مقدِّمة:
لا يجهل عاقل ما حقَّقته المدرسة التونسية من نجاح، ولا ينكر إلا جاحد فضلها علينا جميعا، ولو شئنا إحصاء وجوه الفخر بمدرستنا لأعيانا العدُّ، ولكنَّنا إذ نستحضر كل ذلك ونعمل على أخذه بعين الاعتبار، نرى من الواجب التنبُّه إلى ما أصابها من وهن وما تسرَّب إليها من وجوه خلل جعلت الكثيرين يتحدَّثون عن موت المدرسة. وليس القول بدعة فقد سبق إليه كثيرون ساءَهم أن يروا سقف المدرسة يوشك أن يخرَّ على رؤوس جيل المستقبل، أو اعتقدوا أنَّ ضرر المدرسة كما عرفوها أكبر من نفعها، وأبرز هؤلاء إيفان إلّيتش (Ivan Illich)[1] ”صاحب المؤلَّفات الشهيرة مثل: “المدرسة هذه البقرة المقَّدسة” 1968 و ”لأي شيء تصلح المدرسة في أمريكا اللاتينية” 1970، و” مجتمع دون مدارس“ 1973[2]، وايفرت رَيْمر الذي نشر في أواخر الستِّينات كتاب “موت المدرسة” وهو يرى أنَّ المدرسة في بورتريكو حيث كان يعيش، أداة في يد الطبقات البورجوازيَّة لكي تحكم سيطرتها على المجتمع عن طريق تسييد ثقافتها وقيمها ومعاييرها.
ولمثل هذه الأقوال تردّد في أيامنا، وإن اختلفت الدوافع والمواقف الفكرية، فكثير من المفكِّرين يقرُّون بـ” موت المدرسة العمومية“[3]
ومن الأدلَّة على تعثُّر مدرستنا العمومية تطوُّر عدد المدارس الخاصَّة كل عام، فقد كان سنة 2010-2011: 109 مدرسة، وبلغ سنة 2015-2016: 324 مدرسة حسب إحصائيات وزارة التربية“[4]، وقد بلغ عدد الإعداديات والمعاهد الخاصَّة اليوم 280 مؤسَّسة، وبلغ عدد المدارس الابتدائية 96 مدرسة، كما ورد بوثيقة منشورة على الصفحة الرسمية لوزارة التربية.
في مقابل هذا التراجع لأداء المدرسة العمومية ننظر باندهاش إلى تحوَّل المدرسة في بعض البلاد المتطوِّرة من الإدماج في المدرسة إلى” المدرسةالحاضنة“[5] (De l’intégration à l’inclusion) ، ولا سبيل إلى استنساخ التجربة لاختلاف الواقع.
- شروط النجاح في مستوى التصوُّر النظري
1. اختيار الخلفيات النظرية والمقاربات المنهجية المواكبة لتطوُّر العلم والتعليم
لم يعد خافيا على المهتمِّين بالشأن التربوي خصوصا أنَّ المنوال السلوكيLe modèle behavioriste في التعليم قد وقفت سبيله، وظهرت عيوبه الكثيرة الناتجة عن تجزِئة التعلُّمات، والاكتفاء بركم المعارف، وتنمية بعض القدرات بدل بناء كفايات، إلى غير ذلك ممَّا بات من المسلَّمات، وكان من نتائِجه التعامل الشكلاني مع اللغة والأدب، وإهمال القيم وقتل الإبداع…[6]، فهذا المنوال الذي عمَّر ما يقرب من سبعين عاما وكان إلى عهدٍ قريب عنوان العلمية والموضوعية، وسبيل الخلاص من المنوال النقلي Le modèle transmissif ترك مكانه للمنوال العرفاني modèle cognitif الذي بدا الأنسب في التعليم والتأهيل للحياة، ومراعاة خصوصية الإنسان.
الحقيقة أنَّ العالم الغربي تنبَّه إلى هذه الحقائق منذ عقود، وغيَّر وجهة التعليم بدءا من السبعينات والثمانينات[7]، ومن الطبيعي أن يكون حلول تيار كامل يلوِّن جميع العلوم محلَّ تيَّار آخر على التدريج، ولكن رياح العرفانية لم تهبّ علينا إلا مع بداية الألفية الثالثة، فتأخَّرنا عن الركب عشرياتٍ في تغيير الرؤية إلى التعليم، ولجأنا إلى الترقيع والجمع بين متناقضات[8].
