ذاكرة المكان: الدائرة التأويليَّة بين التصوّرات الزمانيَّة والظواهر المكانيَّة
مدخل:
يتزامن تركيز المرء على تفاصيل ماضيه، وقدرته على الحفاظ على شعلة الذاكرة متّقدة، مع الاهتمام الأوسع بمساحة المكان وأقدار الزمان، الذي تغطّيه هذه الذاكرة. وعلى هذا النحو، نعكف في بداية التفكير في تجربة قوة الذاكرة على تصويب تقديرنا لمزايا الوقت الراهن والمكان المناسب. وذلك عندما نكون في وضع يمكننا من قياس كيفيَّة تفاعل معرفتنا بالمكان والزمان، وتعايشنا المرن مع نوازلهما الطارئة ومستجدّاتها المقصودة، والمساهمة في تكوين المجال الفردي والفضاء الجماعي في المجتمع، الذي أورثنا سماته ومزاياه. والتفاعل والمرونة هما مقياسنا للعلاقة بين المطبوع في الذاكرة ونتاجه المرئي: وكيف يمكن الوثوق بهذه العلاقة بين هذه الذاكرة وصورتها؟ فنحن عندما نتذكَّر نميل إلى التحدُّث بطريقة تجعلنا نمتلك صورة افتراضيَّة للأشياء في العالم الحقيقي، لأنها تُمثِّل بالنسبة لنا محتوى هذه الذاكرة.
في بعض الأحيان، نقول لأنفسنا كيف لا يزال بإمكاننا رؤية الأشياء كما هي، لا بما حفظته ذاكرتنا عبر تواصل مضى مع المكان. وفي وقت لاحق، قد نكون مستعدِّين للقول إننا ما زلنا نستطيع أن نشمّ رائحة عطر هذا المكان، وحتى أنه لا يزال بإمكاننا الشعور بلمسة العطف، التي لطفت حزننا. فالصور، والأحاسيس، والمشاعر، واللقاءات، والمواجهات، التي عشناها لا تزال قائمة في شُعَب وجداننا. ومن ناحية أخرى، من الواضح أن هناك فرقاً بين الوجود في المكان وتذكر ذلك المكان، إذ تحدّد الأبعاد الحركيَّة والإدراكيَّة والعاطفيَّة للتذكير الانقسام بين الإدراك والتذكر. والحديث عن صورة ذاكرة قد لا يعني التشكيك في مدى ارتباط الصورة بالماضي، إلا أنها، في الوقت نفسه، تُمثِّل عودة ظاهريَّة، أي أنها، في الواقع، مزيج متزامن من الوجود والغياب. ففي تخيّل أنفسنا في مكان ما، نَنْضَمُّ إلى تجربة سابقة، مع إعادة صياغة مرحة لذلك الماضي في الوقت الحاضر. وبسبب هذا التداخل بين التذكُّر والتخيُّل، تصبح العلاقة بين الذاكرة وصورتها العقليَّة مربكة للبدايات، لأن متابعة هذه العلاقة يعني لقاء مواجهة إنسانيَّة، مع ظواهر في الذاكرة، ببعديها المكاني والزماني.
نحن عندما نتذكَّر نميل إلى التحدُّث بطريقة تجعلنا نمتلك صورة افتراضيَّة للأشياء في العالم الحقيقي، لأنها تُمثِّل بالنسبة لنا محتوى هذه الذاكرة.
في المنهج:
إنَّ تحرير مفهوم الذاكرة، والتذكُّر، والذكريات، من أسر حصريتها الماضويَّة، التي احتبستها فيه المرجعيَّة اللغويَّة والعرفيَّة الثقافيَّة المتداولة، للمفارقة، في النسقين: النخبوي المشتغل بالتدوير الكتابي للمتواضع الاصطلاحي، والمجتمعي المنشغل بالتكريس لماضويَّة ومحدوديَّة الحركة التفاعليَّة للفرد بتنشئته؛ اعتيادياً، تقليدياً، باعتبار أن الذاكرة مجرد حاوية استرجاعيَّة لمتفقات جمعيَّة، قدّستها منظومة معقَّدة من التوريث الوجداني. من ثم، تواجه أيَّة محاولة فلسفيَّة نابهة وأمينة، للخروج بالذاكرة إلى أصالة دورها التجديدي في حياة الإنسان، بمحاولات تخطئة للوعي، متَّخذة مختلف أنماط التنشئة الاستتباعيَّة، وإن خالفت وعي الذاكرة العقلي.
