مدخل:
الفلسفة والدين فضاءان معرفيّان منفصلان بالمعنى الأخصّ، فلكلّ منهما أسسه ومفاهيمه ذات الدّلالات الخاصّة، كما أنّ لكلّ منهما منطلقات وأصول تحدِّد ماهيته، وهما لا يتناقضان، على اعتبار أنّ كلّا منهما لا يمكنه إقصاء الآخر من ساحات المشترك المعرفي والمعنوي بينهما، ذلك المشترك المعتمد على العقل في الكثير أو القليل من المباني. أمّا انفصالهما فمن حيث المصدريَّة، لأنهما مختلفان، فالفلسفة مصدرها العقل ومتعلّقاته، بينما الدين مصدره الوحي بما يعنيه من تعالي المصدريَّة، وهو يعتمد أساسا على النقل، ويتّخذ من الوحي أساسا ومستمسكا ودليلا، لترسيخ المعتقدات وبنائها، وهذه هي حقيقة لاهوت الوحي.
وعلى اعتبار أنّ العقل هو مقتضى الاشتراك بينهما، فإنّ الدين في أهمِّ مباحثة وهي الإلهيَّات بالمعنى الأخصّ، أي وجود الله تعالى، وتوحيده، وصفاته، وأفعاله، وكلّ المسائل التي تسمَّى “أصول الدين”، وما تفرَّع عنها أو ارتبط بها من مباحث أخرى، يتوسّل بالفلسفة وغيرها من العلوم كآليات للتحليل والفهم، ولا يستمدّ هذه الأصول من أيّ علم كان. وعليه فقد كانت الإلهيات الطبيعيَّة تعتمد المناهج العقليَّة في تبيان وصياغة مبحث الإلهيَّات بالمعنى الأعم، والبرهنة عليها، وتعتبر العقل قادرا على إمكانيَّة الاستدلال على هذه المعتقدات دون حاجة إلى الوحي وحججه.
وبالنسبة إلى عدم تناقضهما فكامن في كون الأساس والموضوع والغاية في كلّ منهما هي في الوجود بما هو موجود، أي البحث في أحوال الوجود المطلق أو الإلهيَّات بالمعنى الأعم، وهو بحث يفضي إلى معرفة الله تعالى تحت عناوين العلّة الأولى أو المحرّك الذي لا يتحرّك أو واجب الوجود أو الوجود المستقل. وهذا اشتغال ضمن السياق العام للبحث العقلي في الفلسفة والدين. وثانيا أنَّ الفلسفة تعتمد على الأساس الفطري بوجه من الوجوه، إنَّ في مستوى المبادئ الفطريَّة أو البديهيَّة للمعرفة التي لا شكّ في صدقيّتها. كذلك الوحي هو صادق على اعتبار مصدريّته المتعالية التي يصعب نفيها بالقطع والدليل.
تأسيسا على ذلك تواصل هذا المشترك في التفاعل حتى اكتمل في مسمَّى اللاهوت الطبيعي، وهو تلك الرؤية الكونيَّة بكل ما فيها من مفاهيم ودلالات ورؤى للعالم والإنسان في فردانيّته واجتماعيته، تلك الرّؤية المؤسّسة من خارج نطاق الوحي والملتصقة بمصاديق في عالم الذهن وفي العالم الخارجي.
فمع تعدّد مواضيع البحث وتعقّدها، بدءا بالمفاهيم الأساسيَّة الضابطة للتعاريف في مباحث الفلسفة واللّاهوت، وصولا إلى مناهج البحث المختلفة، وتوظيفها في كلا الموضوعين، تتباين الرّؤى والنتائج، لكنّ الحاسم هو أنّه عند الاختلاف والتناقض أو التضاد يسرع المتألّه والمتفلسف في الدين إلى البحث عن الخطأ في الفلسفة، على اعتبار أنّ القصور عادة ما يطرأ على العقل، إمّا في فهمه وقراءته، أو في تأويله للنصّ، ممّا يجعل سلطة المقدَّس في منأى عن الشكّ والقصور.
لقد تمّ َالبناء الماهوي لـ “فلسفة الدين” في صيغتها التي عليها اليوم، ضمن تطوّر «سياق ونسق الفلسفة الغربيَّة الحديثة، بدءا بـ “القديس توما الإكويني” (1224 ـ 1274) و “بنيدكت سبينوزا” (1632 ـ 1677) و “إيمانويل كانت” (1724 ـ 1804) وصولا إلى “هيغل” (1770 – 1831) وإن كانت مبانيه ترتكز على فلسفة الروح المشروطة بتحقُّق الفكرة المنطقيَّة والطبيعيَّة وما يتولَّد عن ذلك ضمن سياقات الجدل المركّز في فكرة “الدين” و”الفلسفة” و”الفن”، أي في مساحات “الحسّ (الفن) والرمز والمجاز (الدين) والفكر المجرَّد (الفلسفة)، لكن ما طرحه هؤلاء الفلاسفة شهد انعطافا حادّا مع ” فويرباخ” (1804 ـ 1872) تلميذ “هيغل”، الذي أعاد كلّ إلى علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، حيث أصبحت حقيقة الأشياء مرجع وجودها وتحقّقها هو الإنسان، ثم جاء “ماركس” (1818 – 1883) ونقد طرح “فويرباخ” المتعلّق بفهمه للاغتراب الديني والإلحاد، وضبطه لحقيقة الإنسان، وفصله بين الطبيعي والاجتماعي فيه، كما أسقط فهمه للديالكتيك الذي اعتبره مفرغا من الديناميكيَّة.