إنَّ المنوال العرفاني في التعليم الذي ينبغي اعتماده، منوالٌ يشتغل في شكل منظومة تتفاعل فيها العناصر المؤثِّرة في العملية التعليمية، ونحن في حاجة إلى إعادة النظر في هذه المنظومة في مراعاة لخصوصياتها حتى نجتنب ترقيعا في البرامج والمناهج لا يؤدِّي إلا إلى الفشل.
نحن في أمسِّ الحاجَّة أيضا إلى تغيير المقاربة المنهجية، والمقاربة كما هو معلوم ” أساس نظري يقوم على جملة من المبادئ التي تحكم الممارسة”[9]، وإلى إعادة بناء المحتويات وفق ما تقتضيه تعليمية كل مادة. وفي ضوء ما تقتضيه المقاربتان البيداغوجية والتعليمية الديداكتيكية يكون انتقاء الطرائق المناسبة للتنفيذ، ومن أهم ما نقترح في هذا المجال طريقة المقطع التعليمي الإدماجي.
نختم الحديث في هذا الشرط الضروري لإصلاح يثمر ويدوم بالإلحاح على وجوب أن ينهض بمهمَّة اختيار الخلفية النظرية وما يتفرَّع عنها من مناويل ومنهجيات وطرائق وإجراءات[10] خبراء مختصُّون في علوم التربية وفي التعليميات، محاطين بعددٍ من المختصِّين في كلِّ مادَّة، وبعددٍ من الفاعلين على الميدان، وكل إصلاح تربوي لا يقوده مثل هذا الفريق الذي يعود إليه وحده النظر في الخلفيات النظرية لا يُنتَظر منه تحقيق الأهداف المرجوَّة، ومن الطبيعي أن يتفاعل مع المربِّين أولا ومع مكوَّنات المجتمع ثانيا على صور ليس هذا أوان عرضها، ولكنَّها على أيَّة حال مختلفة عمَّا يجري به العمل في البلاد العربية.
2. ضبط الاختيارات السياسية الكبرى في ضوء واقع المجتمع وحاجاته وطموحاته
من المفارقات أن نبحث عن المنظومية مثلا، ونستورد وصفات جاهزة دون أن نكون على وعي بظروفنا المختلفة، وقد كان أولى بنا استيعاب مخرجات البحوث العلمية والتجارب التربوية، وتكييفها حسب واقعنا وخصوصياتنا، فبعض ما يلهث غيرُنا خلفه كان عندنا وتركناه، ثم عدنا نبحث عنه نسْجا على منوال الغير، ومن ذلك منظومة القيم مثلا التي وإن شكَت خللا في مجتمعنا، فإنَّه خلل مختلف عمَّا تشكوه المجتمعات الأوروبية، فمجتمعنا لم يعرف الطفرة الصناعية التي حوَّلت الإنسان شيئا قيمتُه في ما ينتِجه، ولم تطغَ عليه قيم الفردية على حساب قيم المجموعة، ونظريتنا النحوية على سبيل المثال لم تكن من جنس النحو الأوروبي قبل ثورة دي سوسير، وغير هذا كثير.
إنَّ الدعوة إلى مراعاة خصوصيات الواقع يؤكِّد قيمتها نجاح البلدان التي اتَّخذت خصوصياتها منطلقا، ولنا في تجارب اليابان وكوريا وماليزيا وسنغافورة[11] وغيرها، خير دليل، لأنَّ الإنسان لا ينشط إلا لِمَا يكون أصيلا دالا لديه وخصوصا في مستويات اللغة والثقافة وصورة الذات.
وممَّا يؤكِّد قيمة مراعاة الواقع والتعويل على الكفاءات والقدرات الوطنية فشل تجارب وُصِفَت بالقفز في الهواء في غياب رؤية واضحة تحكم الخيارات الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتدرك حقيقة حاجات المجتمع وطموحاته. ألم تفشل تجربة التعاضد عندنا رغم ما كان يُنسب إليها من مزايا، لأنَّ المجتمع لم يقبل بها؟ ألم تفشل تجربة التصنيع الجزائرية على قيمتها لعوامل تخرج عن التجربة في ذاتها؟ ألم تفشل تجربة الكفايات في التعليم عندنا وعند أجوارنا في الجزائر[12] والمغرب[13] وهي الخيار الأمثل إلى يومنا هذا عالميا، ولا نعرف مقاربة بيداغوجية أفضل منها؟ ألم يعمِّر إصلاح 1958 في تونس ثلث قرن عرفت فيه المدرسة التونسية أجمل صورها رغم أنها لم تكن تقدّم من المحتويات، ولا تتوسَّل من الطرائق والأدوات، ولا تعتمد من المقاربات أفضل ممَّا نعرف اليوم، والسرّ في ذلك أنَّ منتج المدرسة كان مستجيبا لحاجات المجتمع منسجما مع أهم خصائصه يومها.
