استهلال:
يفسِّر علماء النفس والفلسفة “الانتباه” بأنَّه الاستيلاء على العقل، بقصد واضح وجلي، إذ لا يبدو أنَّ التركيز على العديد من الأشياء في وقت واحد ممكن، بما في ذلك الأفكار. وهذا يعني وجوب الانسحاب من بعض الأمور من أجل التعامل بشكلٍ فعَّال مع غيرها. وغالباً ما تعترض فهمنا لطبيعة ما يُراد الانتباه له إشكاليات أساسيَّة تتعلَّق بعوالم اللغة، والتساؤل الدائم عن فلسفة دلالاتها الظاهرة والباطنة. فوفقاً لعلم “السيميائيَّة” المَعْنِي بدراسة عمليّات الإشارة في التواصل، وكيفيَّة بناء المعنى وفهمه، فإنَّ اللغة هي مجرَّد معالجة واستخدام للرموز من أجل لفت الانتباه إلى المحتوى المعتبر. وفي هذه الحالة لن يكون البشر متساوين في قدراتهم التعبيريَّة عن المعنى، وليس هم المالكون الوحيدون لمهارات التواصل، إلا أنَّ اللغة في تقديرنا أعمق بكثير من هذا المعنى الظاهري المبستر؛ فالصوفي، الذي روّضته التربية الروحيَّة على الانتباه الوجداني هو، كما يقول محمد ولد محمد سالم، في “الواقعيَّة السحريَّة والرؤيا الشعريَّة”، الذي نُشِرَ بصحيفة “الخليج”، بتاريخ 19/7/2013، يمتلك القدرة على تفجير الطاقة اللغويَّة، واستخدام أساليب رمزيَّة تفتح النص على احتمالات تأويليَّة لا حصر لها. فالعبارة عند الصوفي لا علاقة لها بالواقع المادِّي الجامد، الذي فيه الأشياء مصروفة عن ظاهرها، لأنها رمز للحقيقة، وليست هي الحقيقة، ولا تستطيع الحواس إدراكها، لأنَّ فهمها يأتي من نور القلب، الذي هو هبة خاصَّة لا تتأتَّى لكل بشر.
وفي هذا المستوى من الانتباه، يرتفع الصوفي باللغة درجة، ويبتعد بها عن التقريريَّة والمباشَرة، ليدفعها إلى عالم الرمز فاتحاً نصّه على مصراعيه، حيث يدخل القارئ في بحرٍ من المعاني لا ساحل له؛ فالمرأة المعشوقة ليست هي المرأة البشريَّة، والوصل ليس هو اللقاء بين الشاعر وحبيبته، وكل الأوصاف الغزليَّة لا علاقة لها في عرف الصوفي بما يعنيه الشاعر الجاهلي عندما كان يطلق تلك الأوصاف. إنَّ الصوفي يحاول اقتناص لحظة الكشف وانبلاج الحقيقة له، لأنَّ نيّته انعقدت على ذلك، ويبحث من ثم لها عن أدوات تناسبها للتعبير عنها. فالقصد هنا هو المصطلح الخاصّ بهذه الميزة التواصليَّة، على افتراض أنّ بعض الحالات الذهنيَّة يجب أن تكون موجَّهة نحو الأشياء في العالم الواقعي، فيما تدخر أخرى لنفسها تجريداً للمعنى، تكون “النِيَّة” فيه هي المُوجِّهة لحقيقة الموصوف المُدْرَك. وهكذا، فإنَّ معتقداتنا ومخاوفنا وآمالنا ورغباتنا تكون مقصودة، حيث يجب أن يكون لها هدف، وتتَّجه نحو المعنى.
في هذا المستوى من الانتباه، يرتفع الصوفي باللغة درجة، ويبتعد بها عن التقريريَّة والمباشَرة، ليدفعها إلى عالم الرمز فاتحاً نصّه على مصراعيه، حيث يدخل القارئ في بحرٍ من المعاني لا ساحل له.