أمّا ” فردريك نيتشة” (1844 ـ 1900) فقد كان الأشدّ عنفا في قلب المفاهيم جذريّا وإعطائها دلالات جديدة تنمّ عن رفض حدّي للمعهود، او حتى المستحدث منها، فتحت ضربات “مطرقته” تفتّتت كلّ العبارات التقليديَّة وأحدث انطلاقة جديدة بعد أن فكَّ العقل من عقاله وقيوده الموهومة، متأثّرا في ذلك بأفكار “شوبنهور” (1788 ـ 1860) حول الدين واللاهوت.
وهكذا بقيت قضايا الدين واللاهوت مدار اهتمام الفلاسفة وفلسفتهم حتى هذه اللحظة، فالوضعيَّة المنطقيَّة والتفكيكيَّة والوجوديَّة والبنيويَّة والفلسفة التحليليَّة، لازالت تحافظ على زخم موضوع الأنطولوجيا وما يتَّصل بالميتافيزيقا، ودراسة الظواهر الدينيَّة، على ضوء المناهج الحديثة وتحليلها لغويا، وهرمنيوطيقيا، ونفسيا، وأنثروبولوجيا، واجتماعيا، والكشف عن منابعها وتمثّلاتها وتعبيراتها المتنوّعة في الحياة البشريَّة. والتوسُّع في دراسات مقارنة الأديان، والتعرُّف على منابعها المشتركة، وجوهرها الواحد، وما تنشده من غايات، ببناء كون قدسي يمثِّل مأوى للإنسان، والكشف عن الوشائج العضويَّة بين المقدّس والمثيولوجيا في حياة المجتمعات البشريَّة»[1].
لقد كانت أوّل تسميَّة لـ “فلسفة الدين” بالمفهوم الحدِّي، واعتماده للدّلالة على مجال فلسفي مستقلّ ومنفصل في المنهج والموضوع، بداية القرن التاسع عشر مع الفيلسوف الألماني ” هيغل”، أوّل المتصدّين للبحث فيه، في كتابه الموسوم بـ “محاضرات في فلسفة الدين” المنشور سنة 1832م.
«إنّ بداية الدين – على نحو مماثل لمحتوى الدين بصفة عامَّة – هي التصوّر الذي لم يتطوَّر بعد للدين نفسه، ألا وهو أنّ “الله” هو “الحقيقة” المطلقة، “حقيقة” كل شيء وأنّ الدين وحده هو المعرفة الحقّة بشكل مطلق. وهكذا علينا أن نبدأ المحاولة.
وبالنّسبة لنا نحن الذين من قبل نمتلك الدّين، فإنّ ماهيَّة “الله” ـ هي شيء نحن على ألفة به ـ حقيقته الجوهريَّة ماثلة في وعينا الذاتي. ولكن إذا ما نظرنا للمسألة من الناحية العلميَّة فإنّ “الله” هو أوّلا اسم مجرّد عامّ، وهو حتى هذه اللحظة لا يكون قد تأتّى أن تكون له قيمة حقيقيَّة بعد. وذلك أنّ (فلسفة الدين) التي هي التكشّف، والتي هي الاستيعاب (لله) موجودة، وعن طريقها فحسب تكون معرفتنا الفلسفيَّة بطبيعة (الله) قد تمّ التوصّل إليها. إنّ (الله) هو الفكرة المعروفة تماما والمألوفة، إنّه فكرة هي ـ على أيّ حال ـ لم تتطوَّر بعد علميّا ولم تُعرف بعد علميّا.
والآن وقد أشرنا إلى هذا التطوّر والذي له تبريره في العلم الفلسفي نفسه فإنّنا ـ لكي نبدأ ـ سوف نتقبَّل عبارة بسيطة عن واقعة هي التّأكيد على أنّ نتيجة الفلسفة هي أنّ “الله” هو “الحقيقي” المطلق “، “الكلّي” في ذاته ولذاته، المحيط بالكلّ، الحاوي للكلّ، والذي فيه يستمدّ كلّ شيء كيانه. وبالنّسبة لهذا التأكيد يمكن أن نستجيب أيضا في المقام الأوّل للوعي الديني، حيث نجد القناعة بأنّ “الله” هو في الحقيقة “الحقيقي” على نحو مطلق والذي منه ينطلق الكلّ والذي إليه يعود الكلّ والذي عليه يتوقّف كلّ شيء، والذي بجانبه ليس لأيّ شيء وجود حقيقيّ قائم بذاته مطلق. هذا إذن ما يُشكل البداية.