إنَّ هذه الاختيارات الكبرى ممَّا لا يمكن أن يكون إلا محلّ اتِّفاق في المجتمع إن تعذَّر الإجماع، ولقد تبيَّن لنا من فحص مسيرة التربية في تونس أنَّ أزهى فترات المدرسة التونسية كانت تلك التي حظيت فيها اختياراتها بأوسع إجماع بين الفاعلين، وأنَّ مراحل التعثُّر ارتبطت في جميع المحطَّات بصراعات وتجاذبات بين عددٍ من مكوَّنات المجتمع. على هذا الأساس لا مناص اليوم من تعهُّد الاتِّفاق في الخيارات التربوية الكبرى مثل التعريب والمجانية والعمومية وملامح الخرِّيج، والآفاق المستقبلية ما يمكن التنبُؤ به منها وما يتعذَّر استشرافه… استنادا إلى النظر العقلي الذي يجيده العلماء والمختصُّون، ودون ارتهان للأيديولوجيات المتحجِّرة بأنواعها.
3. إعادة النظر في ملامح الخرِّيج في ضوء ملامح المتعلِّم اليوم
طفل جديد في مدرسة قديمة: ما العمل؟[14] هكذا عنوَن الزميل إبراهيم بن صالح مقالا صدر له منذ أكثر من سبع سنوات، ولقد تتبَّعنا مسيرة الدرس اللغوي على سبيل المثال في تراثنا البيداغوجي[15] وظهر لنا أن ما بدا لنا من التجديدات على امتداد عشريات لم يكن إلا تغييرات طفيفة ضعيفة الأثر، وترقيعات غير مؤصَّلة بيدغوجيا ولا تعليميا، على قيمة المحتوى المعرفي الذي انتقاه علماء اللغة عندنا من الجامعيين. والنتيجة أن مدرستنا اليوم قديمة، أمَّا تلميذنا فمتعلِّم بمواصفات جديدة، له كما يقول إبراهيم بن صالح حاصل ذكاء أرفع ممَّن كانوا في سنِّه من الأجيال السابقة، وهو حيوي جدا، يريد المعرفة السريعة، عبر قنوات تعلُّم ذكية… ولذلك لم تعد الكثير من المحتويات السابقة مناسبة له، ولم تعد طرائق التدريس ولا إطار التعلُّم، ولا وسائله ممَّا يلبِّي حاجته.
إنَّ طفل اليوم سيكون خرِّيج الغد وسيكون بمواصفات جديدة في عالمٍ يعسر أن نتنبَّأ بالصورة التي سيكون عليها نظرا لما نعرفه من ثورات تقنية ومعرفية وتواصلية لن تكون دون أثر اجتماعيا واقتصاديا، وقد وجب اليوم أن نتجاوز مرحلة كان يُزعم فيها تصنيع الاستجابات حسب المثيرات، أو صنع الشخصيات وفق ما حُدَّد من المواصفات، ونفتتِح مرحلة احترام الخصوصيات، وإعداد الشخصية للتفاعل إيجابيا مع ممكن المتغيرات.