الموضوعيَّة والواقعيَّة:
لقد نجحَ الغرب في الوصول إلى درجات متقدِّمة في دراسة الانتباه، والخروج به من صوفيَّة الشرق الوجدانيَّة إلى الموضوعيَّة الواقعيَّة. فنجد أستاذة الفلسفة والعلوم المعرفيَّة في جامعة كاليفورنيا الأمريكيَّة، بمدينة ميرسيد، كارولين ديسي جينينغز، التي تظهر كتاباتها بانتظام في دوريات رصينة مثل: مجلَّة “العلوم”، ومجلَّة الجمعيَّة الفلسفيَّة الأمريكيَّة، ومجلَّة “الوعي والإدراك”، ومجلَّة “دراسات الوعي”، تقترح عبارة فلسفيَّة جديدة حول الانتباه؛ تُمَثِّل تصوّراً مختلفاً لحقيقة الوجود الإنساني، تقول: “أنا منتبه، فهذا أنا”، التي تُشير إلى أن قوّتنا لا تتأكَّد إلا بقدراتنا على الانتباه، وإدراك الحقائق الأخرى عن الذات، حتى لو كانت غير مريحة. وبهذا لا نستطيع أن نُداني، أو نقترب من شفافيَّة ما وصل إليه المتصوّفة، وربما يعزى ذلك إلى أننا ننطلق من طرح عقلي نظري لمفهوم الانتباه، بينما عايش المتصوّفة هذا الانتباه كتجربة شعوريَّة وجدانيَّة ووجوديَّة؛ مفعمة بالإحساس بعلاقة “نحن الجزء” المتمم للكل، والسبيل الوحيد لإدراك كينونتنا وقوّتنا الذاتيَّة هو أن نتعمَّد فهم الكل الكوني من خلال هذا الجزء الإنساني.
إنَّ لدينا جميعاً، في الشرق والغرب، مشاعر ورغبات وأفكار ننتبه إليها في حاضرنا، ونتذكَّر بها ماضينا، ونتخيَّل مستقبلنا. وفي بعض الأحيان، يتطلَّب الأمر أن نبذل جهداً خاصّاً لإنجاز مهمّ يتعلَّق بهذا المستقبل، وأحياناً أخرى، ربما نكون ببساطة بحاجة للاسترخاء مع ذكريات الماضي المفرحة، لأنّنا لم نتوفَّر على معينات هذا الفرح في الحاضر. وقد تبدو كل هذه الأمور صحيحة عن سلوكنا، وواصفة لأحوالنا. ولكن هل نحن موجودون حقاً؟ هل إحساسنا بالذات وهم أم حقيقة، أو أن هناك شيئاً في العالم يمكننا أن نشير إليه، ونقول: “آه، نعم – هذا أنت؟” فإذا كنت مُدرِكاً لعلم العقل المعاصر، ستعرف أن أي مفهوم للذات الموضوعيَّة، منفصل عن مجرد تجربة هذه الذات، لا يحظى بقولٍ عام. ولكن هذا الموقف لا مبرِّر له، إذ تُشير البحوث إلى أنَّ الانتباه إلى الذات هو ما وراء الخبرة، مع صلاحيّاتها وملكاتها الخاصَّة.
