بكاءُ الأرض
تشير بعضُ التقديرات إلى نفوقِ أكثر من مليار حيوان في حرائق استراليا 2019 -2020، وتحوّلها إلى رماد، واحتراق نحو 10.7 ملايين هكتار من الغابات، إثر الانبعاثات الحراريَّة والاحتباس الحراري الذي تحدثه فضلاتُ الدول الصناعيَّة الكبرى، وخنقها للكائنات الحيَّة في الأرض، وفتكها بالبيئة. ومنذ سنوات تحدث حرائقُ لغابات البرازيل، فقد اندلعَ نحو 74.155 حريقًا فيها في المدَّة الواقعة من الشهر الأول حتى الشهر الثامن سنة 2019. وتتكرَّر هذه الحرائقُ بمدّيات مختلفة سنويا، وتشتدّ في بعض السنوات لتبيد مساحات شاسعة من الغطاء الأخضر الذي يزوِّد الكرةَ الأرضيَّة بما تحتاجه من الأوكسجين.
وباء كورونا يحكي بكاءَ الأرض، بعد أن استباحها الإنسانُ فبدّد غطاءَها الأخضر، وأنهك مواردَها الوفيرة، في عبث لا مسؤول، وأجهز بلا ضمير على التنوّع الحيوي فيها، من دون مراعاة للتوازن الطبيعي، ولإمكانات الأرض المتاحة. استُنزِفت مواردُها في تلبية احتياجات غريبة، تفتعلها باستمرار نزعاتُ استهلاك شرهة لسلع غير أساسيَّة، لا تقف عند حدّ.
“كلما تقدَّم التاريخ خطوتين إلى الأمام رجع خطوة إلى الوراء، كي يلتقط أنفاسه، ويهضم التقدُّم الذي تجرَّأ عليه وأنجزه” يقول المؤرِّخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل. لم يكن في حسابنا أن يعبث كورونا بالأمن الصحي بهذا الشكل المجنون، وتبعًا لذلك يهدّد حياتنا شبحُ انهيار اقتصادي مريع. كورونا تهديد جدّي للإنسان في الأرض، بدأنا نتلمَّس انعكاسَ آثاره على كلّ شيء في حياتنا، وهو يواصل تفشِّيه بهذا الاجتياح المقلق. إنه يمثِّل منعطفًا حاسمًا يضع عالَمنا في مسار مختلف، تُغرِق العالَم فيه تحولاتٌ عميقة في معادلات الاقتصاد والسياسة والقيم والثقافة، لتعيد رسمَ الجغرافيات السياسيَّة، وتشكيلَ منظومات القيم، وأنماط التديُّن، والثقافات، والآداب والفنون، والعلوم والمعارف، بنحو لم يعرفه عالَمُنا من قبل.
استفاقت كلُّ المجتمعات البشريَّة فجأة على أن الكلَّ في سفينة كونيَّة واحدة، إن غرقت تغرق معًا، وإن نجت تنجو معًا. وباء كورونا وضع الكلّ للمرَّة الأولى في مواجهة شكلٍ مختلف من الموت العابر لكلّ الحدود الجغرافيَّة والزمانيَّة والطبقيَّة. لم يكن هذا الوباء كالأوبئة السابقة، ولا حتى الحروب المدمِّرة، التي لبثت كلَّ التاريخ تتحكَّم فيها الجغرافيا فتفرض عليها مكانَها الخاص، ففي الحربين العالميّتين الأولى والثانية في القرن العشرين، لم يتخط تمّددُهما أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولبثت: أمريكا الشماليَّة والوسطى والجنوبيَّة واستراليا والقارتان القطبيتان بمنأىً عن نيرانهما.
انهيارُ الحدود المكانيَّة في العالَم اليوم، واختزالُ الزمان فيه إلى ما يقترب من الصفر، يصيّر هذا العالَمَ الكبيرَ صغيرًا جدًا. تحدّياتُ العالَم اليوم وتعقيدُه وتنوعُّه بحجم هذا العالَم الكبير جدًا، لكن تحولاتِ هذا العالَم ومنعطفاته وإيقاعَ الأحداث فيه بحجم العالَم الصغير جدًا. العالَمُ وجد نفسه في لحظة وكأنَّ الأرض انكمشت به فضاقت جدًا، بشكل أمسى ينتظر الكلُّ فيه مصيرا مشتركا محتوما، لذلك سقط الكلُّ في حالةٍ من الخوف، وعاش البعضُ حالات هلع. بنحوٍ بات الخوفُ المصاحب لتفشِّي كورونا أخطرَ من كورونا.
