قراءة في كتاب “جدليَّة المركز والهامش؛ قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان”

image_pdf

مقدِّمة:

يعتبر مخطوط كتاب * “جدليَّة المركز والهامش.. قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان” لصاحبه أبكر آدم إسماعيل ** من بين أهم النصوص التي تمَّ تداولها بشكل كبير في الشارع السوداني والعربي قبل أن تتحوَّل إلى كتاب، هذا المخطوط تمَّ كتابته سنة 1999 حينما كان الكاتب لا يزال طالبا، ويمكن اعتبار هذا النص بداية مشروع فكري. وهكذا فإن هذا النص له أهمّيَّة كبيرة لاعتبار أساسي هو الندرة في الكتابات التي تدرس الهامش وتفكّك الجدليَّة القائمة بين المركز والهامش في الحالة السودانيَّة، لذلك فمساهمة آدم إسماعيل كما يقول جعفر طه “هي واحدة من المساهمات في كتابة التاريخ، أو مساهمة نقديَّة متجاوزة وفي الحالتين لها قيمتها العالية حيث تعاني الكتابات السودانيَّة في هذا الجانب نوعيّا”[1]. بعد هذا التقديم، سنحاول في الأسطر القادمة محاولة تقديم ونقد أهم الأفكار التي طرحها آدم إسماعيل، وسنقسم هذه المراجعة للمحاور الآتية:

  • المقاربة المنهجيَّة لجدليَّة المركز والهامش.
  • مكانيزمات الصراع في جدليَّة المركز والهامش.
  • بنية الصراع في السودان.
  • إعادة بناء الواقع بشكل عام في السودان.
  • في التفاعل مع أطروحة آدم إسماعيل.
  1. المقاربة المنهجيَّة لجدليَّة المركز والهامش.

قام الكاتب بإجراء منهجي بالانطلاق من الثقافة (الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي) كشمول، وقد نظر الكاتب إلى الثقافة من زاوية محدّداتها (الأسريَّة، والتربويَّة والدينيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة واللغويَّة والاقتصاديَّة والقانونيَّة والسياسيَّة) باعتبارها المتحوّل، الثابت –بالمعني النسبي الإجرائي- وهذا ما تقوم عليه التراتبيَّة الاجتماعيَّة. وبنية التراتبيَّة الاجتماعيَّة هي كالآتي:

كما أن كل دائرة من الدوائر التي تشكِّل البنية التراتبيَّة تثوي في داخلها على عدَّة فئات، فالمركز ويتشكَّل من الحكَّام والوزراء والنبلاء أو الأرستقراطيَّة وما يرتبط بهم من زعامات رجال الدين. أمَّا هامش المركز فيتكوَّن من التكنوقراط والتجار ورجال الدين أو الحرس الأيديولوجي. وبالنسبة للهامش فيضم العامَّة (الرعاع) أي الجماهير الشعبيَّة.

  • مكانيزمات الصراع في جدليَّة المركز والهامش

تحليل آدم اسماعيل للصراع في السودان في المرحلة الممتدَّة من الاحتلال المصري العثماني 1821 إلى قيام الدولة المهديَّة 1885، يقوم على منهج جدلي (ديالكتيك) بين المركز والهامش، الذي يرتكز على العديد من المكانيزمات من جانب المركز ومن جانب الهامش. بالنسبة للمكانيزمات من جانب المركز هي كالآتي:

  • ميكانيزم إعادة الإنتاج: هو عمليَّة استيعاب الكيانات الأخرى وتربّيها بمعايير ثقافة المركز إذ تتحوَّل المحدّدات الثقافيَّة إلى أسلحة أيديولوجيَّة تفرض باستغلال أدوات السلطة، ومن ثم الهيمنة والقهر الثقافي وانعكاس ذلك اقتصاديّا في اختلال ميزان فرص العيش واجتماعيّاً في التماييز والتراتبيَّة الاجتماعيَّة القائمة على الفوقيَّة والاستعلاء (الدونيَّة الاجتماعيَّة).
  • ميكانيزم الترميز التضليلي: هو عمليَّة استيعاب بعض الزعماء وبعض الأفراد المتفوّقين في الهامش وإشراكهم في بعض المواقع في المركز وتسليط الضوء عليهم لإعطاء انطباع مزيّف عن المشاركة في مقابل منحهم امتيازات فرديَّة وأسريَّة وتغييب القاعدة الاجتماعيَّة/ الثقافيَّة، من جانب آخر إدخال بعض العناصر من محدّدات الثقافات الأخرى مثل الآداب والفنون في المناسبات الوطنيَّة وفي الخطاب الرسمي للمركز لإعطاء انطباع بالمشاركة لإخفاء حقيقة القهر الثقافي.
  • ميكانيزم الاستقطاب والقمع: في حالة استشعار كيان ما لذاته ورفض المعايير وتجلياتها في الواقع فإن المركز يقوم بالقمع المعنوي من خلال الأيديولوجيَّة والقمع المادِّي من خلال استعمال الجيش والشرطة.