بيد أنَّ الإجابة لم تتَّضح بعد، إذ لا بد أن نُعيد سؤال الإشكاليَّة مرَّة أخرى: فما هو الانتباه؟ لنجيب بما يُعبِّر عن فهم الشرق والغرب، فالأوَّل يقول عنه موفق مسعود، في مقاله حول “الانتباه الوجوديّ والانتباه الإعلاميّ”، نُشِرَ يوم الاثنين، 24 كانون 1 2018، في مجلَّة “صور” السوريَّة، إنَّ “الانتباه الوجوديّ هو الاشتهاء الوجوديّ، هو فعل اشتهاء بالغ العلوّ، إنه لحظة التفات كلّيّ لإحداثيّات الوجود نحو المنتَبَه له، إنَّه توجيه لا إرادي، احتشاد الطاقة الخلّاقة ما يجعل الانتباه ذروة حسّيَّة متّصلة بالكون.” ولكن الإجابة السهلة المباشرة تقول، في تقدير كارولين جينينغز، إنَّ الانتباه هو ما نستخدمه لنستبعد المشاهد والأصوات، التي تؤدِّي إلى تشتيت التركيز عن كل ما هو مهمّ، وما ينبغي علينا أن نُوليه عناية خاصَّة. فنحن، في الوقت الحالي، نستخدم قدراً من الانتباه لقراءة هذا المقال. إنَّه أمر يمكننا التحكَّم فيه والحفاظ عليه، ولكنه يتأثَّر بشدَّة أيضاً بالعالم من حولنا، مما يشجِّعنا على البحث عن محفِّزات جديدة ومختلفة تُعيننا على التركيز.
وفي بعض الأحيان، فإنَّ التشجيع على تغيير التركيز يمكن أن يكون جيّداً للتحقُّق من أنَّنا في حالة انتباه. وعلى سبيل المثال، إنَّه لأمر جيِّد أن نرفع عينينا عن هاتفنا المحمول عندما تأتي سيارة موازية للرصيف، الذي نقف عليه. ولكن هذا التشجيع يمكن أن يمنعنا أيضاً من استكمال المهام، التي علينا إنجازها، وذلك عندما ندخل في دوَّامة من الانشغالات المربكة. قد نُفكِّر في ملكات الانتباه الخاصَّة بنا وقدرتنا على السيطرة لتركيز انتباهنا، بعيداً عن المؤثِّرات المحيطة بنا، وتوجيه هذا الانتباه نحو وجهتنا المفضَّلة، التي تتطلَّب قدراً عالياً من التركيز. فهناك عدَّة أنواع من الانتباه؛ مثل، الانتباه الانتقائي، والمستمر، والمقسم، أو المشتت. وإلى جانب هذه الأنواع المختلفة من الانتباه، نجد ظواهر ما قبل اليقظة، التي تؤدي إلى تهيئة الإنسان لحال الانتباه للظواهر السابقة، التي تتطلَّب التحقيق باستخدام اختبارات وخيارت معرفيَّة معلومة.
أستاذة الفلسفة والعلوم المعرفيَّة، كارولين ديسي جينينغز، تقترح عبارة فلسفيَّة جديدة حول الانتباه؛ تُمَثِّل تصوّراً مختلفاً لحقيقة الوجود الإنساني، تقول: “أنا منتبه، فهذا أنا”، التي تُشير إلى أن قوّتنا لا تتأكَّد إلا بقدراتنا على الانتباه، وإدراك الحقائق الأخرى عن الذات، حتى لو كانت غير مريحة.
الانتباه والتواؤم:
إنَّ هذه الحالة نفسها من الانتباه، أي ما نستخدمه في الحياة اليوميَّة لأداء المهام العاديَّة، هو ما يساعدنا على التواؤم في لحظات الصراع بشكلٍ عام. تلك اللحظات، التي نجد أنفسنا فيها بين اثنين، أو أكثر، من الخيارات، وكلاهما يجذبنا إليه، ونحن ممزَّقون بين أي منهما سوف نُفَضِّل تعيين مسارنا. إنَّ الفيلسوف الأمريكي روبرت كين لديه طريقة للتحدُّث عن هذه اللحظات، التي تحدِّد مواقفنا في الحياة، أو ما يسمِّيه “أعمال تشكيل الذات”. إذ إنَّ فكرة كين هي أنَّ تعبيراتنا الحقيقيَّة عن أنفسنا تأتي في لحظات تنقسم فيها إرادتنا. ففي مثل هذه اللحظات، يمكننا أن نذهب إلى أي من طريقين، ولكنّنا نسير في اتِّجاه واحد. وفي القيام بذلك، نحن نساعد في وضع سمة من سمات أنفسنا، أي تلك التي تنسجم مع المسار المختار لبلوغ غايتنا.