لا مجال اليوم لأعباء عرفانية ترهِقُ المتعلِّم ولا تنفعه، وللعبء العرفاني تجليات في أربعة مستويات: مستوى الكمِّ الهائل من المعلومات الذي لا يحتاج المتعلِّم إلا بعضه حين يمتلك كفاءة تنميته حسب الوضعيات وحسن التصرف فيه، ومستوى إحكام الربط بين التعلّمات على نحوٍ يسهل استحضارها واستخدامها في الوضعيات المختلفة، ومستوى وظيفية ما يكتسب المتعلِّم، فلا مجال لغير الوظيفي الذي لا يعني في حياة المتعلِّم شيئا، ومستوى درجة التعقيد التي ينبغي أن تلائم قدرات المتعلِّم في ضوء نموّه البيولوجي ودرجة تحصيله[16]
لقد اتَّضح اليوم أنَّ المتعلِّمين لم يعودوا يقنعون ببرنامجٍ يُسطَّر ويُفرض عليهم جميعا، وإنما تقتضي ملامح تلميذنا المعلومةُ والمؤملةُ أن يصبح التعلُّم مشروعا لا مجرَّد محتويات مجزَّأة، على أن يكون مقسَّما إلى مقاطع كبرى تحقِّق الانسجام بين ثلاثية: المراحل العمرية، ومستوى التحصيل، والتعلُّمات المقترحة، ويقتضي هذا الرأي تفريد مسارات التحصيل، وتنويع المعارف وفق الحاجات والرغبات، والقدرات بعد تحقيق الحدِّ الأدنى المشترك في اللغة والحساب، وما به تُبنى كفايات الحياة مثل الإعلامية والتواصل، والقيم، ولا شكَّ أنَّ هذا التصوَّر يستدعي إعادة النظر في الزمن المدرسي، وفي المحتويات كمًّا ونوعا وتوزيعا وأهمِّية، وفي نظام التقييم على نحوٍ يجعلنا نتساءَل يوما عن معنى الرسوب، إذ الرسوب آليَّة فاسدة تمحق قسما من الأعمار دون فائدة، لأنَّ الأصل في التقييم أن يدفع إلى التمكُّن ممَّا لم يحذقه المتعلِّم بكيفيات مختلفة دون أن يكون ذلك سببا في إعادة سنة دراسية كاملة، وبعبارة أبسط نحتاج نظاما للتقييم يجعل التعلُّم مسارا متعدِّد المسالك، وكلما بلغ المتعلِّم الحدّ المطلوب في وحدة أو كفاية أو قدرة تجاوزها إلى ما يليها دون توقف أو رسوب يفرض إعادة تعلُّم ما تمَّ تعلّمه والتمكُّن منه، وفي الموضوع تفصيل يضيق عنه المقام.
4. سنّ قانون توجيهي للتربية في ضوء الحاجات والقدرات والطموحات
من المفارقات أن ينصَّ الدستور على التربية، وأن تُعدّ وثائق تنفيذية دون وجود نص قانوني، ومن عجب أنه بدل دسترة بعض المؤسَّسات الساهرة على التربية يُترك أمر التربية للأهواء والرغبات ولغير المؤهَّلين، ثمَّ ننتظر تقدُّما في الإصلاح وتحسّنا في النتائج. ولم يحدث في تاريخ تونس المعاصر أن شُرِعَ في إصلاح دون سند قانوني. فعدم صدور قانون توجيهي للتربية يؤكد أن المجموعة الوطنية لم تتفق بعد على مسار الإصلاح، ولم تجمع على ملامح لمدرسة الغد، ولم يلتقِ أبناء الوطن على كلمةٍ سواء تأخذ الخيارات الوطنية الكبرى، والاختيارات النظرية الأساسية بعين الاعتبار وكفى بهذا سببا للحكم على المسار بالفشل قبل أن يبدأ، ولا سبيل إلى التدارك فمنطق الأشياء يفرض ترتيبا معلوما لإجراءات التنفيذ.
5. رسم ملامح المحتويات التعليمية المناسبة للتعليم اليوم
تنهض المدرسة بالتعليم والتربية والتأهيل، وفي كل ذلك تلعب المحتويات دورا مهمّا يستدعي تعهدها كمّا ونوعا وتقييما دعما لوجاهتها وتطويرا لطريقة تعليمها.
ورغم قيمة كثير من المحتويات التعليمية ووجاهتها لأنَّ بعضها معلوم بالضرورة، ولأنَّ انتقاءها أوكل في كثير من الأحيان إلى ذوي الاختصاص، فإنَّ مضامين التعلُّم هذه في مدرستنا في حاجةٍ ماسَّة إلى مراجعة لتلافي مواطن ضعف فيها من أبرزها:
- كثير مما يُدرَس اليوم بات غير وظيفي بالنظر إلى ما حدث من تطوّرات علمية وتقنية واجتماعية، وفي ظل الثورة الرقمية التي وفَّرت ما لم يكن متاحا من المعارف والمعلومات، وجاءت بما لم يكن له وجود.
- لا مناص اليوم من تخليص المحتويات من غير الوظيفي، ومن التمييز فيها بين الأساسي الذي لا غنى عنه والتكميلي الذي يُستغنَى عنه ولا يعطِّل مسيرة التعلُّم. ولا مفرّ من تجاوز دفاع كل فريق عن محتوى اختصاصه، واجتهاده في إدراجه في جميع المستويات والحال أن ما يكون أساسيا في مستويات تعليمية يمكن أن يكون ثانويا في غيرها.
