عندنا، وفي الآونة الزمنيَّة هذه، ومنذ مطلع الألفيَّة الثالثة، علت وتيرة التطرّف اللغوي، حيث هيمنت على هذا التطرّف المفردة الأمبرياليَّة، تلك التي تستعمر حرّيَّة الآخر وتلغي شرطه الإنساني وتحوّله، أي المفردة، بقوّة سطوتها الكونياليَّة، كائناً واقعاً في كمائنها الظلاميَّة.
هذه المفردة التي تحمل صفة الأنا العليا والنفوذ الكلامي، تسعى عبر الشائعة، أن تتغذَّى من الافتراءات والأباطيل ومن الخيال الشرس الذي يحاول أن يبطل الضوء الكامن في الآخر- الفرد المجرَّد من السلطة- هذه المفردة تظهر بقوَّة أمام الكائن الحرّ، لتحاصره ثمّ تدفعه وتزيحه من المتن إلى الهامش، لتطرده من مواقع الرحاب وطبائع النور إلى زاوية يستشري فيها الجبروت وطبائع القوّة ووسائل الاستبداد، هذه الوسائل الحافلة بالشيطنة الإنسانيَّة وأدواتها الناحية إلى كتم الكلمة المنيرة القابعة في الآخر، ابتغاءً في إخراس معناها وإطفاء الوهج الطالع من مقاصدها ورموزها وإشاراتها الدلائليَّة.
المفردة الإمبرياليَّة حين تنفلت من حقلها الأسود المسقي بفيضٍ لغوي متطرّف، تجاه كائن معيّن تقتله أو ترسم خلال مسارها صورة خياليَّة للمقتلة، أي أنّها تهيّئ للقاتل الأجواء الخاصَّة والطريقة التي سيتمّ فيها تصفية العقل المستنير صاحب الكلمة المنيرة.
هذا هو ما نلمسه الآن من مفردات تتّجه صوب مفكّرين وأدباء وشعراء لهم معيار جمالي كبير عبر منجزهم الإبداعي والفكري والجمالي كالحملة التي يتعرّض لها أدونيس بواسطة سيل جارف من مفردات التطرّف اللغوي، وهي ترسم صورة المقتلة، ملوّحة بسمّها المصنوع من لعان السيوف. إنّه السمّ الأزرق الذي هو حبر هذه المفردات ينطق بالقتل ويستعدي ويتّهم الرائي بالتمذهب والانحياز إلى ملّة وطائفة ذات بعد أقلّوي، وأنّ أدونيس ميّال إلى الهجس بشعلة هرمسيَّة باطنيَّة تقول بالابتداع والمشايعة، بينما هو في الحقيقة المحسوسة والمرئيَّة رائد ومن مؤسّسي عمليَّة الخلق الإبداعي العربي، ومن أشد أشياع الحداثة تنظيرا وكتابةً وإبداعاً، لا يهجس إلا بالتغيير والابتكار ومناصرة الجديد واختراع الأفكار المعاصرة التي دحضت في كتبه العديدة المنهج السلفي- الارتدادي عبر نظريّاته الأدبيَّة ونقده العلمي المنطلق من نظرة حديثة معاصرة، دحرت بمنهجها الفكري المتحوّل عقليَّة الثبات والرسوخ والتماثل.
وعوداً على بدء، تستطيع المفردة القاتلة أن تمحو مفكّراً ومبدعاً، مجرّد أن يأتي عقل شرير، يلتقطها من هذا الفيض اللغوي الطاغي والعنيف فيصبّها في عقل جاهل لم يقرأ نصّا في حياته، ليذهب مدفوعاً بعماه صوب شيخ جليل مبدع كنجيب محفوظ ليطعنه بسكّين كونه قال رأياً في جملة وردت على لسان إحدى شخصيّاته في مقطعٍ صغير من رواية، أو شنّ حملة شبه دمويَّة على مواقف الشاعر سعدي يوسف الذي قال كلاماً مخالفاً للسائد، مغايراً لعقليَّة القطعنة، ورأي الدهماء، حتّى انهالت عليه المفردات الدامية، متّهمة إيّاه بالنزوع نحو جهة مذهبيَّة يدافع عنها وهي من مكوّن آخر، بينما هو لم يكن يوماً في حياته العمليَّة سوى ذلك اليساري العنيد الذي أفنى جلّ حياته في محاربة المستبدّ منذ يفاعه وحتى شيخوخته الحاليَّة.
وكذلك هو الحال مع نصر حامد أبي زيد، مفكِّر إسلامي متنوّر ومتبحِّر في علومه وجريء في قول كلمة الحقّ، طالته هو أيضاً المفردات المميتة واتّهمته قسراً وعنوة بالإلحاد والخروج عن الدين وأسس الشريعة، بينما هو لم يقل في سلسلة منظوماته الفكريَّة والفقهيَّة والجدليَّة سوى بالرأي السديد، فهوجم بعنفٍ مريع وكُفِّر، وفق نهجٍ تأويلي وسلفي معتم، حيث عولجت الفكرة المضيئة بأخرى سوداء لتؤتي ثمارها، وترسم له النهاية الحزينة، أقلّها إبعاده إلى الجهنّم الجليدي للمنفى.