وللتعبير عن انقسام الإرادة، لك أن تتخيَّل أنه عند البحث عن وظيفة تلقّيت اثنين من العروض، واحد فقط منهما ينسجم مع المجال الحالي الخاصّ بك. إنَّ الوظيفة، التي في مجال تخصّصك، من شأنها توفير الأمن وظروف حياة جيدة، ولكن وجدت نفسك أكثر اهتماماً بمجال عمل جديد. والوظيفة في المجال الجديد ستكون محفوفة بالمخاطر، مع ظروف استقرار أقل وأكثر صعوبة، ولكنك تأمل أن تقودك إلى فرص أفضل في المستقبل. ماذا عليك أن تفعل؟ بالنسبة لـ”كين”، فإن الجهد الذي تختاره بين هذين النصفين من نفسك؛ النصف الذي يهتمّ بالاستقرار، والنصف الذي يرغب في التغيير، يخلق صراعاً في الدماغ لا يمكن حلّه إلا من خلال مزيج من عدم التحديد الكمِّي والتضخيم الفوضوي. وفي حين أن هذا قد يبدو غير قابل للتصديق على علاته، فإنَّ آليَّة كين المقترحة لديها بعض الأدلَّة الداعمة لها. والخلاصة هي فعل تشكيل ذاتي من جانبين، إذ نحن مسؤولون عن تحديد نوع العمل، مهما كانت النتيجة. وذلك من خلال وضع جهودنا وراء كل واحدة من النتائج المتعارضة وفرض الحل، آملين أن يُساعد هذا القرار على تشكيل مستقبلنا الذاتي، من حيث أننا فضّلنا إحدى الدوافع المتضاربة حتى الآن.
الحيرة في الاختيار:
على الرغم من أن كين لا يذكر الانتباه صراحة، فمن الواضح أن الاهتمام بهذا الانتباه هو جزء أساس من هذه الصورة. فعندما نواجه خيارات متضاربة، فإننا بدورنا نهتمّ بها بانتباهة خاصَّة. ويمكننا تحويل انتباهنا هذا من أمن وظيفة معينة إلى الإثارة المتوقَّعة في الوظيفة الأخرى. نعم، في بعض الأحيان، يساعد الانتباه على تحديد النتيجة، كما يحدث عندما نركِّز أكثر على الأمن، أو الإثارة. وفي أحيان أخرى، يخلق انتباهنا ظروف عدم التحديد، حيث نُبقي على كلٍ من الخيارين على قدم المساواة. وفي كلتا الحالتين، سيلعب الانتباه دوراً حاسماً، فهل ستظلّ هناك إجراءات ذاتيَّة التشكيل بدون كل هذا الجهد من الانتباه؟ أو ماذا لو كان الخياران نصفين من أنفسنا، ويشتبكان ببساطة من تلقاء نفسيهما؟ ألم يكن فعل التشكيل هذا ذاتيّاً بغض النظر عن كيفيَّة حلّ النزاع؟ وهنا تطلب منَّا الدكتور كارولين أن نسمِّي هذا القلق “فروستيان”، تأسياً واستعادة لمضامين قصيدة روبرت فروست “الطريق غير المطروقة”، التي نُشِرَت عام 1916. ففي هذه القصيدة، واجه فروست طريقين في الغابة، بدأ أنهما متشابهان، وكان عليه أن يختار السير في واحد منهما، وتوقَّع أنَّه سوف يقول في المستقبل:
تباين طريقان في الغابة، وأنا –
أخذت أقلّهما سفراً،
والذي أحدث كل الفرق.