هذه البداية من الناحية العلميَّة ـ لا تزال مجرّدة ـ إنّ القلب الذي يمتلئ امتلاء كاملا بهذه الفكرة، وبالإضافة إلى هذا ففي العلم لا يكون الأمر بما في القلب ممّا علينا أن نفعله، بل بما يعدّ قطعيّا كموضوع للوعي، وبدقّة أكبر للوعي المُفكّر الذي يرقى إلى شكل التفكير. إنّ إعطاء هذا الامتلاء شكل التفكير، شكل الفحوى هو العمل الخاصّ لفلسفة الدين.
1/ إنّ البداية كتجريد، كمحتوى أوّلي، الكلّيَّة تحديدا بالاسم لها ـ كما هو الحادث بالفعل ـ الوقفة الذاتيَّة وهذا يتضمّن أنّ “الكل” هو كلّي بالنّسبة للبداية وحدها، ولا يستمرّ في هذه الحالة من الكلّيَّة. إنّ بداية المحتوى هي نفسها أن ندركها على نحو أنّ هذا “الكل” ـ وهو لا يزال في كلّ التطورات اللاحقة لهذا المحتوى ـ سوف يُظهر نفسه على أنّه عينيّ بشكل مطلق، على أنّه غنيّ في المادَّة وممتلئ في المحتوى، وفي الوقت نفسه لا نتجاوز هذه الكلّيَّة، وأنّ هذه الكلّيَّة ورغم أنّنا بشكل مّا نخلّفها في الوراء إلى المدى الذي يعبأ به الشكل طالما يطرأ عليه تطوّر محدّد، ومع هذا يتمسّك بوصفه على أنّه أساس دائم مطلق، وليس علينا أن نأخذه على أنّ مجرّد بداية ذاتيَّة».[2]
لقد كانت “فلسفة الدين” بما هي موقف فلسفيّ صريح، أو ضمنيّ من الدين، مطروحة منذ بدايات التفلسف المعبّر عن نضج وعي الإنسان، ذلك أنّ الدين هو من زمن الوعي أي زمن الفلسفة بالمعنى الأعمّ وبحثها في الوجود بما هو موجود.
عادة ما يُشكّل معرفيا البحث في بدايات الأشياء من حيث انقداحها في الذهن، وكيفيَّة تحوّل الفكرة المُنقدحة إلى أسئلة ابستيميَّة، وكذلك تحوّل المعرفة من ساذجة إلى معرفة ذات حكم عقلي معتبر ويتمّ البرهنة عليها، وتخضع للقواعد المنطقيَّة. فالله تعالى هو الفكرة المتكاملة منذ البدء، وباستثناء فكرة “الله تعالى” فإنّ “علم الكلام” و”فلسفة الدين” حرّكا كلّ المفاهيم المتَّصلة بالدين، واشتغلا عليها حتى أصبح النّاتج المعرفي نتيجة وقع تحصيلها من نتائج سابقة، بمعنى أنّ أغلب المفاهيم الأخرى باستثناء مفهوم “الواحد” هي مفاهيم تطوّرت بفعل التراكمات المعرفيَّة، والمماحكات الكلاميَّة والجدل الفلسفي.
إنّها في الحقيقة مفاهيم متولّدة عن “الواحد” و”الوحدانيَّة” وتكتسب ماهيتها منه، ولا تصمد من دون ثبات وأوّليَّة مفهوم “الله تعالى” ويمكن القول إنّها مفاهيم اعتباريَّة، انتزاعيَّة في مقابل أصالة مفهوم “الواحد”، وربّما كان ذلك وراء سبب اعتبار وحدة للأديان، وأنّه لا اختلافات جوهريَّة بينها من حيث الأصول، وإنّما الاختلافات تولَّدت عن فهم العقول وتأويلها وشرحها لأصول الدين، فكما هي التباينات بين رأيين تتصعَّد لتكتسب صورة الاختلاف المذهبي الذي بدوره يتصعَّد ليكتسب صورة الاختلاف في الدين.
وهذا لا يصدق على النبوّة باعتبارها لطفا ورحمة واصطفاء الهيّا، فليس من الممكن نفي “النبوة” أو التلاعب بموقعها الوجودي، لأنّ ذلك يُفقد البحث في “الدين” قيمته ويصبح أمرا عبثيّا، حيث يصبح من المحال البرهنة على أمر مّا أو قضيَّة ما من قضايا الدين.
إنّ تلك المفاهيم الأوّليَّة والمُقوّمة لأيّ دين، تُكتسب من إنباء النبي أوّلا، ثم تتَّخذ طابعا ابستيميّا مع انشغالات العقل بها فتتحوَّل إلى مباحث معرفيَّة تمثّل فهما مّا للوحي في أبعاده الاجتماعيَّة والنفسيَّة والأخلاقيَّة.