أما المكانيزمات من جانب الهامش فهي كالتالي:

  • المقاومة السلبيَّة: وذلك بالتحايل على المعايير التي تفرضها السلطة والتذمُّر والتعبير عن الضيق عبر المأثورات الشعبيَّة والآداب والفنون او بالدعاء.
  • المحافظة: هي عمليَّة استشعار الذات في حلبة الصراع والإحساس بالظلم والسعي للحفاظ على كيان الجماعة الثقافي وذلك ببعض الوسائل مثل الروابط الاجتماعيَّة.
  • التنظيم: وهو عمليَّة تكوين التنظيمات ذات الصفة السياسيَّة بسبب الوعي بالظلم وبواقع الصراع، وذلك للمطالبة بتحسين الأوضاع أو المطالبة ببعض الحقوق، وفي المراحل المتقدِّمة تشكيل التحالفات للضغط على المركز ومحاولة تحجيمه إلى حدوده الطبيعيَّة.
  • الحرب الأهليَّة: تبدأ غالبا من قبل الكيانات الأكثر تناقضا مع المركز.
  • الثورة: هي درجة عليا من الوعي بالوجود والمصير الذي يؤدِّي إلى فعل تاريخي تشترك فيه أغلب الكيانات الممثّلة للشعب لهدم الجدليَّة كلها لإعادة تأسيس الأوضاع وفق جدليَّة أخرى بمعايير مختلفة وشكل اخر.
  • بنيَّة الصراع في السودان (الثابت والمتحوّل في الدولة السودانيَّة منذ عام 1821م)

منذ تأسيس الدولة المركزيَّة، ظلّ هذا الشكل ثابتا في الواقع والوعي، بالرغم من تغيير أنماط الحكم، ووسائل السعي للاستقلال عن هذا الشكل أو محاولات احتلال المواقع داخله. ثم إنَّ الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة هي التي ظلَّت تحتلّ المركز، في مقابل الهامش الذي ظلَّت تحتله الثقافات السودانيَّة الأخرى.

وظل الجلابة هم الممثّل الرسمي للثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، حيث أصبح لهم عمق اجتماعي واقتصادي وسياسي (الجلابة: هم تلك الفئة من التجار التي نشأت مع بداية الحكم التركي المصري، من أفراد ومجموعات من أبناء القبائل العربيَّة في وسط وشمال السودان، وبعض أفراد النوبيّين من شمال السودان المستعرب). كما أنّ التطور اللامتكافئ كان سمة ملازمة للمجتمع السوداني في ظلّ الاحتلال التركي – المصري (1821-1885).

  • إعادة بناء الواقع بشكل عامّ في السودان

بعد الاحتلال المصري – العثماني سنة 1921، تمّ إعادة بناء واقع جديد في السودان يتناسب مع المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة للمستعمر، لهذا فقد قام المستعمر بتكريس واقع اجتماعي والسياسي واقتصادي لهذا الجزء الجغرافي الذي سوف يسمَّى فيما بعد السودان، والكل يعلم أن السودان تاريخيا لم تكن وحدة سياسيَّة متجانسة بل كانت مجموعة من المماليك والقبائل المتفرِّقة، لكن الاستعمار هو الذي أعاد بناء الواقع السوداني بشكل يخدم أهدافه، وهكذا فقد أصبحت البنية التراتبيَّة للسودان، كآلاتي:

  • المركز: وتحتلّه قيمة الهرم الاجتماعي للكيانات العربيَّة الإسلاميَّة وبعض زعماء القبائل الغير عربيَّة في شمال السودان.
  • هامش المركز: ويشكّله (الأهالي) من الكيانات الإسلاموعربيَّة، بالإضافة للكيانات التي تشكِّل حقل الثقافة السودانيَّة المختلطة، والذين يمثِّل وضعهم الموالي في الدولة الإسلاميَّة: مثل القبائل النوبيَّة في شمال السودان، وقبائل البيجا في الشرق السوداني.
  • الهامش: وتحتلّه الكيانات التي تشكِّل حقل الثقافة السودانيَّة الأصيلة، وهي القبائل الزنجيَّة الذين كانوا الهدف لعمليَّة النهب التي كان يقوم بها تحالف الهمباتتة، حيث يعتبر الإنسان داخل هذا الحقل نوعا من الثروة مثله مثل الحيوان والسلع والمحاصيل.