وضع وباءُ كورونا البشريَّة كلّها أمام مصير واحد، وفضحَ هشاشةَ العالَم، وأعلنَ عن الحاجاتِ العميقة للقيم في الحياة، وضرورتِها الأبديَّة لحماية مصيرِ البشريَّة المشترك. تنبَّهت البشريَّة في لحظة ذعر إلى أنَّ إعادةَ بناءِ نظام القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة هو الضمان لتحقيق درجة عالية من الشعور بالمسؤوليَّة حيال الخلق، وبناء أسس راسخة لتضامن إنساني يكفل احتياجات الناس، وإشاعة روح التراحم في الحياة.
الأرض تنتقم لنفسها بعدَّة أشكال، وتواصل انتقامَها حتى يعود الإنسانُ لنظام القيم الذي يضبط عمليَّة الإنتاج في ما ينفع الإنسان، ويشعره بالسكينة والأمان، ويرسِّخ العدالةَ في التوزيع، بشكل يضيق فجوةَ التفاوت الفاحش بين الطبقات، ويرشِّد الاستهلاك، ويحمي حياةَ الإنسان بأنظمة عادلة تضمن العيشَ الكريم والصحةَ للفقراء، وتهتمّ بتأمين احتياجاتهم الأساسيَّة. وتشريع قوانين تفرض ضرائبَ عاليَّة على الإثراء الفاحش، وتحدّ من الشره اللامحدود لدى رجال الأعمال، المولعين بتكديس الثروات، وعدم استثمارها في ما ينفع البشريَّة. وتوظيف أكثر هذه الضرائب في إعادة بناء نظم علميَّة حديثة للتربية والتعليم والصحَّة والبحث العلمي في ما ينفع الناس، وتحرير البشريَّة من الفاقة والحرمان في أفريقيا وغيرها من البلدان التي يعيش الإنساُن فيها محروما من أبسط احتياجاته الأساسيَّة.
وباتَ الإنسانُ اليومَ ضحيَّة استبداد السلطات السياسيَّة والاقتصاديَّة في مختلف البلدان، كلٌّ منها بطريقتها الخاصة في إدارة السلطة والثروة، ففي الصينِ مثلا وأكثرِ المجتمعات الشرقيَّة أمست كرامةُ الإنسان وحرياتُه وحقوقُه قربانًا لأيديولوجيّات السلطات اليساريَّة والقوميَّة والأصوليَّة. وفي الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وأكثر المجتمعات الغربيَّة أمست حياةُ الإنسان وسلامتُه قربانًا للرأسماليَّة المتوحّشة. وباء كورونا فضح الرأسماليَّة المتوحّشة في الغرب، وأيديولوجيّاتِ السلطات الشموليَّة في الشرق.
أفرز وباءُ كورونا عدَّةَ ظواهر عملت على مضاعفة وطأة هذا الوباء على الناس. من هذه الظواهر الخوفُ الذي بلغ عند البعض حالات هلع عنيفة، والخوف أعمق العوامل المولدة للتفسيرات غير العلميَّة للظواهر الطبيعيَّة، وإعطاب الأمن النفسي، وإهدار الشعور بالطمأنينة.
بعض المفكّرين والباحثين والإعلاميِّين أربكهم الخوفُ من كورونا، فبدأوا يتحدَّثون أحيانا كالمنجّمين والمشعوذين. في كلّ أزمة حضاريَّة ينشط المتنبّئون والعرّافون والمشعوذون، وكلّ منهم يرسم صورةً للمستقبل على شاكلة متخيله وأوهامه. وهو لا يعلم أن المستقبلَ تبتكره سلسلةٌ من العوامل المتنوِّعة والمتشعِّبة والمتداخلة، مثلما ترسمه الأقدارُ والمفاجئات غير المتوقَّعة، لذلك يخطئ في التنبُّؤ به كثيرٌ من الباحثين، والأكثر خطأً هم الزعماء السياسيّون الذين كشف هذا الوباءُ عن جهلهم وتخبّطهم وتهافت أقوالهم.
ومن هذه الظواهر تفشِّي أكاذيب وشائعات ودعايات، تنتجها جيوشٌ ألكترونيَّة متفرّغة لذلك، كلّ منها يبتغي تحقيقَ هدفٍ اقتصادي أو سياسي أو ديني أو غير ذلك، ومن أخطر هذه الأكاذيب على الرأي العام تلفيق أخبار وتقارير علميَّة مختلقة، ونسبتُها إلى جامعات عريقة كهارفرد وغيرها، أو مراكز أبحاث شهيرة، أو دوريّات أكاديميَّة رصينة، أو صحف شهيرة وذات مصداقيَّة جيدة. وعندما نعود للمواقع الألكترونيَّة لهذه المؤسَّسات المنسوبة إليها التقارير المختلقة، لا نعثر على مثل هذه الأخبار والتقارير.
