يوم أبيض للكتابة
تتساءل دوماً من قلب الحجر المنزلي عن الجدوى من النص الجديد الذي أنت بصدد العمل عليه. تتساءل دوماً وأنت تخطُّ الجملة التي تفتح أبواباً على الأمل عن جدوى مفهوم مائع للأمل يأتي ليؤجّج الهلع الكبير الذي تبيعك إياه القنوات التلفزيونية التي ابتكرت لعبة التخطيط للفرح ولأخيه اللدود: البؤس.
الحجر الصحي انتقل بنا نهائياً من الكلام النظري حول انقلاب مفهوم الواقع من الحقيقي الواقعي الملموس إلى الافتراضي الذي لا يقلُّ حقيقية ولا واقعية. فقط هو واقع منوط بالانقطاع عن عادات التجوّل والحركة.
■ ■ ■
يوم الخبراء الرمادي
الخبراء الذين يظهرون على قنوات التلفزيون يبدون ضائعين وسط هلع لم يسبق لهم/ لنا/ للجميع أن حضّر نفسه له. الخبراء يتحدثون بلغة الإحصائيات المفهومة ونحن نصدّقهم (كلّياً أو جزئياً ولكننا نصدقهم). ولكن الخبراء من أهل الطب ومشتقّاتهم الطبية أعضاء اللجان، إداريي الطب، سياسيي الطب، أطباء السياسة، إعلاميي الطب والمكلّفين بالاتصال في الإطار الطبي، والخبراء الحكوميين لدى المؤسّسات الطبية… كلّهم يفرّقون في الإحصائيات وفي العجز عن تصوُّر المخارج والحلول.
ثم…
ثم ماذا؟
ثم يحدث أن يظهر دواء فعّال في كوبا ترفضه الولايات المتّحدة والولايات الأوروبية الموالية لها، وتشتريه خفيةً ألمانيا فيما باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي يحترمون الجحر الاقتصادي ذا المحرّكات السياسية المسلَّط على كوبا.
ثم…
تُحقّق الصينُ غلبةً كبيرة على المرض، فيما باقي العالم يغرق تدريجياً في الجائحة بلا محدّدات واضحة.
لماذا لا يَستعمل الجميع دواء الصين أو بروتوكول علاجه؟
إنه سور الصين العظيم.
– من بنى الصين يا أبي؟ تسأل أندلس وهي تسمعنا في البيت نتكلّم عن السور من وراء أسوار التلفزيون.
– بناه قدامى الصينيين خوفاً من العولمة… أجيبها كأنها تفهم إجابتي.
– لماذا كان الناس قديماً يخافون هذه العولمة؟ هل هي فيروس مثل كورونا يا بابا؟ تسأل أريام.
– قديماً، كانت نعمةً سارت بنا صوب كل شيء جميل: الفن، الثقافة، التجارة، العمران، الدين، الديمقراطية، القانون، التزاوج والتلاقح، المذهب الإنساني… أمّا الآن، فالعولمة صارت طريقاً معبَّدةً للأوبئة البشرية والحيوانية: الحروب، نهب الثروات، التدخُّل في سياسات الغير، احتكار المعلومة، التلوُّث، استغلال اليد العاملة الرخيصة في مختلف بقاع العالم، التسيير المنافق للقوانين الدولية…
– لا أفهم يا بابا.
– أنا أيضاً لا أفهم يا صغيرتي.
■ ■ ■
يوم وردي للعائلة
زوجتي مولعة برصد الفنّانين والمشاهير الذين يُكثرون الولد. الإنجاب بالنسبة إليها عادة حسنة يتّجه العالم صوب التنصّل منها. هي تحب الأفلام القديمة التي فيها دوماً مشهد العائلة. فيها الرجل أب للعائلة له أولاد وزوجة صالحة تطبخ أو تحضّر شيئاً ما للأولاد. الأفلام السنمائية الحالية بشرقيّها وغربيّها تكره مفهوم العائلة. الرجل يستطيع أن يكون خمسينياً ويدخل إلى البيت فلا يجد صراخاً لطفل ولا عويلاً لصبي. البيوت في السينما فاخرة ونظيفة ومرتّبة بشكل غريب. إذا ظهرت فيها حركة فهي حركة الحيوان. هو يسمى Animal من الحركة Anima… وما يحدث مع الحجر هو أنّنا مدعوّون للكفّ عن الحركة.