وتُذَكِّرنا تداعيات فروست بـ”طلاسم” إيليا أبو ماضي وحيرته الوجوديَّة، التي استغنى مع مشيئتها عن إرادته واهتمامه، وتجرّد من رغبة الانتباه لخياراته، وبدأ رحلة سعيٍ؛ مُسَيَّرٌ فيها غير مُخَيَّر، رغم أنه لم يتوقَّف عن التساؤل، الذي يبحث بمنطق الفلسفة عن الذات المُضَيَّعَة في خِضْم هذه الحيرة.
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ما شياً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري؟
لست أدري!
غير أن انتباه فروست، الذي يجعله أكثر واقعيَّة من حيرة أبي ماضي، هو أنَّ المسار الآخر هو من المرجَّح أن يكون “قد أحدث كل الفرق”. في هذه الحالة، فإنَّ ذات فروست المستقبليَّة ربما كانت ستتذكَّر بعض الاختلافات الأخرى في المسارات المتعدِّدة لتبرير اختياره، والتي من شأنها أن تكون منسوجة في قصة حياته. وفي هذا التصوَّر، ليس من الضروري بذل الانتباه من أجل تشكيل الذات، لأنَّ خياراتنا يمكن أن تكون محدَّدة تماماً، أو عشوائيَّة تماماً، وقد تشكَّلت مهما تغيَّر السرد، الذي لا يزال مُفسّراً لها.
وبما أنها لحظة مفارقة لعالم المادَّة، في حالة إيليا أبو ماضي، فإنَّ التعبير عنها يحتاج إلى أدوات مفارِقة، وغير عاديَّة، لِنُحَصِّل من ذلك الحقيقة القائلة إنَّ النصّ المتحقّق، لا يفصح عن معناه مباشرة، ولا يصرِّح بما يريده، بل يرمز ويشير لما قد يُشاهده الصوفي في تلك اللحظة، التي تنبثق له فجأة، ويصبح تعبيره عنها بمثابة الرؤيا، أو الحلم. وهنا يلتقي الصوفي مع مفهوم الرؤيا، الذي هو الأساس النظري للحداثة، التي صبغت أعمال شعراء المهجر، حيث الشعر رؤيا عن الكون وحلم عن الواقع، وليس تمثيلاً مباشراً لهذا الواقع، ولا رؤية عقليَّة منظّمة عنه تُحدّثنا، وفقاً لتعبيرات أبو ماضي، عن أنّ صفصاف بلاد غربته “يجثو كئيباً كلما مرَّت به ريح الشمال”، ونحن في جنوب لم يشهد لصقيع الشتاء برداً ولا جليداً تتجمَّد به خضرة الطبيعة ونضارها، فيصبح هذا الصفصاف بـ”لا ورق عليه ولا جمال”.
تُذَكِّرنا تداعيات فروست بـ”طلاسم” إيليا أبو ماضي وحيرته الوجوديَّة، التي استغنى مع مشيئتها عن إرادته واهتمامه، وتجرّد من رغبة الانتباه لخياراته، وبدأ رحلة سعيٍ؛ مُسَيَّرٌ فيها غير مُخَيَّر، رغم أنه لم يتوقَّف عن التساؤل، الذي يبحث بمنطق الفلسفة عن الذات المُضَيَّعَة في خِضْم هذه الحيرة.