في المفهوم:
لقد كان البحث الدائم عن مساحة مشتركة بين حقيقة الإيمان ومنطق الفلسفة هو المعبّر عنه بـ “فلسفة الدين”، وإذا ما اعتبرنا العقل معبّرا عن الفلسفة في كلّيتها فإنّ الدين يمتلك من المشترك المعرفي والمفاهيمي ما يجعله يتقاطع في موضع ما مع الفلسفة، وهو ما كان موضوع بحث واهتمام العديد من فلاسفة الشرق والغرب، ورغم التباين والاختلاف في المعتمد من المناهج والمفاهيم وكذلك مادّة الموضوع فإنّ الكثير من مدوّنات هؤلاء الفلاسفة أظهرت مزيجا من الديني والفلسفي إلى حدِّ التماهي، بدءا من الفلسفة اليونانيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة والإيرانيَّة الفهلويَّة والهنديَّة والصينيَّة، واستمرّ التداخل بمستويات مختلفة حتى عصرنا الحالي. وهو ما يبرِّر وجود نفحات دينيَّة في العديد من الخطابات الفلسفيَّة، وكذلك وجود مفاهيم وانشغالات فلسفيَّة في الخطابات الدينيَّة.
وتعدّ “فلسفة الدين” مصطلحا جديدا في الفكر العربي والإسلامي المعاصرين، فقد دخل أخيرا ميدان التّداول الفلسفي ـ وإن كانت مسائله قديما محلّ بحث وتحقيق ـ وقد راج هذا المصطلح بقوَّة في الفترة الأخيرة حيث ظهر صرح “علم الكلام الجديد”، فشقّت “فلسفة الدين” طريقها إلينا ككيان مستقل له هويته المميّزة، وظهرت كتابات عديدة تبحث في مسائل شتّى تحت عنوان فلسفة الدين، لكن بقيت الحاجة أوّلا وتحت ضغط الإلحاح المنهجي إلى معرفة معنى ومفهوم “فلسفة الدين”.
ويجتهد الاتّجاه العام للفلسفة في ضبط وتحديد مفهوم “فلسفة الدين” ورسم مسار مباحثها وبالتالي التدخّل في تحديد ماهيَّة الدين قد تتناقض مع الماهيَّة الوحيانيَّة. لكنّ هذا الأمر يبدو ساذجا عقلا ومستعصيا مسلكا، لأنّ الأسس التي تقوم عليها “فلسفة الدين” تتفرّد من حيث موضوعاتها ومفاهيمها، وتشترك مع الفلسفة بالمعنى الأعمّ في كونها نمط من التفكير والنشاط العقلي.
من غير المستبعد أنّ تكون الفلسفة ناشطة في محاولة التخلّص من التّراكمات الكلاميَّة التي التصقت بالدين، مع وعي تامّ بأنّ حضورها تاريخيّا كان باهتا أمام هذه السيطرة الموغلة لعلم الكلام القديم، وتفرّده في ضبط مباحث الالهيات تحديدا، واليقين بحقيقة أنّه أصبح عاجزا عن مسايرة الواقع وعلومه المستجدّة، وهنا تتقاطع من جديد مع “علم الكلام الجديد”، في ضرورة القطع مع “علم الكلام القديم” في أغلب رؤاه حول حقيقة الدين، لكن تبقى خصوصيَّة المنهج الفلسفي محدّدة لمستويات التّماهي، وراسمة لحدود التّباين والاختلاف بينهما.
ليست “فلسفة الدين” سوى «ممارسة التفكير الفلسفي في الدين، فبعد أن يقدِّم الدين منظومته يأتي دور الفلسفة لتمارس فعلها في المنظومة الدينيَّة، فتُعمل منهجيتها في الدين ومعطياته، فالدين يقول مثلا – إنّ هذا المعطى المعرفي يملك هويَّة دينيَّة، فيأتي دور المنهج الفلسفي ليطرح أسئلة عدَّة حول ماهيَّة المعطى الديني، وغائيَّة وجوده، والنتائج التي تترتّب عليه …، فيجري البحث تحت عنوان فلسفة ذلك المعطى الديني»[3].