- لا مهرب اليوم من تخفيف المحتويات التقليدية حتى تترك مكانا لمحتويات أخرى جديدة، وحتى نجتنب خطر العبء العرفاني، على ألا يكون هذا التخفيف اعتباطيا يجريه من لا دراية له بتعليمية المادة حتى لا يُحدِث ثغرات في التكوين كما حصل في مناسبات سابقة.
- سدّ النقص الناتج عن إهمال ما يبني بعض الكفايات والمهارات التي احتلَّ مكانَها ركمُ معلومات غير وظيفية يتخلَّص المتعلِّم منها بمجرد انتهاء الامتحان.
- إعادة النظر في كيفية التعليم والتكوين وفق ما تقتضي المقاربة الجديدة المنسجمة مع المنوال العرفاني.
6. تأهيل الإطار التربوي، وإشراكه فعليا في الإصلاح
لا يشكو أغلب المدرسين نقصا في المعارف العلمية الضرورية للتعليم، بل لعلَّها تفيض عند بعضهم عن الحاجة، والكثير منها غير وظيفي، ولكنهم يشكون ضعفا فادحا في التكوين بيداغوجيا وتعليميا، ولا ذنب لهم في ذلك فأغلبهم يتخرَّج ويباشر التدريس وهو خالي الذهن تماما من هذه المعارف، ولا يكتسب شيئا من أسرار صناعته كما يقولون إلا عبر الممارسة وتجربة الخطأ والصواب، ومن خلال ما يسمع من المكونين الذين لا يختلفون عنه كثيرا في مستوى التكوين العلمي الأساسي، وهكذا يمضي المدرِّس سنوات يتعلَّم من أخطائِه، ويبني معارف بيداغوجية وتعليمية عبر سماع نتفٍ منها هنا وهناك، ولا يتمكَّن أبدا من بناء تصور شامل مؤسس علميا تأسيسا سليما، فيكون مثله كمثل من ذهب إلى أوروبا وتعلُّم لغة أجنبية بمخالطة أهلها، فكابد الأمرين في تعلمها ثم خُيّل إليه أنه تمكَّن منها والحال أن العارفين بتلك اللغة يعتبرونه ضمن العوامّ.
إنَّ تأهيل المدرِّسين، وعموم المربِّين مثل المرشدين التربويين وغيرهم في مرتبة ثانية، ليمثِّل أهم شرط لنجاح الإصلاح وتطوُّر المدرسة التونسية، ولا يتوقَّف أمر تأهيلهم على تمكينهم من معارف بيداغوجية وتعليمية، ولكنَّه يقوم على سلسلة من الإجراءات تبدأ بانتقاء أفضل الحاصلين على البكالوريا وتوجيههم إلى مؤسَّسات مختصَّة في علوم التربية والتعليمية فضلا عمَّا توفِّرهُ من دعمٍ للتكوين الأساسي في الاختصاص، ومدهم بما يجعلهم أطباء مختصِّين في علاج أدواء التربية والتعليم جميعها، ولا يكتمل ذلك إلا بمنحهم ما يضمن لهم المكانة الرفيعة في المجتمع في جميع المستويات المادية والمعنوية، ويطوِّر مكتسباتهم ويحولهم الفاعلين الحقيقيين في مجالهم، ويرفعهم عن منزلة التقني الذي يؤمر فينفِّذ. ولن نحتاج يومها ما نعرف اليوم من أشكال المراقبة والتفقُّد، وسيتوقف ما تعرفه المدرسة من هدر للأعمار والطاقات والأموال، ومن الطبيعي ألا يكون للمتهاونين أو المكتفين بالمجهود الأدنى مكان بين هؤلاء المدرسين.
إنَّ هذا الشرط على قيمته لا يمكن توفّره إلا على مراحل يتوازى فيها تأهيل القدامى على مراحل أيضا وفق خطَّة معيَّنة، وتكوين الجدد، ولن تنقضي سنوات حتى يكون إطار المدرسين على الصورة المثلى التي تليق به وترتقي بأداء المدرسة.
7. النظر إلى المدرسة جزءا من الواقع وميدانا للتدرُّب على الحياة الفاعلة
ظلَّت المدرسة العمومية قرونا معبدا منغلقا على نفسه، وبرجا عاجيا بعيدا كل البعد عمَّا يتفاعل في المجتمع، وقد يسَّر لها نهوضها بدور المصعد الاجتماعي في الدولة الحديثة خصوصا الاحتفاظ بهيبتها، فلمَّا تغيَّرت الأوضاع، وفاض منتجها عن حاجة المجتمع، ولم تستطع بضاعتها مواكبة التطوُّر حلَّ بها من نعرف اليوم.