الوعي والذات:
إنَّ هذا قد يكون اعتراضاً مقبولاً، لأنَّه يُناسب خطّ التفكير، الذي يكسب حاليّاً شعبيَّة في العلوم المعرفيَّة الإدراكيَّة؛ ليس فقط لأنَّه انتباه غير مطلوب لتشكيل الذات، وإنما تعبير عن عدم وجود ذات حقيقيَّة مطلقة. وبقدر ما توجد هذه الذات، فهي ببساطة جزء من قصَّة نُخَبِّر عنها بأنفسنا؛ مثلما يفعل الآخرون. وكما يقول عالم الأعصاب أنيل سيث: “أتوقَّع نفسي، لذلك أنا موجود”. فنحن، الكائنات البيولوجيَّة والعقليَّة، نبني مفهوم الذات لأنَّه أفضل وسيلة لنشرح لأنفسنا والآخرين جوانب معيّنة من سلوكنا. فعندما نصطدم بشيء ما عن طريق الخطأ، قد نقول مثلاً: “لم أفعل ذلك، كان ذلك حادث” لا محال. وفي مثل هذه الحالات، من المفيد أن يكون مفهوم “أنا” هو للتمييز بين الحركات غير المقصودة الخاصَّة بالجسد من الحركات المقصودة لذات الجسد، أي “أنا’ فعلت هذا، وجسدي فعل ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أنه بمجرَّد البدء في استخدام هذا المفهوم، لم نَعُدْ بعيدين عن بناء الذات الكاملة، مع التفضيلات والاتِّجاهات المختارة لتعريفها. ولكن هذا لا يعني حقاً أنَّ هناك أي شيء جوهري يمكن أن يُؤشِّر على صِحَّة جميع هذه الأحداث، إذ يكفي أنَّ في كل حالة هناك “نِيَّة”؛ وإنما الأعمال بالنيَّات، وهناك هدف، وأنَّنا قادرون على تحديد، والتواصل مع السلوكيات المرتبطة بذلك، دون أن يكون هناك مصدر آخر لهذه الأهداف والسلوكيات. ربما “لم أفعل ذلك، كان حادثاً” بالفعل هو الاختزال فقط لـ”لم يكن هناك نيَّة للقيام بذلك. فقد كان حادثاً أصلاً”، وبذا خرج قيد “النِيَّة” المعنوي، ولم يرتبط بهدف موضوعي.
واتِّكاء على هذه الاعتبارات، اقترح الفيلسوف دانيال دينيت، في كتاب “الذات والوعي: رؤى متعدِّدة”، الصادر في نيوجرسي، عام 1992، أن الذات هي ببساطة “مركز الجاذبيَّة السرديَّة،” تماماً كما أن مركز الثقل في الجسم المادِّي ليس جزءاً من هذا الكائن. ولكن، كمفهوم مفيد نستخدمه لإدراك العلاقة بين هذا الكائن وبيئته، كما أنَّ مركز الجاذبيَّة السرديَّة فينا ليس جزءاً من أجسادنا، أو روحاً داخلنا، ولكنه مدلول مفيد نستخدمه للإحساس بالعلاقة بين أجزاء أجسادنا، في تكاملها مع الأهداف الخاصَّة والنوايا، وبيئتنا. لذلك، فأنت، أنت، كبناء، وإن كان مفيداً، أو هكذا يذهب تفكير دينيت عن الذات الجوهريَّة.
وبالقطع، ليس فقط دينيت القائل بفكرة إنَّ هناك ذاتاً جوهريَّة، لأنَّه عندما يهدف علماء الإدراك المعرفي إلى تقديم حساب تجريبي للذات، فإنهم ببساطة يسردون فكرة عن حِسّنا الذاتي، أي أنه لماذا نعتقد أنّ لدينا هذه الذات. وما لا نجده هو حساب الذات مع القوى المستقلَّة، المسؤولة عن توجيه الانتباه وحلّ نزاعات الإرادة. إنَّ هناك أسباباً كثيرة لهذا؛ أوّلها هو أن العديد من العلماء يعتقدون أنَّ الأدلَّة تحسب لصالح تجربتنا بشكل عام كملحمة استثنائيَّة، أي أن لا شيء يؤثِّر على دماغنا، ولكن يتأثَّر به. وبهذه النظرة، فإنّنا عندما نواجه قراراً صعباً، على سبيل المثال، يكون هذا القرار قد أُتخِّذَ بالفعل من قبل عقلنا، وتجربتنا مجرد ظلّ لهذا القرار. لذا، بالنسبة للحالات، التي قد نفكِّر فيها بأنّ الذات هي الأكثر نشاطاً، في وضع القرارات الصعبة، فإن كل شيء يتحقَّق بالفعل من قبل الدماغ.