تختلف “فلسفة الدين” عن “الفلسفة الدينيَّة” من حيث كونها تسعى لمناقشة الأسئلة المتعلِّقة بطبيعة الدين كدين وحياني، بدلا من مناقشة وتحليل ما أُشْكل من المباحث العقديَّة ضمن نظام إيماني، أو معتقد معيّن وإخراجه إخراجا فلسفيّا من حيث اللغة والبناء باعتماد ألفاظ ذات معان ودلالات خاصة بالخطاب الفلسفي، وعادة ما تتحدّث “فلسفة الدين” وهي البحث الفلسفي في مجال الدين عمّا يتعلَّق بشؤون الدين: منشأ الدين، ضرورة الدين، حقيقة الدين، أهداف الدين، المعرفة الدينيَّة، واقعيَّة القضايا الدينيَّة، إلى غيرها من المباحث الفلسفيَّة المتعلقة بفلسفة الدين والمائزة لها عن علم الكلام»[4]. كما تتمايز (فلسفة الدين) عن الدين ذاته، مثلما تتمايز فلسفة العلوم عن العلم ذاته، كما أنّها لا تهدف إلى أن تحلّ محلّ أصول الدين، أو نتاجات المتكلّمين، أو أن تمتهن الإرشاد أو البحث في الأحكام الشرعيَّة والأسس الخلقيَّة التي جاء بها الدين، لكنّها تسعى إلى محاولة جرح المفاهيم الحدّيَّة للدين الموحى بها، وأيضا لمجمل المعتقدات التقليديَّة، في بعدها الكلامي أو الفلسفي التبريري والمبتور، ففلسفة الدين تخضع كلّ المفاهيم التأسيسيَّة والاعتقادات إلى النقد العقلاني الموضوعي والواقعي. فلسفة الدين هي تناول جديد للدين بعيدا عن التناول التقليدي للمتكلّمين والمؤدلجين المتمذهبين، كما أنّها تتباين وخطاب الفقاهة الغارق في تفريعات الأحكام، وسميوطيقيَّة معنى “تحصيل الظنّ بالحكم”، الذي ينطلق من كونه حكما اجتهاديّا ليصير في النهاية مسألة توقيفيَّة مقدّسة على الأغلب، حتى انحصرت أغلب المدوّنات الفقهيَّة في الاجتهاد ضمن المذهب الفقهي لمدة طويلة من الزّمن.
لقد تساوى في ذلك تقريبا اجتهادات الفقهاء ومقالات المتكلّمين على الأقلّ داخل المذهب الواحد، فقد لبسوا لبوس القداسة، واكتسبوا الحصانة من النّقد والتجريح في أغلب المساحات التي يحاول الباحث اقتحامها ومراجعتها أو التجديد فيها، بنسب متفاوتة.
إنَّ تصوّرات الفلاسفة للدين كثيرا ما تتقاطع، وتبرز عناصر الوحدة على أساس الرّؤيَّة المقاصديَّة والغائيَّة التي تنشد تفعيل المبادئ والقيم الدينيَّة، وترسيخ المفاهيم العقديَّة وجعلها ضمن دوائر العروض العقلي للإنسان. فلم تكن تصوّرات الأعلام منهم مقتصرة على دين معيَّن بل كانوا يبشِّرون بدين كوني [5]أو ما اصطلح عليه بـ “الدين الطبيعي” وهو البحث حول الدين العقلاني أو الطبيعي، ودراسة مبانيه القائمة بالأساس على أدلّة عقليَّة على وجود الله وعدم الاهتمام استدلاليا بالأدلّة النّقليَّة، ولذلك علّتان إحداهما مزيد من إحكام الاستدلال العقلي على مقوّمات اللاهوت أو أصول الدين والإمساك بمستمسكات يقينيَّة، تدحض هواجس الشكّ. وثانيهما تجاوز القراءات المتهافتة والسّاذجة في تفسيرها أو تأويلها لهذه الأصول العقديَّة.
إذن إنّ هذا النشاط الفكري هو مراوحة بين دلالات الأعمّ والأخصّ في مفهوم الدين ومبانيه، إنّه نشاط ذهني في ثنايا دلالات مفهوم الكلّي والقياس المنطقي واحتمالات الاستقراء، وأيضا ملامسة للتّفاوت بين الحقيقة العقليَّة والحقيقة الواقعيَّة، على اعتبار أنّ المنطق لازم ذاتي للمعرفة، وانّه ما من شيء يملك القدرة على منع العقل من التفكير، فقد يكون للنّقل والعرف والنظام السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي سلطة قاهرة مانعة من حريَّة التفكير، لكنّ ذلك ليس بمستمرّ إلى الأبد وفي أيّ مكان. فالعقل مشبّع بأدوات التحليل والتفكيك، التي وصل بها إلى الأقصى وهو محاكمته ونقده لذاته في عمومها، ولأدواته في تماهيها، ولكن ألا يعني هذا شكلا من الإيهام بأنّ اللغة والفلسفة والمنطق هي بعينها الأسس الحصريَّة للتفكير؟ بمعنى هل أنّ حدود العقل وأشكال التفكير تتماهى وفق اللّوازم الذاتيَّة للعقل، أم أنّ عمليَّة الإدراك هي أيضا نتاج لما يظهره الوحي من علم بالمعنى التصوّري والتصديقي؟ وما يظهره من حقائق غيبيَّة يصعب الاستدلال عليها بالطّرق العقليَّة المتاحة، في حين نحن نعلم يقينا بأنّ مجالات البحث مفتوحة على كلّ المناشط العقليَّة والنفسيَّة والروحيَّة والعلميَّة الأخرى، القديم منها والمستحدث ضمن مسار غير مُنْته من التّأصيل والتجديد وإعادة لقراءة الموروث المعرفي للإنسان.