إنَّ رؤيتنا إلى المدرسة تحتاج تغييرا عميقا يحولها من موردٍ للمعارف التي صارت لها موارد أخرى كثيرة، إلى حاضنة للتأهيل للحياة ورفع الأميَّات المختلفة: الأميَّة في القراءة، وفي التكنولوجيا، وفي التواصل مع الآخرين، وفي الإبداع بأصنافه المختلفة، وفي سياسة الذات… وينقلها من مكان لـ ”تعليم قيّم محصور في مؤسَّسة تبرمج عقولنا [هو الذي نسمّيه التمدرس] إلى مجالٍ أوسع للتعلُّم لا للتمدرس، ومشكل المدرسة التقليديَّة هو الخلط بين المدرسة والتعلّم“[17]
إنَّ هذه الرؤية الجديدة لتقتضي، كما سبق أن ذكرنا، تعديلا في الزمن المدرسي يحول التعلُّم مشروعا متكاملا يبدأ بما قبل المدرسة ويتواصل بعد مرحلة التعليم النظامية، وتنجز دروسه الحضورية بالمدرسة، وهي تشمل التعاقد الذي يرسم لكل من المعلِّم والمتعلِّم حدود واجباته ومهامّه، والتعرُّف الأساسي الذي يضمن الحدَّ الضروري من المعارف الصريحة والمنهجية كي ينطلق المتعلِّم في تنمية معارفه وبناء كفاياته، والتقييمَ الذي يعدِّل المسار ويسدُّ الثغرات، ولكن هذه الدروس الحضورية تُسبق ضرورة بضروب من الإعداد وتُشفع بصنوف من الامتداد تحوِّل ما يُتعلَّم بالمدرسة مجردَ مكوِّن من مكوِّنات التعليم والتكوين والتأهيل.
إنَّ هذه الرؤية للمدرسة تقتضي تطوير وسائل التعلُّم والتعليم ولن يبقى للقرطاس والقلم سوى دور بين أدوار أخرى لغيرهما، ويقتضي تعديل نظام الارتقاء فلا معنى للرسوب، ولا لنهاية سنة دراسية، ولا لمعدَّلٍ خادع، ولا لاستعراض معلومات غير وظيفية، ولا للمساواة في وضعية مفروضة تجعل جميع المتعلِّمين يتلقّون التعليمات نفسها في وقتٍ واحد وعلى صورة واحدة إلا في مراحل محدَّدة ومحدودة، أمَّا البنية التحتية التي يُنسب إليها اليوم جميع أسباب التعثُّر فمن المفيد تعهدها وتطويرها، لأن الدراسة في قاعةٍ مكيَّفة، وتوفِّرَ ما يُحتاج إليه من الوسائل، ممَّا يعين على التعلُّم والتعليم ولا ريب، ولكن هذا الشرط مجرَّد مكمِّل للشروط الأخرى وتحقيقه يسير متى انفتحت المدرسة على الواقع في نظامٍ غير مركزي، يمنحها جانبا مهمّا من الاستقلالية، ويفتح لها أبوابا لتنمية مداخيلها الذاتية، والمقترحات في هذا الباب كثيرة لكن ما ترسَّخ في الأذهان عن المدرسة يقيم حواجز بيننا وبين الاهتداء إليها.
- في مستوى التنفيذ
مثلما يكون التطبيق دون نظرية أعمى، فإنَّ النظرية دون تطبيق تكون عقيمة، وعلى هذا الأساس لا يمكن للتصوُّر النظري المعروض موجزا إيجازا شديدا ولكنَّه مؤصَّل في خلفيته النظرية العرفانية أنَّ يثمر ما لم يتبع بما ينقله من التصوُّر إلى التنفيذ، واعتبارا لما يقتضيه الزمن المخصَّص للمداخلة من إيجاز نكتفي بعرض الشروط العملية المهيِّئة للتنفيذ، وهي – متَّى تحقَّقت – كفيلة في نظرنا بالبحث عن سبل التنفيذ لما سبق عرضه في القسم الأول. ومن هذه الشروط الممهّدة للتنفيذ:
- انصراف الوزارة إلى تصريف الشأن اليومي، وتنفيذ الإصلاحات الجزئية، وسدّ منافذ الفساد الكثيرة، وترك أمر الإصلاح للجنة وطنية مستقلَّة استقلالا لا يمنع تفاعلها مع هياكل الوزارة، ولدينا من الأدلَّة ما نراه كافيا على صواب هذا الرأي، وإن كنَّا نعلم أنه سيجد معارضة شرسة من عموم هياكل الوزارة وموظَّفيها، ومن ذلك:
- – أنَّ كثيرين ممَّن يسيِّرون الوزارة اليوم لا يملكون من الاختصاص ومن الخبرة ما يؤهلهم للنهوض بالإصلاح في مستوى التصوُّر، ولا أحد منا يجهل أنَّ مشاغل الإدارة لا تترك للموظَّفين مجالا للبحث، ولا أحد ينكر أنَّ للتنظير أهله وللتنّفيذ أهله ولكلِّ مجالٍ قيمته.