جاء في القرآن الكريم، الآيَّة 117، من سورة البقرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). فالتنشئة منظومة متداخلة من السلوك والمعتقدات، التي تعمل ضدّ وعي الذاكرة والتذكُّر في فاعليتهما الفكريَّة والاعتباريَّة، بينما المكان هو محتوى الذاكرة الشاهد في صمت، المُوثِّق بالآثار. لهذا، فإنَّ ما نود التركيز عليه؛ هو أن الذاكرة ليست آلة ماضويَّة الضبط، والتذكُّر ليس استدعاء ماضوياً مُسْتَوقفاً، وإنما هو جماع اشتغال الوعي في استمراريته وحاضره المضارع. وهذا هو الاستعدال المنهجي، الذي قدّمه القرآن للتجلِّي الدائم لمفهوم الذاكرة في مكافئ فعّال للوجود الحيوي للإنسان، ومتنزل ذلك كل ارتباطاته الوجدانيَّة والمعرفيَّة بالمكان، والزمان، والشخوص، والأحوال، والأحداث.
إن التعقيد المحيط بموضوع المكان شاسع، والهدف من هذا المقال هو تقديم مساهمة تجديديَّة في مجموعة عمل الظواهر المتباعدة داخل خصوصيات الذاكرة المعنويَّة والماديَّة، التي توجد بها متعلقات رائعة بالفعل. ولكن قبل أن نبدأ سرد قصَّة هذه المساهمة، نوضح أن منهجيَّة هذا المقال تتطلَّب، على وجه الخصوص، وضع العلاقة بين الظواهر والمكان في دائرة اهتمامنا الفوري. إذ إنه، بعد كل شيء، هو دعوة للتفكير فيما يتعلَّق بظواهر المكان، التي يجب أن نفكر، في المقام الأول، في مظان وجودها المعنوي. والسبب، في تقديرنا، واضح تماماً، فكما تظهر الظواهر، في جاذبيتها للتجربة المعيشيَّة، على أنها مجرّدة وجزئيَّة، وغير محدّدة، من دون أن تكون موجودة في مكانها. لذا، فإن مصطلح “المكان” سيكون غامضاً ومبهجاً، دون أن يتمّ تعريفه من خلال الظواهر. وبالنظر إلى هذه الدائريَّة التأويليَّة بين الزمان والظواهر المكانيَّة، فإن هذا المقال ينادي على ما هو أبعد من الفكرة المألوفة عن الذاكرة، والتذكُّر والذكريات.
الهدف من هذا المقال هو تقديم مساهمة تجديديَّة في مجموعة عمل الظواهر المتباعدة داخل خصوصيات الذاكرة المعنويَّة والماديَّة، التي توجد بها متعلقات رائعة بالفعل.
طلاقة السرد:
تتحرَّر إرادة السرد لدينا كلما أوغلنا في العمق من خزائن الذاكرة، وتفيأنا ظلال الخيال، وتوجهنا بوعي إلى الأمكنة، التي تَطَوَّفَت بها جولات الاكتشاف، أو تأملنا في زمان زانته لحظات الحنين العِطَاف. ونعلم أنه عادة ما تبدأ الحكايَّة بتفاصيل صغيرة، تلمع في الذهن، وتشع في جنبات الفضاءات المطروقة برغبة التواصل الوضيئة في الوجدان، وتَلِحُّ بأشواق اللقاء المشفوعة بحميميَّة آصرة الوشائج الراسخة. وهذه التفاصيل ليست سوى شذرات أشبه بجُزرٍ تنتشر في ذاكرة ممتدة في بحر من الغموض الجذاب، الذي يتأبى أن يُسْفِر عن بديع مكنوناته لغير أهل الغوص، الذين يجنون اللؤلؤ من بطن المحار في جوف البحار.