ودعماً لهذا الرأي، فمن الشائع الاستشهاد بتجارب بنيامين ليبيت، التي أجراها في الثمانينيات من القرن الماضي، حول هل نحن نتَّخذ فعلاً قرارات بمحض إرادتنا، أو العقل هو الذي يخدعنا. ومع ذلك، فإنّ كتاب دانيال فيجنر “الوهم الواعي”، الذي صدر عام 2002، يقول إنَّ هذه النتائج لا تقترب من إظهار أنّ تجربتنا ملحميَّة، أو استثنائيَّة. إذ إنَّ إثبات وجود أوهام الإرادة ليس هو نفسه كتدليلنا على غياب الإرادة. وتُظْهِر تجارب ليبيت أننا يمكن أن نتنبّأ برغبة المشارك لاختبار مرونة معصمه، أو إصبعه، في وقت محدَّد من خلال مراقبة الدماغ، قبل أن يدَّعي المشارك أنه قرَّر هذا الاختيار. ولكن ليبيت، وآخرون، قد لاحظوا؛ مثلاً، أن المشارك قادر على تغيير رأيه حتى بعد أن يتم التنبّؤ، وفي هذه الحالة لا يمكن إثبات أي شيء. لذلك، ليس من المنطقي أن نفكِّر أنَّ توقّعاتنا تقوم على قرار نهائي من العقل، الذي هو خارج سيطرة المشارك. ويظهر فيجنر فقط أنَّ المشاركين يخضعون لأوهام الإرادة، غير أن إثبات وجود الأوهام ليس هو نفسه في كل الحالات، كما يدلّ البحث على غياب هذه الإرادة.
فما هي الذات الموضوعيَّة المنوطة بفعل الانتباه؟ إذ إنه من الواضح أنّ هذه الذات لكي تكون ذات طابع موضوعي، يجب أن تكون للمرء صفات محدَّدة، يمكن فصلها عن الآخرين؛ وهذا يعني فقط أن تكون ذاتيّاً. ولكن ما هي هذه الصفات القابلة للتحديد؟ والاقتراح المشترك هو التفكير في الذات على أنها متطابقة مع الجسد، حيث أن جسم الفرد، عادة، يمكن فصله عن الهيئات الأخرى. ولكن هذا لن يعمل على حساب كامل الذات، لأن العديد من السلوكيات الجسديَّة لا تنتمي لهذه الذات، كالحوادث وردود الفعل، على سبيل المثال لا الحصر. ففي مثل هذه الحالات، يتمّ استخدام “النِيَّة” لتحديد دور الذات. لذلك، فإنَّ الحساب الأفضل للذات سيعرفها من حيث نواياها، ومصالحها، وأهدافها، ورغباتها، واحتياجاتها، التي تُعتبر مركزيَّة في، أو عند، الانتباه إلى وجود الذات.
والنقطة المركزيَّة إذن هي: بالنسبة لكل من نماذج الانتباه هذه، هناك افتراض أساس، وهو أن المهمَّة تحدِّد بعض الأهداف ذات الصلة، وأنه عندما يختار الإنسان تلك الأهداف لأداء المهمَّة، فإنَّ الموضوع يحضر إلى الهدف. وهذا يعني أن هناك شرطاً كافياً للانتباه، الذي بني في هذه النماذج، التي تُكرِّر نقطة انطلاقٍ بديهيَّة لدينا، تؤيِّد ضمنا هذا الشرط الكافي. وتبدأ بفكرة أنَّ هناك بعض الظواهر الواضحة جداً، التي جعلتنا نفكِّر في الانتباه في المقام الأول في الرؤية، التي يمكن أن توجِّه نظرة الناس عندما يبحثون عن الأشياء، والاستفادة من الحدس للعثور على الهدف المنشود بين الكثير من النماذج الزمانيَّة والمكانيَّة، التي تُمثِّل نقطة انطلاق ضروريَّة بشأن فهم الانتباه الوجودي لاكتشاف معنى الحياة.