- أنَّ الحفاظ على تصريف الشأن اليومي من الأهمّيَّة بمكان لاسيما ومواطن الخلل أكثر من أن تحصى.
- أنَّ استقلاليَّة من سيقوم على الإصلاح شرط للخلاص من جميع الضغوط ما علمنا منها وما لم نعلم.
- أنَّ انصراف مسيِّري الوزارة إلى الشأن اليومي لا يمنع الاستفادة منهم في يحتاجه الإصلاح، وسيكونون ولا شك عناصر أساسية في تطوير مدرسة المستقبل من موقعهم.
- تكوين لجنة وطنيَّة عليا من المختصِّين في التربية والتعليم لقيادة الإصلاح، ومتابعة التنفيذ، والتقييم، والتعديل، وقد علمنا من التاريخ أنَّ الإصلاحات التي نجحت قادها مختصُّون من الصفوف الأولى في مجالات علوم التربية والتعليمية ومختلف العلوم الأخرى، إذ لكل اختصاص دور معلوم ضمن منظومة متكاملة، ومن الطبيعي أنَّ اللجنة الوطنية العليا ستكون محاطة بحزام من الفاعلين التربويين من أصحاب الخبرة بالتعليم والإدارة وغير ذلك ممَّا له صلة بالتربية والتعليم، وستكون هذه اللجنة نواة المجلس الأعلى للتربية بهياكله المختلفة وليس وجودها اليوم إلا مرحلة انتقالية لغياب هذا المجلس المستقل.
- بناء خطة تنفيذية في ضوء الخيارات النظرية والاختيارات السياسية الكبرى. فلا يمكن الشروع في التكوين ولا في الإصلاح ممَّا لم تكن الرؤية في جانبيها النظري والتنفيذي واضحة.
- عرض الخطة على جميع الفاعلين في التربية والمجتمع والمصادقة عليها. فإذا كان أمر التفكير والبحث من شأن المختصِّين فإنَّ أمر الإصلاح لا يمكن يستثني أحدا من المهتمِّين بالشأن التربوي وخصوصا الفاعلين على الميدان من مدرِّسين وإداريين وغيرهم، وعلى هذا الأساس، فإن إشراك الفاعلين التربويين إشراكا فعليا في الإصلاح، والعمل على جعلهم منخرطين فيه انخراطا كاملا محدّدٌ لنجاحه.
- بعث مجلس أعلى للتربية والتعليم، يضمُّ هياكل متكاملة تنهض بمهامِّ التنظير والتدبير والمتابعة والتقييم والاستشراف، ولولا تأخَّرنا في الإصلاح لكان بعث هذه المؤسَّسة الدستورية سابقا لكل إجراءٍ آخر.
- إنشاء كليات تربية في ثلاثة أقاليم على الأقل، ولا يقلُّ هذا الإجراء أهمّية عن غيره فكليات التربية هي المؤسَّسات التي ستؤهِّل المربّين الجدد وتتعهَّد تكوين القدامى منهم، والمربُّون هم العمود الفقري لنجاح التربية والتعليم.
- الشروع في التنفيذ المرحلي في خطوات مترابطة، بإعداد توزيعية محكمة ولكنها مرنة تتضمَّن جميع الخطوات اللازمة، وتكشف ما يُحتاج إليه من الموارد البشرية والمادية، وتُعين على السير المتبصِّر في جميع مراحل الإصلاح.
[1]. إيفان إلّيتش: (1926-2002) ولد بفيانا وتوفي بألمانيا وعاش بأمريكا وهو سوسيولوجي أمريكي من أصول نمساوية، بدأ حياته كاهنا وأنهاها مفكِّرا في الأيكولوجيا السياسية ونقد المجتمع الصناعي، وهو يعتقد أنَّ التعلُّم هو الأصل، أما التمدرس فمظهر من مظاهر الاعتداء على حرّيات الأفراد، وهو يشعر الطفل بكونه نكرة لا رأي له.