إن قنص هذه الشذرات يتطلَّب مِنَّا قدرة تحديق عالية، ويد حاذقة وناظمة لِدُرر العقد المنثورة في جنبات الذاكرة الحافظة، وأن نُشرِعَ أطوافنا لتمخر عباب بحر النسيان بلوغاً لجذر الذكريات، وإذا نظرنا إليها؛ كل على حدة، فإننا على ما يبدو سنبحث أولاً عن وجود صلة بينها، عبر الرؤيا؛ والأحلام، والإلهام، والتأمّلات، التي تتلألأ في الأعماق السحيقة من وعينا الباطن، والتي كلما اقتربت منها قوارب الإبحار حفزتها أزمنة الوصل لتكشف عن حقائقها، وكلما لامستها طرفة العين الحانية حَنَّتْ للمزيد من السفور. فالذاكرة تراكميَّة البناء، شغوفة بترك الأثر الباقي على سمت الزمن ومواجد الِحقب، إلا أن هناك الكثير مما يشهد بتوطين فكرتها المكانيَّة، فالمشاهد دَالَتها على الاستحضار، لأن مسارب الديار هي الأساس، والأرض مسار رحلة الحياة، إذ هي حقل كبير، أو كما قيل، قصر واسع، ومخزن ضخم، لصور لا حصر لها من جميع الأنواع والألوان والأزمان.
فالمكان هو الذات، الذي نَحِنُّ فيه إلى ساكنته ممن أحبّهم القلب؛ “فما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديار”، ونتطلع إلى رؤيَّة متعلّقاته من المناظر الطبيعيَّة المختزنة في الوجدان، إلى منازل الطفولة المسكونة بالفرح البريء، فإنَّ ذكرى الأماكن، التي نمرُّ بها هي أمر أساس لإحساس الذات بالذات. فنحن ننتقل في الزمان اعتماداً على تأثيرات متنوّعة ترتسم في ذاكرة المكان، وتتلوَّن بأزهى شارات المشهد التذكاري المطبوع في العقل، والمكنوز بزخرف تجربتهما العاطفيَّة الشعوريَّة والموضوعيَّة في عالم الشهود.
إن قنص هذه الشذرات يتطلَّب مِنَّا قدرة تحديق عالية، ويد حاذقة وناظمة لِدُرر العقد المنثورة في جنبات الذاكرة الحافظة، وأن نُشرِعَ أطوافنا لتمخر عباب بحر النسيان بلوغاً لجذر الذكريات.
حقيقة الماضي:
إذا عدنا بالذاكرة للمس الماضي بأنامل الاختبار سنجد أننا ما زلنا نعتقد أن هناك حقيقة حول هذا الماضي تُعيننا على أن نبني ذاكرتنا على مشاهد معالم العالم الواسعة، حيث يحتلّ المكان موقعه كما كان في ذلك اليوم، الذي رأيناه فيه، والذي يضمن وجوده في هذه اللحظة، كما كان في تلك، أي ظاهرة التصوّر، التي رأيناها في هذا المكان من قبل. وفي القيام بذلك، نتجاوز أكثر من مجرد الحدود المكانيَّة، التي ألفناها صورة وتصوّراً. وعند عبور هذا الخط الحدودي عبر الذاكرة، فإننا لا نُخاطر باختلاط آثار الإلفة مع وجود الإلمام، وإنما نتهيأ للدخول إلى المشهد في نطاق زمني مختلف، يُعيد سانحة اللحظة الماتعة، وجاذبيَّة اللقاء الأول.
وبالتالي، فإن إنتاج مكان تم تفصيله لتتزيأ به كل المحاسن المُعَبِّرَة عن علاقته الحميمة بذاكرتنا، التي تهيأت الآن لتستوعب جمال حياة الآخرين. لذلك، نشعر في كل مرَّة يتجدَّد فيها اللقاء أننا نسمح لخيالنا بإصلاح فروق الوقت، الذي مضى بعيداً عنهم، لكي نبقى على مسافة أقرب من كل الأوفياء من الأصدقاء والأحبّاء، حتى لا ينتهى اشتراكنا في المكان معهم؛ لتستعيد تفعيله أقدار الزمان وسوانحه. فإذا كانت الزوايا والأكوان قد أقفرت وغفلت، رجوناها نبش الذاكرة، وإعادة تشكيلها وتعديلها، لتختزل إلى الحاضر فيض وميض الماضي، دون أن تقوض الضمان، الذي يتزامن مع مخزون الذكريات.