لعلّ من سعى من الفلاسفة والمتكلّمين إلى التّعويل على البراهين العقليَّة والحدود المنطقيَّة، والأدلّة المشهودة، لا يبتعد عن الذين تأوّلوا النص المقدّس لضبط الدلالات المستساغة عقلا، فكلّها محاولات تسعى إلى تحويل معاني ومقتضيات الثيولوجيا الترنسندنتاليَّة إلى ثيولوجيا عقليَّة، وفق معايير حتّمها الوعي بالحقيقة العقليَّة والحقيقة الواقعيَّة، وأيضا بناء على المقارنات والمقاربات التي يفرضها حجم الاختلاف بين مدّعى[6] الدين ومختلف تجلّيات مفهوم الدين ضمن سيرورته وصيرورته.
ويظهر ذلك جليّا في كون جلّ القراءات التفسيريَّة والتّأويليَّة لا تؤسّس لقطائع ابستيميَّة منتجة ومؤسَّسة لرؤية تتّسم باتّساع الأفق في استيعاب المقدّس. واعلم أيضا أنّ “اليقظة العقديَّة” على انتشارها في الآفاق وتأثيرها في النّفوس، تفتقر إلى سند فكريّ محَرِّر على شروط المناهج العقليَّة والمعايير العلميَّة المستجدّة، فلا نكاد نظفر عند أهلها لا بتأطير منهجي محكم، ولا بتنظير علمي منتج، ولا بتبصير فلسفي مؤسِّس»[7].
لذلك كان الدين القيّم هو ذلك الدين القادر على تقديم تعاليم ترتكز على مجموعة المسانيد والأسس والعقليَّة والقواعد المنطقيَّة التي لا تناقض البداهة والفطرة البشريَّة، فرغم القطع والإيمان بمحدوديَّة العقل، فإنّ ذلك ليس بمانع من الإيمان بضرورة فتح باب النظر والاستدلال العقلي، فالصورة الإلهيَّة للإنسان ليست سوى الادراكات العقليَّة والكمالات الروحيَّة وفق مسارات أهل البرهان وأهل الذّوق، ومع ذلك فإنّ السعي إلى تحصيل معرفة حقيقيَّة ليس في مأمن من عروض الشكّ، لذلك يكون التشكيكّ المنهجي وتبنّي آليَّة القطع والتجاوز الممنهج، والإيمان بأنّ ما بين أيدينا لا يعدو أن يكون اجتهادا لعقول سبقتنا أو نعاصرها، وليس بحكم اليقين المعرفي ولا مكتسبة للحقيقة القطعيَّة التي تكسبها قداسة هذه الحقيقة التي وقع تحصيلها، فهي في حدّها الأقصى جهد بشريّ محكوم بالنّقصان والتغيّر. وعليه، فعند تبنّي أو الإيمان بهذه المقولات الاجتهاديَّة ذات الحقائق النّسبيَّة، فإنّه لا يجب بأيّ حال من الأحوال إغفال أنّها جهود فكريَّة قد تتمكّن من ملامسة الحقيقة، وقد ينتهي مسارها إلى دوائر الخيال أو الفشل.
إنّ “فلسفة الدين” ليست سوى مشغل من مشاغل الفكر البشري الذي يسعى إلى أن يكون حركيّا وعقلانيّا في تكوّنه وصياغته ضمن ضوابط «المعرفة المعاصرة، والتي أفترض أنّها قد تجاوزت سيرة علم الكلام وصياغاته، بحيث بات علينا التوفّر على صيغة معرفيَّة جديدة وصياغات مفاهيميَّة من لون جديد، تنطوي على كلّ التزامات المنطلق الديني (العقلي والنصي)، وتتّجه نحو موارد معرفيَّة مفتوحة على الواقع والحياة، والإنسان، خارج دائرة التمذهب والتصنيفات الخاصّة»[8].
في المنهج:
تتعدّد مصادر المعرفة وبتعدّدها تختلف موضوعاتها، ومناهج البحث فيها، بفعل التراكمات الحاصلة خلال المسيرة البشريَّة، فالمنهج ليس سوى مجموع القواعد التي يعتمدها الباحث في تحديد ضوابط البحث ومنطلقاته التي تتحكّم في سيرورته ومآلاته والنتائج المنبثقة عن هذا النشاط المعرفي، إنّه التزام بالأسس المنطقيَّة وبطبيعة الموضوع المطروح للبحث، فتمايز العلوم بموضوعاتها هو ما يحدّد ماهيَّة المنهج الذي يجب اتّباعه في عمليَّة البحث والتّأسيس.
وكثيرا ما تبقى الإشكالات عالقة دون أن يتمكّن الفيلسوف أو المفكّر من تحديد مُخرجات بحثها، وهو ما جعل الكثير من الكتابات الفلسفيَّة أو الفكريَّة لا تعدو أن تكون نمطا من الكتابات الأدبيَّة التي يغلب عليها طابع البيان دون الظّفر بالبرهان والتفكيك العقلي.