هل سنطمع مع تأجّج الفيروس العالمي إلى نهايةٍ تحلم بالحركة البسيطة لقطّ يدور حول نفسه محاولاً القبض على ذيله؟
الصورة لزوجتي أيضاً. “أصبحنا مثل القطط ندور حول أنفسنا في حركات يائسة لاختراع شيء ما نفعله”.
الحظر يجمع العائلة دوماً حول التلفاز أو حول الأجهزة المتّصلة بالإنترنت. شخصياً أكملتُ روايةً عكفتُ عليها منذ عام بتقطُّع.
صدفةً تخفّفتُ من واجباتي في الجامعة وأُجبرت على القطيعة مع عاداتي السيئة التي هي التجوال المستمرّ والسفر الكثير بسبب ومن دون سبب.
منحني ذلك الوقت الكافي للعكوف على روايتي الضخمة (قرابة الثمانين ألف كلمة: أطول نص روائي كتبته في حياتي)… رواية أشعر بأن هنالك أسباباً قد تمنعها من الظهور. ففي كل مرّة أخرج لقضاء بعض الحوائج، أشعر بالخطر يهدّد عودتي إلى البيت.
“لا يهمني شيء. أنا مطمئنّة لأنهم يقولون إن الفيروس لا يقتل الصغار. هو مشكلته مع الكبار ومع ذوي المناعة الضعيفة. منذ أن علمت هذا واطمأنّ قلبي على الصغار ارتحتُ تماماً والله”… هذا كلام وسيلة زوجتي.
الأولاد نعمة الحجر الكبرى ونقمته أيضاً. بالنسبة إلى شخص مثلي يسكن شقّة تجتهد كي تصل إلى المائة متر مربّع وهو أب لأربعة صغار يحاول منذ سبعة وأربعين عاماً أن يكبر، في هذه الحالة إذن يصبح البيت فضاءً غير صالح لشيء عدا تنظيم الفوضى وتسيير شؤون الزحام العائلي…
النعمة في أنّك في أية لحظة من لحظات القلق الذي يعتني بأمره التلفزيون: عدد الموتى. الإصابات الجديدة. الوفيات. الحالات الخطيرة. ظهور حالات جديدة. التأكّد من الإصابات الفعلية للمشتبه في أمرهم… في أية لحظة من هذا كلّه يأتيك أحد الأولاد بشيء ينسيك واجب أن تكبر كما يكبر الآباء في الدليل العالمي للآباء الكبار الناضجين، ويغرقك في الضحك. ليس ذلك الضحك الهستيري المميّز لأزمنة الرعب والأزمة، بل الضحك الذي يجتثّك من وضعك البائس: حيوان فقد حتى حيوانيته البسيطة: الحقّ في التحرّك بحرية. هذا الحق الذي تنبني عليه أصلاً حقوق الإنسان.
أكتبُ هذا النص الحزين وأنا أستمع إلى “أصوات الربيع ” لشتراوس. الموسيقى الكلاسيكية علاج لكل شيء. علاج للمشاكل الزوجية أيضاً. ولكن هذا حجر آخر له حديث آخر.
في البيت تخترع ألف طريقة للانعزال لأجل الكتابة أو غير ذلك من الأنشطة التي اعتدتَ عليها ككاتب: التفرُّج على الأفلام. متابعة الأخبار. الإبحار الحر أو المنهجي على الإنترنت. مطالعة الكتب الكثيرة التي تفتح فاها في انتظار التهامك من خلال التهامك إياها.
■ ■ ■
يوم للحركة والبركة
في الحركة بركة.
مثل شعبي قيل في حياتي ألف مرّة، ولكنّني أعدت النظر فيه مؤخّراً بشكل مرعب.
الفيروس وحده يتحرّك. ومشكلة الفيروس في الحركة.
القدامى قالوا: الخلود للمتحرّك. تراهم كانوا سيعيدون حساباتهم الإغريقية ويقولون: اللعنة على المتحرّك؟
صار الخلود للثابت. والخلود للأطبّاء الذين يجتهدون كثيراً كي يوقفوا حركة الفيروس.
امكثوا في بيوتكم. لا تخرجوا من البيت.
آخر التحذيرات تقول: لا تخرجوا للتجوّل في الطبيعة حتى وإن ظللتم منعزلين لا تخالطون أحداً؛ لأن الفيروس قد يمسك بالحشيش.
ضحكتُ كثيراً وأنا أتابع التناقضات العميقة للساسة. قلت إنهم هم أوّل من يمسك بالحشيش: والتعبير الجزائري “يحكم أو يمسك في الحشيش” يُستعمَل لمن لا أمل له.