وربما نتساءل، وبعد كل شيء، عن مخزونٍ يفيض ولا يغيض، ونحن نستحث مظان آمالنا لتنطق عن ظاهر أحوالنا؛ متى نعود، وأين سنكون في هذه العودة، عندما نكتشف أن هذه الذكريات مبعثرة في ثنايا الوقت المناسب، الذي تمتصه أشواق المكان، وكأنها لم تحدث بهذا الدفء قَبْلَاً وفِعلاً هنا. فيصبح المكان والزمان ركنان في هويَّة اللحظة، يسبحان في فضاء الغمام المُشَبَّع بماء الطُهر، ويستحمان بقطرات الندى الرقراق، وينظران بضوء الدهشة الكاشفة الأفق البعيد، ويتأملان الحضور القريب الغريب، وينتظران ظهور ذاكرة أخرى تَشِعُّ ببوارق المعرفة المانعة للجفوة.
وبالتالي، نسعى لأن تتعرَّض الموجدة إلى اختبار الإفصاح عن هويتها الواصلة بينهما، أي المُجسّرة لرحلة الزمان والمكان. لندرك هنا، أن ذاكرة المكان لم تتراجع إلى ماضٍ أسطوري، ولم يتم تجريد الزمان من علاقته بضبط التقويم. وبدلاً من ذلك، فإن المشي بأرجل حافية على عُشب لدن؛ عبر بشاشة البيئة المضيافة، يشدّنا إلى مصافحة النسيم العليل بوجوه باسمة، ويكتحل الشعور بمباهج النور، وتلاطفنا لواعج الوجد بطريقة فريدة. وكلما تَعَرَّف عَلَيَّنا الهواء الرطب مهللاً، يكون أثيره وتأثيره شرطاً للقبول بجدوى المثول، وإشهار الوصول إلى دار يطيب بها الحلول.
المبنى والمعنى:
إن وضع الذاكرة في المكان كمبنى، وفي الزمان كمعنى، يُعادل سلسلة الأعمدة، والأفاريز، والأروقة، في رسم مجسّد داخل العقل؛ كما لو كنا نتحرَّك هناك، نذهب من مكان إلى آخر، وصوت خطواتنا يمشي بيننا، وننتقل من زمان إلى آخر حتى نجدِّد باللقاء تحرير عزلة الغياب. ندور حول الأماكن لنتعلق أكثر بذاكرة الأماكن، التي يسكنها عشقنا المتجدد، ونمر بها كمواضيع شغفنا بنقاشاتها. نعم، لدينا بالضرورة علاقة مع الأماكن المحيطة بنا، وفي أي لحظة، نحن موجودون في مكان ما يستهوينا فضاءه، سواء كان ذلك في أروقة الجامعات، أو في أزقة القرية الوادعة، أو في حواري المدينة الصاخبة، أو حتى في غياهب الغابات الموحشة في هدأة الليل.
إن تلك الأماكن تحدّد، بمرور الوقت، مواضع وجودنا، وتبني إحساسنا بالذات، بحيث يكون للإحلال مكان له تأثير كبير على تجربتنا مع من نحن، وربما يتركنا مع الشعور بالتنزّه في العالم. وبالمثل، فإن الذكريات، التي نكتسبها من الأماكن، التي نعيش فيها، تفرض علينا قواسم الانتماء المُشَبَّعَةُ بقيم جمال لا حصر لها، وترفدنا بحيويَّة هويَّة مُبدعة خَلَّاقَة. إذ إنه بدون ذاكرة الأماكن، لن يكون للذاكرة نفسها دور تلعبه في حياتنا الواعيَّة. ومع ذلك، وعلى الرغم من دورها المركزي في حياتنا اليوميَّة، إلا أن الوصول إلى توافق مع طبيعة علاقتنا بالمكان هو أمرٌ أجَلّ وضوحاً من النظر في الأفكار التاليَّة لمعايشتنا.
تُمثِّل قوّة العلاقة بالمكان عمق إحساسنا بكل ذرّة هواء حولنا، ولكن ليس هذا الإحساس دائماً موضوعاً معروفاً ومحدّداً بالكامل. فالمكان هو في صميم، ليس فقط من نحن، ولكن أيضاً في تفاصيل بيئتنا وثقافتنا، التي نجد أنفسنا فيها. وكما نستثمر تفاعلنا مع تداعيات حياتنا الاجتماعيَّة والبيئيَّة الطبيعيَّة، فالمكان لا يصبح قطعة من الأرض دون قيمة، إلا أن الكثير من الناس يتجاهل هذه الحقيقة. وكدليل على ما نقول، يميل غالب البشر إلى عدم المبالاة بتأثير المكان عليهم. وفي الوقت نفسه، فإن تَذَكُّر مسألة ما، هي النداء، الذي يشكل مقدمة دالة على أهميَّة مكان يجعلنا في عالم الحضور، والذي يكون فيه تعقيد بعض القيم الإنسانيَّة ثانوياً قياساً إلى أهميَّة التأهب الوجداني للقاء.