إنّ أهمّ ما قد يُحمل على هذه الاتِّجاهات الفلسفيَّة هو استغراقها في المنهج التبريري والتلفيقي بين الفلسفة والدين تحت مبرِّر ضرورة التوفيق بين الخطابين. فبين عقلنة الوحي وتديّن الفلسفة كانت الاعتبارات المعرفيَّة سجينة طوق موهوم حدّدته الأسس والمنطلقات والغايات من كلا الخطابين والنّهجين. وتأسيسا على ذلك استمرَّت حالات الجدل والسجال بين “اللوغوس” و “الوحي”، وحاول علماء الدين والفلاسفة إيجاد مزيج معرفي يجمع بينهما، بدءا من مبحث الوجود وأقسامه ومراتبه وانتهاء بالإنسان وما يتأتّى عن ثنائيَّة تركيبته، فالطّين أو التراب والعقل والروح، اختزلا حقيقة الإنسان، وأثَّرت حتى في نظريَات المعرفة وطرق تحصيل المعارف.
يبدو أنّ تصوّرات الاعتقاد الديني غالبا ما تثير أسئلة فلسفيَّة تختزل كل ما يُشْكَل على المعرفة الدينيَّة، ومدى صحّة دلالاتها، وواقعيّتها ومدى فاعليّتها وقدرتها على التغيير الإيجابي لنسق حياة الفرد والمجتمع. وحتى يتمكَّن العقل من إنتاج معرفة تتّسم بالعلميَّة والموضوعيَّة في نسبيّتها، كان على هذا العقل المؤمن أن يتَّصف أوّلا بقدر كبير من القدرة على التّجاوز والحسم فيما يعرض له من الموروث الديني، رغم أنّ المستيقن هو أنّ المعرفة بكلّ الحقائق الدينيَّة المُؤَسِّسة هي مسألة على غاية من الغموض وتتطلَّب جهدا كبيرا وعملا شاقّا من أجل البرهنة عليها.
لقد كان الشعور بأنّنا أمام تقاليد عقديَّة تؤسِّس للنّظر والإيمان بالأشياء الموجودة بطريقة تختلف كلّيا عن حقيقتها المتحقّقة، أي عن تمثّلها اليومي، وعن الإدراك الموضوعي لماهياتها، هو ما أوجد إشكالات عقليَّة وولّد أسئلة حارقة حول طبيعة الإيمان والدين والتّدين والقصد الإلهي والدّور الاستخلافي والشّهودي للإنسان. فاللّجوء والتعويل على البداهة أو المجاز الحدسي أو الاستعارة الفطريَّة من أجل إيجاد مستمسكات عقليَّة يقينيَّة، موشّحة وهمًا بالمنطق العقلاني في فهم الأشياء، هو ما شكّك في القيمة المعرفيَّة لما يطرحه فهْمُ مُسمّى علماء الدين للمقدّس وللوجود من حيث هو موجود، فخلطوا بين القابل للمعرفة ومستحليه، وبين النّسبي والمطلق، وبين الإلهي والبشري، وبين المعقول واللّامعقول، فتاهت العقول وأوشك طهر المقدّس أن يضيع في كلمات المتكلّمين باسم الدين. وفي مسار التحوّلات والمراقي المفهوميَّة تحوّل مصطلح “اللاهوت الطبيعي” أو “الدين الطبيعي” المختصّ بالبحث في وجود الإله وصفاته وأحكامه، إلى مصطلح “فلسفة الدين”، وكان ذلك من أبرز مشاغل الكثير من الفلاسفة منذ القرن السابع عشر الميلادي في العالم الغربي وكذلك مفكرو وزعماء الإصلاح منذ القرن الثامن عشر في العالم الإسلامي، المهتمّين بالمشاريع الفكريَّة الإصلاحيَّة، وبذلك تولّدت عديد المحاولات لإخراج البحث من دوائر الميتافيزيقا إلى واقع الفيزيقا، فكان ذلك نشاطا عقليّا يسعى إلى تحقيق نوع من التّوافق والانسجام بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين المعطى الحسِّي المتحيِّز زمانا ومكانا وبين قوانين العالم العقلي.
و«الواقع أنّ تمرّد المرء على ثوابت العقل والعرف والعادة لا يتمّ إلّا بعد أن يكون في وضع سيكولوجي يتهيّأ بمقتضاه لقبول ما كان مجرّد احتمال منطقي، وما الإبداع الناتج عن حركات التمرّد الأصيلة التي تُمارَس في مختلف أوجه نشاط البشر إلّا تحقّق عيني لذلك الاحتمال، لكنّه تحقّق يتطلَّب قدرات فائقة، ولا يقدر عليه إلّا نزر يسير منهم، فليس كلّ محتمل بقابل لأن يعبّر عن إبداع أصيل»[9].