هل هو فيروس بلا أمل؟
لماذا يصيبنا بكل هذا الهلع إذن يا ترى؟
■ ■ ■
يوم للحجر داخل المكتبة
ألاحظ وأنا في العزل الصحّي داخل مكتبي/ مكتبتي: أنا أصلاً شخصٌ حياتُه الطبيعية تجبره على كميات كبيرة من العزل الاجتماعي. ومشكلتي هي فيروس القراءة والكتابة. فيروس صحّي جدّاً – حسبما يقول المختصون – ولكنه قاتل للمخالطة ولتطوير الحسّ الجماعي.
رفقائي اليوميون هم أشخاص مثل ألدوس هكسلي وجورج أورويل وروبرت هاينلاين وفيليب ديك وآيزاك آزيموف وفرانك هيربرت ودين كونتز وباقي كتّاب الخيال العلمي.
رفقائي الآخرون هم الفلاسفة. أناس دفعوا بعيداً بالحديث التراثي الذي بلغ صداه الجميل حدّ نسبته إلى النبي محمد: خذوا الحكمة عن المجانين.
المجانين؟ جماعة متخيّلة يعجز الواقع عن إدراجها اجتماعياً فيعزلها في المخالطة، ثم التواصل، قبل أن يدخلها الحجر العقلي.
ما هذا؟ هل نحن مجانين نُعد بالمليارات؟ أمر جدير بالتفكير فيه للسبب البسيط الذي هو أنّ المجانين في أغلب الأحيان لا يعلمون تماماً بأنهم مجانين.
هكسلي وأورويل وهاينلاين وديك وآزيموف وهيربرت وكونتز وكتّاب الخيال العلمي الكثيرون الآخرون كلّهم علّموني أن أنظر إلى الحجر الصحي والانعزال الاجتماعي كسيناريو ممكن للحياة المستقبلية. حياة تتميّز بالتفاوت في الفرص، بفساد الكوكب، بالكوارث الإيكولوجية، باللامسؤولية السياسية الكونية الشاملة في التخطيط للمستقبل: مستقبل يسوده الفقر والوسخ وتنتشر فيه الأوبئة، والجنون في الاستعمال اللاأخلاقي للتطوّر العلمي. مستقبل بقدر ما تصوّرته يوتوبيات القرن المتفائل المليء بالتقدّم العلمي والصناعي والاختراعات البديعة التي تَعد بالغد الأفضل (القرن التاسع عشر) كيوتوبيا إيجابية بفضل العلم، بقدر ما حذّرت منه اليوتوبيات المضادةّ في القرن العشرين، أو الديستوبيات التي رأت الحربين العالميتين، ورأت ما يمكن للعلم أن يفعله بيد إنسان يتطوّر جسمه بمعزل عن عقله وروحه، وبمعزل حتّى عن حظّه من الفلسفة ومن الإيمان.
إنسان القرن العشرين المتوحّد الذي عانى كثيراً من التطوّر الحضاري ففقد القدرة على محاورة أخيه الإنسان. إنسان يعاني من عقدة التوحّد في المخابر العلمية التابعة للثكنات العسكرية، مخابر حلمها الأكبر هو إرسال البشر منعزلين إلى أبعد نقطة في الفضاء، في توحّد فضائي يذكّر بثقافة التوحّد التي تتطوّر يوماً بعد يوم بإيعاز من الفضاء العمومي الأكثر عزلاً وحظراً في العالم: مكاتب رؤساء الدول التي لا يدخلها أبداً الحس البشري ولا يُقرأ داخلها الشعر الإنساني ولا تُراجَع داخلها البرامج الجميلة لليوتوبيات أبداً.
■ ■ ■
يوم الفلاسفة شفّاف… كالعادة
تحيل الفلسفة على التنظير والتفكير المجرد. وكلاهما من الأشياء القديمة في عالمنا المندمج. عالم متّصل ببعضه في كل لحظة. عالم مقرف من التنظير يريد أن يرى ويعاين كل شيء. وراء كل تصوُّر يريد رؤية صورة. عالم إيقونوغرافي بامتياز.