وعلى الرغم من أننا نقوم بتشكيل محيطنا بشكل جذري، إلا أن المكان في نهاية المطاف موجود بشكل مستقل عن الحياة البشريَّة، مما يؤدّي بدوره إلى تشكيلنا، ليس كحتميَّة جغرافيَّة، وإنما كجماع لمؤثّرات نتشبَّع بها وننشأ عليها. لهذا، ففي العودة إلى المكان بعد فترة طويلة من الغياب، غالباً ما نشعر بالصدمة من التغييرات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، حيث تنبهنا فعلياً إلى بواطن اللامبالاة الجذريَّة، التي تتعرض لها المشاعر، وشوارد الغفلة، التي نطبقها عليها. وهنا، يمكن أن تصبح ذواتنا موقعاً لمشاجرة داخليَّة حول كيفيَّة التحول، الذي حدث لمكان ما، في زمان معين؛ من خلال الادّعاء بتذكّر الشعور بإحداثياته، التي يمكن أن توفّر لحواسّنا تاريخاً مختلفاً عَمَّا ألفناه في الماضي. والنتيجة هي أن المكان يمكن أن يأخذ حياة خاصّة به، وبعيداً تماماً عن الطريقة، التي يتمّ بها اختباره، أو تذكره بواسطتنا.
من الناحية الطبيعيَّة، يتم طبع صورة المكان في الذاكرة ليكون مألوفاً بحيث يتجنَّب كل عثرات التحليل المفاهيمي، الذي يفرضه تطاول سوانح اللقاء في فواصل الزمان. فإذا نحن وقفنا بالفعل في مكان لا تطابقه صور ذاكرتنا، أو مخزون ذكرياتنا، سنعذر أنفسنا بأن ما كان فقد مضى، ولم نعد نملك شرط وجوده الموضوعي على الإطلاق، ولا نحفل كثيراً بكيف تُغَلِّفُنَا هذه المساحة من الأرض؟ وكيف نحمل ذاتنا على سطحها؟ وإلى أي مدى ستصبح هذه المساحة جانباً مهماً من ذاكرتنا المستقبليَّة؟ واليقين أن مثل هذه الأسئلة ستبقى في معظمها نائمة، ولا ترتفع إلى حاضنة الوعي إلا عندما تفقد الأماكن إلمامها بِنَا، أو يتمّ محوها وفقدانها من ذاكرتنا بطريقة مغايرة لما ألفناه.
إنّ آثار الذاكرة تشكِّل معرفة الشخص الفرديَّة بالمواضع الموضحة في مكان مهجور، ومن الأفضل أن ننقلها لكل الحشود من الناس، الذين يميلون إلى إضعاف انطباعاتهم بالمكان. لذلك، فإن الزائر، الذي ينوي رؤية مجموعة من المواقع المحليَّة المحدّدة بشكل جيد سيختار مكاناً مسبوقاً ومطروقاً تحفظ فيه الذاكرة كل التفاصيل. وإذا أردنا أن نتعلَّم فن تنشيط الذاكرة فنحن نحتاج لأن ننتقل عبر الأماكن، ونكتسب في مخيلتنا ثروة من الذكريات، يعود بعضها إلى آثار مسيرتنا ومركز إثارتنا، بينما تسقط أخرى على جانب الطريق. ومع ذلك، فإن ذكرياتنا لا تبدأ وتنتهي بفكرة مركز الاهتمام المثير، وإنما تستمر باستمرار تجربتنا القابلة للتذكّر.