النقطة المركزيَّة إذن هي: بالنسبة لكل من نماذج الانتباه هذه، هناك افتراض أساس، وهو أن المهمَّة تحدِّد بعض الأهداف ذات الصلة، وأنه عندما يختار الإنسان تلك الأهداف لأداء المهمَّة، فإنَّ الموضوع يحضر إلى الهدف. وهذا يعني أن هناك شرطاً كافياً للانتباه، الذي بني في هذه النماذج، التي تُكرِّر نقطة انطلاقٍ بديهيَّة لدينا، تؤيِّد ضمنا هذا الشرط الكافي.
الخاتمة:
إنَّ الهدف الغائي لتناول مسألة “الانتباه الوجودي” ليس هو مفترع جديد لمشروع قديم، بل اتِّجاه لنظرة عميقة لشأن لا ينفكّ يُثير اهتمامات الفلاسفة والمفكِّرين والعلماء من كل التخصّصات، الذين يتّفق معظمهم على أن القدرة التنبؤيَّة للعلم تكشف عن الكون، الذي يمكن أن تلتقطه القوانين. والقوانين تحتاج دائماً لانتباه من يركِّز على اكتشافها وملاءمتها، لأنه عندما نصنع خطأ في التنبّؤ، فذلك لأننا لم نكتشف بعد القانون الصحيح، الذي يلائم الحالة المطلوب معالجتها، أو تطويرها. وكانت وجهة النظر القديمة تقول إنَّ هذه القوانين يجب أن تتمتَّع بامتياز المجال الميكروفزيائي، بحيث يتمّ وصف جميع الأحداث على المستوى الكلِّي، أو المستوى الذي نختبر فيه العالم، بشكل مثالي، من خلال عمل هذه الأحداث على المستوى الجزئي.
بيد أننا لو اعتمدنا هذا الرأي، حتى لو كنّا لا يمكن أن نوفِّر حساباً من تجربتنا الواعية من حيث التنبّؤات واجتراح القوانين، فلن نستطيع المساهمة الحقيقيَّة بتقديم إضافات معرفيَّة؛ نعتقد أنها مهمَّة على مستوى الفصل الدلالي بين المفهوم الإجرائي، الذي كرّس له النسق المادِّي الجزئي في التفكير الغربي، وبين المفهوم الكلّي لاشتغال الذات صوب حقيقة المعنى، أو ما نستهدفه بقيمة “الكشف/الاكتشاف”، باعتباره مقصوداً ليقين الاختيار، وليس حالة نظر انجذابيَّة تصوّفيَّة بالمعنى السلبي الانسحابي. ففي تجربتنا الشرقيَّة من القيم المضافة ما يُكَمِّل المعرفة الغربيَّة ولا يناقض حججها العلميَّة، ودليل ذلك متوفِّر دوما في كتابات العلماء المسلمين وترجماتهم. لهذا، فإنَّ المقاربات بين الحضور الفلسفي للرؤية الغربيَّة المادّيَّة؛ الغالبة حتى حين، وبين الإشراق المقترب من الحقيقة في المعاودات الشرقيَّة للاجتهاد يُبشِّر باستعادة معرفيَّة كبيرة لمفهوم الانتباه تتجاوز إجرائيَّة دالة “التركيز” إلى حقيقة “الكشف / الاكتشاف”، وتنزيل ذلك على الأحوال والوقائع الذاتيَّة، وربطها بالمسارات الوجوديَّة والمصيريَّة للإنسان.
* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي
السبت 14 سبتمبر 2019
أديس أبابا، إثيوبيا