع يعتمد على تقاليد كل بلد، ومطلوباتها الإستراتيجيَّة، التي تتفاوت قوَّة وضعفاً مع البلد المُضِيف. ومع ذلك، فإن الدبلوماسيِّين عادة، إما لأنهم يواجهون مشكلة الاضطرار إلى جذب انتباه جمهورهم المحدود، أو نتيجة لفكرتهم الخاصة عن مهنتهم، يميلون إلى إظهار اهتمام زائد لأسلوب وشكل عملهم المكتوب. وكثيراً ما كان الدبلوماسيون كتاباً حقيقيين، وقدَّموا صياغات دقيقة وبارعة، وأحياناً مستوحاة من الأحداث، التي شهدوها. ومن الأمثلة على ذلك، ما أرسله سفراء البندقيَّة في باريس في وقت الثورة الفرنسيَّة، الذي لا يزال قطعة من الأدب المتميّز.
وهذا يقودنا إلى المقاربة الأخرى، التي توجد بين الدبلوماسيَّة والوظيفة الأدبيَّة. وقد أفضى ذلك في فرنسا إلى ظهور ما أسماه البعض “أسطورة” الكاتب الدبلوماسي. إذ احتلَّ الكتَّاب الفرنسيُّون البارزون في القرن التاسع عشر؛ مثل، ستيندال، أو شاتوبرياند، مناصب دبلوماسيَّة، ولو لفترة وجيزة، أظهروا فيها براعتهم في الكتابة والتدوين والتحليل، مما شجع غيرهم من الدبلوماسيِّين لبناء رؤية مثاليَّة لمهنتهم. وتمثِّل هذه الرؤية وجهة النظر الأكثر قبولاً ومشاركة من الجمهور، تقديراً للجمع بين الوظيفتين الفكريَّة والدبلوماسيَّة. وبهذا، اقتربت الوظيفة الدبلوماسيَّة الفرنسيَّة من المجال الفكري والأدبي، أكثر من كونها حقيقة واقعة في الخدمة المدنيَّة الداخليَّة، إذ كان نصف الأعضاء النشطين في العمل الدبلوماسي في عام 1937 قد نشروا كُتُبَاً، بينما أَلَّفَ عشرة في المائة منهم أعمالاً روائيَّة ذاع صيتها.
إن هذا العرض للحالة الفرنسيَّة يُعَدُّ، بالطبع، حالة متميِّزة، قياساً إلى الواقع الدبلوماسي المتواضع اليوم. ومع ذلك، فإنَّ الاهتمام بالأسلوب، جنباً إلى جنب مع الحريَّة في التعبير، وأحياناً، شيء من الفكاهة، لا يزال شائعاً في المراسلات الدبلوماسيَّة. وقد تبيَّن ذلك من تسريبات “ويكيليكس”، التي أظهرت كيف تمكَّن الدبلوماسيّون الأمريكيّون من تقديم معلومات مستقلَّة وإبداعيَّة لحكومتهم. وبعيداً عن الحرج، فقد خدمت هذه التسريبات صورة الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة بشكل جيد، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث اكتشف الناس، الذين كانوا ينظرون إلى واشنطن كداعم بلا تحفّظ لبعض الأنظمة العربيَّة، وتبين الآن أنَّ الدبلوماسيّين الأمريكيّين تعاملوا مع الواقع بأكثر دقَّة، وبصدق، وبنظرة نقديَّة. وقد أشار البعض إلى أن تقاريرهم ربما تكون قد ساهمت في سقوط هذه الأنظمة فيما عُرِفَ بـ”الربيع العربي”، الذي انطلق منذ عام 2011.