وفي هذا الصدد، وبينما نتخطَّى العالم المترابط لماضينا، الذي نتذكّره، فإننا بذلك نعرض أنفسنا لعالم متعرج مؤقتاً، حيث يجلس الحاضر إلى جانب عمق الماضي. هذا الاختراق بين الماضي والحاضر يضع علينا مسؤوليَّة خاصَّة عن المكان والذاكرة: كيف نحتفل بالأحداث خارج تجربتنا دون تعديل هيكل ومضمون هذا الحدث، أو ذاك؟ هذا هو السؤال، الذي يبرز من التوتّر، الذي تمّ تصوره في تحليل المكان وفهم الذاكرة على أنها حاضرة وغائبة في آن واحد.
إن ما نتج عن هذا التوتّر بين الغياب والوجود كان بسبب المشاركة الأوسع للخيال، وهي سمة يمكن ملاحظتها، قبل كل شيء، من خلال جلب هذا الخيال إلى مكان الذاكرة، لتُصبح هويَّة ما يتم تذكره موضع تساؤل. نتذكَّر شيئاً من الماضي، لكننا نعزِّز به تلك الذاكرة من أجل الحفاظ على وجودها. وعند القيام بذلك، فإن العلاقة بين التجربة الأصليَّة والنسخة المحفوظة لتلك التجربة في الذاكرة تقطع مسافة متزايدة. غير أنه، في الوقت المناسب، يمكننا ضبط أنفسنا ضمن قيود محدّدة من مكان الحدث إلى مسافة الذاكرة دون أن نفقد التجربة الأصليَّة تماماً. في الواقع، وعلى المستوى الفردي، قد لا تكون تجربة هذه المسافة أكثر من مجرد غموض خفي، أو وميض يبرق من الماضي.
تُمثِّل قوّة العلاقة بالمكان عمق إحساسنا بكل ذرّة هواء حولنا، ولكن ليس هذا الإحساس دائماً موضوعاً معروفاً ومحدّداً بالكامل. فالمكان هو في صميم، ليس فقط من نحن، ولكن أيضاً في تفاصيل بيئتنا وثقافتنا، التي نجد أنفسنا فيها. وكما نستثمر تفاعلنا مع تداعيات حياتنا الاجتماعيَّة والبيئيَّة الطبيعيَّة.
ولهذا، فالإخفاء يسيطر دائماً على قدرتنا على البوح المشروع بما نعرف، ولكن عَلَنَاً، هناك مجموعة مختلفة من الذكريات على محكّ التقديرات الآنيَّة، التي توازن بين التجربة الماضية وحضور التفاصيل في الواقع. وهذه الفجوة بين التجربة والتذكّر تتجسَّد علناً، كما في مثال واحد؛ النصب التذكاري، وذلك عندما نحاول توضيح الماضي من خلال شكله لا مضمونه. فمن الوهلة الأولى، لا يقدم النصب أي أدلة معتبرة حول كيفيَّة تجسيده للماضي، وكيف يمكن لجزء من التشكيل المادّي المنصوب على الأرض أن يدّعي أنه يتحدَّث نيابة عن ذاكرة شخص آخر؟ علاوة على ذلك، كيف يمكن لمثل هذه الكتلة الصماء أن تلعب دوراً في مخيلة الجمهور، بحيث يتم افتتاح “ذاكرة عامَّة” من خلال مجسم خاص؟ هذه أسئلة معقَّدة وستتطلَّب مراجعات دقيقة بين التجربة الحيَّة للإنسان، والانتباه التأمّلي لتفسير ما يجسده النصب التذكاري.
في هذا المقام، يتوجَّب علينا أن ننتقل من الاهتمام بالخبرة الفرديَّة إلى التجربة العامَّة، حتى يحدث تحوّل أوسع من الذاكرة إلى التاريخ، الذي يمكن النظر إليه من زاوية منهجيَّة محضة. إذ إننا قد ركزنا، حتى الآن، على ظواهر التجربة الفرديَّة فقط في علاقتها بالمكان والذاكرة، ومن خلال النظر في التطوّر الهيكلي لذاكرة المكان، الذي يتمّ فرضه من خلال الدور، والذي يلعبه الخيال في الحفاظ على الماضي. في حين أن مزج الذاكرة والخيال يمثِّل توتّراً أوسع بين الذاكرة والتاريخ، حيث يصبح التعبير عن الماضي بشكل غير مباشر.