[2]. .Gajardo (Marcela), Ivan Illich, texte tiré de: revue trimestrielle d’éducation comparée (Paris,:Bureauinternational d’éducation), vol XXIII, n° 3-4, 13 p 733-743,
[3]. حمداوي (جميل)، تطـــور التصورات التربويـــة في المغـــرب قديما وحديثا، ديوان العرب، 24 سبتمبر 2013
[4].المالكي (ناجية)، التعليم الخاصّ: أكثر من 200 مدرسة جديدة، أيَّة جدوى، الشروق، 14 سبتمبر 2016
[5] . Tremblay (Philippe), Inclusion scolaire – Dispositifs et pratiques pédagogiques, éditions de Boeck Éducation, 2012,;Cahiers pédagogiques, 18 avril 2013
[6] Legendre (Marie-Françoise) ;Approches constructivistes et nouvelles orientations curriculaires: d’un curriculum fondé sur l’approche par objectifs à un curriculum axé sur le developpement de compétences ; Facutté des sciences de l’éducation ; Université de Montréal ,
[7] DIOUF (Alioune Moustapha) et autres, Education scientifique, revue semestrielle , Association des profrsseurs de Sciences Naturelles du Sénégal, Volume n° 1,Septembre 1997, p 2-7
[8].انظر الصيغة التي اعتمدت في برامج المرحلتين الإعدادية والثانوية ضمن إصلاح 2002، وهي تركيبة هجينة جمعت بين منطلقات عرفانية ( الديباجة، الكفايات الأفقية وكفيات المجال، وكفايات كل مادة….) ومقاربة بيداغوجية سلوكية في عمومها.
[9] كردي (عبد العزيز)، في تعليمية العربية: المقاربة الإدماجية سندا نظريا، والمقطع التعليمي الإدماجي طريقة في التنفيذ، مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختصّ، ط1 2017، ص 160.
[10]انظر تفصيل القول في هذه السلسلة: تيّار/ نظريات/ منوال/ مقاربة / منهجية/ طريقة/ إجراء ضمن مؤلّفنا: في تعليمية العربية (المصدر نفسه) ص 164-166
[11] جعفر (عبد المقصود سالم)، الذكاءات المتعدِّدة وإسهاماتها في تطوير منهج التربية، تعليم جديد، 24-11-2015،. وفيه يقول إنَّ سنغافورة جاءت رقم واحد في التربية عام 2015 من بين 140 دولة، (والسر في ذلك) استناد التطوير إلى ثقافة وفلسفة تربوية نابعة من المجتمع نفسه، وإلى دراسة لنفسية المتعلم للوقوف على احتياجاته، وإلى دراسة علمية للمجتمع للتعرف على متطلباته. وهذه الأسس شاهدٌ جلي على نجاح التجربة السنغافورية، فقد اتكأت على فلسفة تربوية خاصة بها، واستندت على دراسة نفسية لأبنائها، فوفِقت لمعرفة احتياجاتهم، كما أنها وقفت على متطلبات المجتمع السنغافوري، وبذلك حدث التناغم بين تطلعاته التنموية ورؤيتها التربوية”
[12] لكحل (لخضر)، المقاربة بالكفاءات: الجذور والتطبيق، جامعة الجزائر 2 ، مجلّة العلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد خاص: ملتقى التكوين في التربية
وانظر أيضا: سلبيات التدريس بالمقاربة بالكفاءات، منتدى الإتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين UNPEF، الجزائر، 14-12-2010
[13] الفاتحي (عبـد الفتـاح)، محمّد الدريج: بيداغوجيا الإدماج لا يفهمها إلا المُوكَل له بتنزيلها، 25 فيفري 2012، موقع وجدة سيتي Oujda city
[14] بن صالح (إبراهيم)، ما العمل: طفل جديد في مدرسة قديمة، تورس، مقال نشر بجريدة الشعب يوم 1-06-2010، محرك تورس..
[15] كردي (عبد العزيز)، الدرس اللغوي في التراث البيداغوجي، ملتقى العربية، التفقّدية العامَّة للتربية، المركز الجهوي للتربية والتكوين المستمر بسوسة، 2006، مرقون
[16] Tricot( André), Charge cognitive et apprentissage.Une présentation des travaux de John Sweller, IUFM de Bretagne
[17] مجموعة محررين، إيفان إليش.. هل يمكن التفكير في مجتمع بلا مدارس؟ ميدان، 2017/6/30، http://midan.aljazeera.net/intellect/sociology/2017/6/30