ومن هذه الظواهر الاتِّهاماتُ المتبادلة بين الدول العظمى، خاصَّة الولايات المتَّحدة الأميركيَّة والغرب من جهة، والصين من جهة أخرى. والانقسامُ الذي استتبع ذلك في الرأي العام، خاصَّة في بلادنا، فالمولعون بالصين من اليسار الماركسي والقومي والديني يدافعون عن مواقف الصين في تعاطيهم مع الوباء وادارتها للأزمة، وينفون كل اتِّهام موجَّه إليها في نشر الوباء والتكتُّم على منشأ الفايروس، والليبراليُّون يدافعون عن المواقف الغربيَّة، واتِّهامات الولايات المتَّحدة المتنوِّعة للصين.
وبدأنا نسمع ونقرأ عن التلاعب بالجينات نقلا عمّن يقولون بذلك، ويكرّرون كلّ يوم هذه الحكايَّة بلا أدلة تُطمئِن من يطلع عليها. ليست لدينا معطياتٌ علميَّة موثوقة تؤكِّد أو تنفي ذلك، ويشدّد آخرون على إمكانيَّة حدوث طفرة وراثيَّة للفايروس.
لا يمكن الوثوقُ التامّ بأي خبر يتَّهم الآخرَ حول كورونا، مما تبثّه وسائلُ الإعلام الأمريكيَّة والغربيَّة والصينيَّة والروسيَّة اليوم، الا بعد التحقّق والتدقيق، وهذه قضيَّة لا يمكننا التحقّقُ العلمي منها، لذلك يتساوى فيها النفي والإثبات. فكما تمتلك أميركا مصانع بيولوجيَّة وأسلحة جرثوميَّة، روسيا والصين تمتلكان مصانع بيولوجيَّة وأسلحة جرثوميَّة، ويقول لنا خبراءُ الأحياء المجهريَّة إن التلاعبَ بجينات الفايروسات لا يتطلَّب تقنيات بايولوجيَّة نادرة واستثنائيَّة ومتقدِّمة جدا، بل يمكن أن يقوم بها الخبراءُ في مختلف بلدان العالم، ومعروف أن السلاحَ الجرثومي كحزام المتفجِّرات الناسف الذي يرتديه الانتحاري، فكما يَقتُل فيه الانتحاري غيرَه، يُقتَل هو فيه أيضا.
ومن هذه الظواهر ازدراءُ البعض في بلادنا للعلم الحديث، وتحميلُ التقدُّم العلمي مسؤوليَّة الكوارث الطبيعيَّة وتفشِّي الأوبئة. وكأن من يقول بذلك لا يعلم أن مشاكلَ العالَم لا يحلّها إلا العلم، ولم يمكّن الإنسانَ من الطبيعة، واكتشاف قوانينها وتسخيرها واستثمارها في إعمار الأرض، وجعل حياة الإنسان أسهل، إلا العلم، ولم يمكّن الإنسانَ من التحكّم بالآثار الفتَّاكة للكوارث الطبيعيَّة، والأمراض المُمِيتة والأوبئة، وكل ما يفسد الأرض، إلا التطوّرُ العلمي، والذكاءُ الصناعي، وبناءُ مجتمع المعرفة.
لسنا هنا بصدد الحديث عن أخلاقيَّات العلم، والقيم الضابطة للتقدُّم العلمي، والآثار الجانبيَّة السلبيَّة للتكنولوجيا، مثل: الانبعاثات الحراريَّة الفتَّاكة على المناخ، وتدمير الأرض، وإبادة التنوّع الحيوي، والتلاعب بالجينات، وغيرها. حضورُ القيم الأخلاقيَّة الموجّهة للتقدّم العلمي، وتفادي الآثار السلبيَّة الجانبيَّة للتكنولوجيا، ضرورةٌ تفرضها حماية الإنسان والأرض من آثارها المدمِّرة. القيم ضرورة لأنسنة الإنسان، الإنسان بلا قيم يخرج من إنسانيّته، ويتحوَّل إلى كائن متوحش مخيف.
عندما تمرض الأرضُ يمرض كلُّ شيء فيها. أتمنَّى ألا تكون البشريَّة هذه اللحظة على أعتاب نمطِ وجودٍ مختلف في العالَم، يتباطأ فيه التقدّمُ العلمي، أو يتقهقر فيفشل في إنجاز وعوده، التي كنَّا نحلم بأن تجعلَ معاشَنا أسهلَ وحياتَنا أجمل.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.