لقد نظرنا في كيف تمَّ حل الغموض في الذاكرة المحفوظة جزئياً من خلال إعادة اكتشاف الذاكرة على أنها مختلفة عن تلك الموجودة في التجربة السابقة. ضمن هذا السياق، يحتلّ حساب الذاكرة والمكان، كحدث في العالم، سرداً يمكن التحقّق منه؛ بدرجات متفاوتة، من خلال موضوع التذكّر. مثل هذا السرد يشهد على التكوين التدريجي للذاكرة، وكذلك إلى الوحدة الزمنيَّة الكامنة فيها، لأنه عندما يتعلَّق الأمر بالتاريخ والذاكرة، يبدو أن هذا الأساس الظاهري يصل إلى الحدّ الأقصى من الوضوح. وللوصول إلى هذه النقطة، يمكن صياغة المشكلة على شكل سؤال: كيف يمكننا ملاحظة الماضي بشكل ظاهر في البيئة المبنيَّة طالما أن هذا الماضي خارج عن تجربتنا الحيَّة؟ إذ لا شك في أن الرحلة بين الماضي الزماني والحيز المكاني هي المساحة والمسافة الرابطتين بينهما. فالماضي لا يأتي فقط لتوضيح شيء منفصل عن تجربتنا الخاصَّة، ولكن يُشير، في كثير من الأحيان، إلى آثار الذاكرة المتعديَّة، والتعبير عن أحداث وقعت من قبل.
الخاتمة:
لقد أتى زمان نشعر فيه أن كل، الذي قلناه، أو نقوله، عن ذاكرة المكان، آيلٌ للتبدُّل والتغيُّر، إذ ربما يتمّ فيه استبدال ذاكرتنا بمساحات افتراضيَّة في الشبكة العنكبوتيَّة، ويحدث التغيّر عبر خوادم إلكترونيَّة، تطابق فيها صور الحاضر ما يمكن أن نُعاينه غداً كتاريخ، إلا أننا نتوقَّع دائماً أن تحتلّ هذه الذاكرة مكاناً خاصّاً في ترتيب ارتباطاتنا بالزمان والمكان. ولكن، هل هناك أي شيء متأصِّل في محتوى الذاكرة، الذي يُوَلِّدُ بِنْيَّة مكانيَّة، أو خصوصيَّة زمانيَّة؟ هل تحاصر ذكرياتنا بعضها البعض؟ وهل بعضها يقع في منطقة أقل حضوراً من غيرها؟ وبالمثل، هل تظل بعض الذكريات “نائمة”، في انتظار لحظة الإنعاش؟ إن ما نعتبره إضافة ضمنيَّة في مفهوم الذاكرة، والقدرة على التذكُّر، ومرجعيَّة الذكريات، كما يتمّ تخزينها لاسترجاعها، هو اقتراح يفترض الفاعليَّة والاستمراريَّة، لا الجمود.
إن هذا الاقتراح، الذي هو بمثابة استدراك، يُخْرِج مفهوم الذاكرة والتذكّر والذكريات من تقليديَّة ونمطيَّة تناولها، ويوجب علينا أن نقول المزيد عن محمولاتها العرضيَّة، أو ما يُمكن أن تسجله السيرة الذاتيَّة، التي هي على عكس الذاكرة المعتادة ذاتيَّة التصوّر والتركيب، إذ إنها تنطوي على وضع معين من الفضاء التكويني للإنسان الفرد، الذي يُغَلِّفه الزمان والمكان في حيزه الخاص. ومع ذلك، فإننا كل ما نحتاج إلى ملاحظته، فيما جرى استعراضه في هذه المقالة، ونختم به هنا، هو كيف تكون الذاكرة العرضيَّة مضطرة بشكل واضح للتفاوض مع صورة تسمح بالتعبير عن الماضي الخاص، كما هو الحال في السيرة الذاتيَّة. وذلك، جنباً إلى جنب مع الصورة المألوفة للذاكرة العامَّة كمخزن لذكريات لا تزال بلا حراك. ومع ذلك، فإن عدم الحراك لا يعني بالطبع الشفافيَّة، بل يعني أن المخزن يصبح مترعاً، ومكتظاً، ومعموراً مغموراً، بذكريات مرتبكة، التي لا تُسْتَرْجَع إلا بعد تحضير، وإعادة ترتيب، وربما تأخير، كما لو أنها أُخْرِجَت من قبو عميق.
* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي
السبت 28 سبتمبر 2019
أديس أبابا، إثيوبيا
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.