في يومياتي أتابع باهتمام شديد ردود الفعل متفاوتة التأجّج للفلاسفة. وقد استوقفني أوّلاً كون سلافوي جيجك قد أصدر كتاباً ألّفه بسرعة عنوانه “الجائحة”، واهباً حقوق بيعه للبحث العلمي ولمنظّمة الصحة العالمية، التي قرّر الرئيس الأميركي مقاطعتها وعدم دعمها مالياً. كذلك استوقفني ما كتبه آلان باديو محوّلاً التأمّل الفلسفي إلى شيء من السلوك النتشوي الذي يحوّل الفلسفة إلى سيرة حية لعقل في حالة حركة (الحركة التي هي بركة الإنسان الكبرى؛ الإنسان الذي سنتذكّر دوماً بأنه حيوان مفكّر أو ضاحك أو حالم أو سياسي… حسب أمزجة الفلاسفة والأزمنة).
يورد باديو في تأملاته هذا الكلام:
“في هذه الأثناء، لم أر أي شيء آخر للقيام به سوى محاولة الاعتكاف بنفسي، مثل أي شخص آخر، ولا شيء آخر أقوله سوى حثّ الجميع على القيام بنفس الشيء. إنَّ احترام الانضباط الصارم في هذه النقطة أمرٌ ضروري للغاية، لأنه دعم وحماية أساسيان لجميع الأشخاص الأكثر تعرّضاً: بالطبع، جميع العاملين في الميدان الطبي، الذين هم في المقدّمة، والذين يجب أن يكونوا قادرين على الاعتماد على الانضباط الراسخ، بما في ذلك الأشخاص المصابون؛ ولكن أيضاً الأضعف، مثل كبار السن، وكل من يذهب للعمل ويخاطر بخطر العدوى. هذا الانضباط من أولئك الذين يستطيعون الامتثال لضرورة “البقاء في المنزل” يجب أيضاً أن يجدوا ويقترحوا الوسائل حتى يتمكّن أولئك الذين لديهم القليل أو لا يوجد “في المنزل” من العثور على مأوى آمن. هنا يمكننا التفكير في طلب عام لبعض الفنادق، وتشكيل “ألوية” من المتطوّعين الشباب لضمان الإمدادات، كما تم بالفعل، على سبيل المثال في مدينة نيس.
صحيح أن هذه الالتزامات ضرورية أكثر فأكثر، ولكنها لا تنطوي، على الأقل في الفحص الأوّل، على جهود كبيرة للتحليل أو تكوين فكرة جديدة حول ما يُسمّى “التضامن الشعبي”.
لكن الآن، في الواقع، قرأت الكثير من الأشياء، أسمع الكثير من الأشياء، بما في ذلك من حولي، والتي تزعجني بسبب الاضطراب الذي تظهره، وبسبب عدم ملاءمتها الكاملة للوضع. فالكثير من الناس، كما تشير إلى ذلك إليزابيث رودينسكو، يفكّرون بشكل أقل في مكافحة المأساة بشكل فعّال ممّا يفكّرون في الاستمتاع بها.
هذه التصريحات القطعية، هذه الدعوات المثيرة للشفقة، هذه الاتهامات المؤكّدة، من أنواع مختلفة، ولكنها جميعها تشترك، إلى جانب مجرّد التمتّع السرّي، واحتقار غريب للبساطة الهائلة، وغياب الجدّة، بالوضع الوبائي الحالي. أو أنهم خاضعون بلا داعٍ فيما يتعلّق بالسلطات، التي لا تفعل سوى ما تمليه طبيعة الظاهرة. فإمّا أن يبرزوا الكوكب وباطنيته، التي لا تفعل شيئاً لتقدمنا. وإلّا وضعوا كل شيء على ظهر ماكرون الفقير، الذي يقوم، وليس في ذلك أسوأ من أي شخص آخر، بوظيفته رئيساً للدولة في أوقات الحرب أو الوباء. وإلّا فإنهم يصرخون في الحدث المؤسّس لثورة لا تصدق، والتي لا يمكن للمرء أن يرى الصلة التي سيدعمها بإبادة الفيروس، والتي، علاوة على ذلك، لا يبدو الفاعلون المفترضون فيها ممتلكين لأية وسائل انقلابية جديدة. وإلّا فإنها تغرق في تشاؤم في نهاية العالم. أو يغضبون لدرجة ترجيح القاعدة الذهبية للإيديولوجيا المعاصرة: “أنا ومن بعدي الطوفان”، هي في حالة عدم الاهتمام، أو انتفاء المدد، وقد تظهر حتى كشريك في “استمرار الشر” إلى أجل غير مسمّى”.
*المصدر: العربي الجديد.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.