إنَّ سجل التاريخ سوف يحفظ أسماء الأعلام من الدبلوماسيّين؛ فقط لأنهم سيتركون أثر ما فعلوه تميزاً واقتدراً، حتى لو نأت بهم صروف الزمن وتلوّنت المواقف. وقد يكون شاهدنا الأخير جورج فروست كينان، الدبلوماسي الأمريكي المتمرس والمفكر، الذي تصوّر الدبلوماسيَّة كفن، ولكنه أُعتبر “مهندسَ” الحرب الباردة بتخطيطه سياسة “الاحتواء”، في آواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. ومع ذلك، أصبح جورج كينان نفسه، بعد عشر سنوات، بطلاً لليسار الليبرالي، ومن دعاة السلام والعزلة الجدد، عندما صاغ شعار “فكّ الارتباط”، على أساس فرضيَّة أن الحرب الباردة قد انتهت. فالدبلوماسيَّة نشاط فكري يهدف إلى دعم وترجيح خيارات العمل السياسي. ويمكن تعزيز حالة التأثير هذه عن طريق التقارب الاجتماعي، والثقافي، والفكري، بين الدبلوماسيّين ومختلف مستويات طبقات المجتمع ومؤسَّسات الدولة. وبقدر ما يسمح به مصطلح “المفكّرين”، يهدف الدبلوماسيون، في نهايَّة المطاف، إلى التأثير على مناقشة السياسة الخارجيَّة، وعلى أداء الشؤون العامَّة الداخليَّة، وهو مصدر اهتمام يتقاسمونه مع المثقّفين المنتمين إلى كل القطاعات.
إنَّ سجل التاريخ سوف يحفظ أسماء الأعلام من الدبلوماسيّين؛ فقط لأنهم سيتركون أثر ما فعلوه تميزاً واقتدراً، حتى لو نأت بهم صروف الزمن وتلوّنت المواقف.
وقبل الختام، يمكننا القول إن ظن التباعد بين الدبلوماسيَّة والفكر لم يكن إلا افتراضاً روَّج له التراجع في الأداء العام لهذه المهنة النبيلة. فقد كان لـ”لورينزو دي ميديتشي (49-1492)”، الذي أُشْتُهِرَ بـ”الرائع- The Magnificent”، تأثير عميق على الحياة الفكريَّة الإيطاليَّة. إذ كان أحد السياسيين والدبلوماسيّين المفكّرين الماهرين، والرعاة الحريصين للفنون، والذي حكمت عائلته فلورنسا وتوسكاني من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر، وأصبح أربعة من أفراد الأسرة من الباباوات، وتزوّج البعض الآخر من الأسر الملكيَّة في أوروبا، وبرز الكثيرون منهم من خلال رعايتهم للفنون. وتعلّمنا من ميديتشي خطر تفشي “الفراغ الفكري” في الوظيفة الدبلوماسيَّة، لأن ذلك مدعاة لحدوث الأزمة. فشكّلت تجربته مدار الرؤية الدبلوماسيَّة، ومثل انتفاضة نقديَّة وإصلاحيَّة باكرة، جدَّدت مفهوماً تأصيليّاً لمقاييس وسمات الدبلوماسي الفعال من حيث هو مثقّف، لا ينبغي أن يقل عن مرتبة المفكِّر.
إن راهن العلاقات الدوليَّة، الذي يتعرَّض لغير قليل من النقد؛ على مستوى الأهليَّة الفكريَّة للدبلوماسيَّة، والدربة الثقافيَّة للدبلوماسي، والتخلّق القيمي للسياسات الخارجيَّة، ينبغي أن يستحضر ذلك المثال الموسوعي، والذي اختطه ميديتشي كمنهج لدبلوماسيَّة إيطاليَّة فاعلة. إذ تؤشِّر الكثير من الدراسات إلى تراجع المهارة المعرفيَّة، التي حلَّت محلّها طرائق وممارسات روتينيَّة، وغير قليل من المؤامرات، والتي لا تثمر على المستوى الإستراتيجي، ولا تُعين على إنشاء علائق ذات امتداد سياسي حقيقي، ولا تُعزِّز مستوى تشكيل التقارب الثقافي والوجداني المطلوب بين الشعوب. لذا، فان مقياس الأهليَّة الفكريَّة يجب أن يكون حاكماً للاختيار والأداء والترقّي؛ ترقية للوظيفة الدبلوماسيَّة وأصالتها الفكريَّة.
*دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي
عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة
السبت 10 فبراير 2018