 في الأخير أفضت التناقضات الهيكليَّة التي أفرزها الواقع الجديد (الممتدّ من 1821 إلى 1885) إلى تطوّر الوعي بالدولة لدى المكوّنات التي شكَّلت الدولة الوطنيَّة السودانيَّة فيما بعد، وقد نتج على ذلك انشراخ تحالف الهمباتة[2] الذي كان يركِّز الثروة والسلطة في يد كبار الجلابة.

خاتمة: في تفاعل مع أطروحة آدم إسماعيل

بعد تقديم هذه الصورة البروناميَّة لأهمّ الأفكار التي جاءت في كتاب “جدليَّة المركز والهامش – قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان”، يمكن القول إنَّ آدم اسماعيل استطاع أن يساهم في خلق تيَّار جديد يهتمّ بقضايا الهامش، فقد جعل من كتابه الذي قمنا بالقراءة فيه وروايته “الطريق إلى المدن المستحيلة”، مرافعة فكريَّة وأدبيَّة عن المهمّشين في القرى والمداشر والمدن في الأطراف، لهذا فإن المشروع الفكري لآدم إسماعيل هو بالأساس مشروع للمقاومة والنضال في أفق إعادة بناء واقع جديد في السودان.

لكن آدم إسماعيل وقع في فخ منهجي وهو الحشو، فقد كان بإمكانه إلا يذكر العديد من الأمور النظريَّة التي في اعتقادي لا فائدة منها، فالقارئ السوداني أو العربي ما يهمّه هو كيف قام آدم إسماعيل بمعالجة واقع الصراع في السودان من خلال منهج جدليَّة المركز والهامش، فمثلا، حينما يتحدَّث آدم إسماعيل عن الليبراليَّة والماركسيَّة والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة…إلخ، قد يجعل القارئ يتيه عن الموضوع الأساسي، لذلك كان على الكاتب أن يخصِّص مدخل مفاهيمي لا يتجاوز بضع صفحات وليس أكثر من ثلث الكتاب للحديث عن المفاهيم المحوريَّة في البحث. كما أنّ الكاتب اعتمد فقط على نصوص كتاب محمد سعيد القدال الموسم بـ”تاريخ السودان الحديث 1821-1955م”، وفي اعتقادي أن السبب في الاختيار هو الانتماء الإيديولوجي للكاتب، فهو يعتمد على الماديَّة الجدليَّة في تحليله وهو نفس المنهج الذي حلل به محمد سعيد القدال، هذا ما يطرح علامة استفهام حول موضوعيَّة الكاتب.

في الأخير إنَّ أطروحة آدم إسماعيل رغم كل الانتقادات تظلّ أطروحة مركزيَّة لمن يبحث في القضايا الهوياتيَّة، ويمكن إسقاط المنهج الذي حلَّل به آدم إسماعيل الوضع في السودان على العديد من المناطق في الوطن العربي وخصوصا منطقة المغرب الكبير، فبنية هذه المناطق تشبه إلى حدٍّ ما مع بنية السودان.


* أبكر آدم إسماعيل، “جدليَّة المركظ والهامش- قراءة جديدة في دفتنر الصراع في السودان”، الطبعة الثانيَّة، (منظمة حقوق الإنسان والتنميَّة، الخرطوم، 2015).

** كاتب وباحث وناشط سياسي سوداني، صدر له ثلاث روايات هي: الطريق إلى المدن المستحلة (2004)، أحلام في بلاد الشمس (2001)، والضفة الأخرى (2004).

[1] من مقدمة الكتاب، ص 5.

[2] الهمباتة: تعني نهب وسلب الإبل دون سواها، والهمباتة هم الرجال الذين يمارسون عمليَّة نهب الإبل، ومفردهم همباتي واللفظ مأخوذ من لهجة عرب غرب السودان.

جديدنا