إنَّ تولّد فكرة الإبداع والتجاوز تقوم أساسا على الاحتمال والممكن العقليّين، ومن التجديد بما هو إعادة قراءة وتشريح للموروث، فالإطلاق مولّد للخطأ ومنتج للتعصّب والانغلاق، والحقيقة المطلقة تبنى عادة على نوع من “الدّوغم”، الذي يحوّل المعتقدات إلى رؤية ذاتيَّة متعصِّبة تتحوَّل إلى انغلاق ورفض للآخر، وتؤدِّي في النهاية إلى الإرهاب الفكري والجسدي، لأنّ البنية الداخليَّة لتلك العقائد تحوّل الدين وتنزاح به من الرّؤية الكونيَّة والعالميَّة إلى نسق إيديولوجي مغلق، تسجن في داخله الأفكار وحتى الأحاسيس، وهو ما يهدِّد باغتيال قيم السلام والتسامح والحوار والانفتاح، ولا عاصم من ذلك إلّا بتوسّط الإيمان بالعقل كأساس ومبدأ للدين الكوني، ومسلكا ومنهجا لاستيعاب الوحي وفهمه بما يتوافق وضرورات العصر وإكراهاته، فيكفي أنّه مناط التكليف وسبب التكريم.
لعلّ ما يثير الرّيبة هو حصر مهمَّة “فلسفة الدين” أساسا في كشف النّقاب عن الأوهام المتجذِّرة فينا حول وهم الهويَّة ومركزيّتها في فلك الإنسانيَّة رغم التّباين بين المفهوم والمصادق، أي بين مفهوم الأمة المركّز كما يطرحه القرآن الكريم تلك الأمة الآمرة بالمعروف والنّاهية عن المنكر والأمة الوسط والأمة الشاهدة، وبين الأمّة واقعا وهي الأمّة المشتّتة والمجزّأة والمتخلّفة حضاريا والتابعة سياسيّا واقتصاديّا. ووهم الأفضليَّة هذا وغيره من الأوهام الدفينة في لاوعينا والتي لا زالت المذهبيَّة الأصوليَّة والفقهيَّة، والمحوريَّة الموهومة تغذّيها، ولعلّ هذا الآخر لا زال يشتغل عليها ليحكم السيطرة على مقدّرات الأمَّة الاقتصاديَّة، مستغلّا هذا التّوق اللّامسؤول واللّامدروس للحداثة المزيّفة، فهذا الآخر المتمثّل في المركزيَّة الغربيَّة بدأت في استعمال قيم الإنسانيَّة والكونيَّة لاجتراح أزمات في جغرافيا الأمّة، والنّخب قد تكون في غفلة من أمرها ذلك أنّنا نشعر أنّ حقوق الإنسان الكونيَّة كما يروّج لها هذا الآخر قد تكون سببا في إزهاق مفهوم المواطنة، وهذا ما نستشعره في سياسات الاتّحاد الأوروبي، والولايات المتّحدة الأمريكيَّة، في المنطقة بعد الثورات العربيَّة، وكذلك اصطفافها وراء الدكتاتوريَّات والاستبداد والكيان الصهيوني.
تقدح “فلسفة الدين” في أذهاننا أنّ ما نعتقد أنّه يميّز ويرسم حدود التّمايز فيما هو إنساني وفي ما هو ارتباط بالمثل الأعلى المطلق، ليس سوى وهم تغذّيه الأنا اللّاواعيَّة واللّامحبّة للإنسان المكرّم من الله تعالى تحت أيّ عنوان خادع،
ذلك أنّ الفلسفة لا تتموضع في “فلسفة الدين” كمكمِّل معرفي، منهجي ومفاهيمي في الطروحات الدينيَّة، بل تتَّخذ دورا فاعلا في تصويب المفهوم والمعنى، وتحوّلها إلى مجال المحاكمات العقليَّة الفلسفيَّة ما دامت هذه الطروحات تمثِّل فهما للدين، وتأويلا للنصّ الموحى به من لدن الله تعالى.
إنَّ اتجاهات التّأويل تكاد تكون محصورة في اتّجاهين بحسب “بول ريكور” إنّها لا تعدو (الهرمينوطيقا) أن تكون إجلاء للمعنى بما يتناسب ومرتكزات العقل (اللوغوس) وأسس البيان، فهي محاولة إحياء لهذا المعنى الذي قد يكون فُقد في عمليات تأويل سابقة، وهي أيضا إصلاح الأخطاء التي تولَّدت عن تأويلات موروثة. وفي مقاربة التراث الإسلامي تكون قد تولَّدت تحت ضغط تأثيرات نفسيَّة أو اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو مدرسيَّة معرفيَّة أو دينيَّة مذهبيَّة.
وسواء كانت الآليَّات المعتمدة تكتسب ماهيتها من طبيعة بناء النص لفظا وبيانا، أو تكتسبها من آليات العقل وأساسها المنطقي، فإنّها تجعلنا بين خيارين اثنين، إمّاَ أن ننزع نحو الإصلاح وتصويب الخاطئ من القراءات، وهو مذهب “حسن حنفي” أو أن نتَّخذ منحى ثوريّا هدفه إقامة قطائع ابستيميَّة جذريَّة كما ارتأى “نصر حامد أبو زيد” أو تحريك المفاهيم وتفعيلها كما يرى “مالك بن نبي”، وبين هذه وتلك تركّزت مجمل تحليلات “محمد إقبال” و”محمد باقر الصدر” و”مرتضى المطهري” و”عبدالكريم سروش” و”طه عبد الرحمان” و”أبو القسم حاج حمد”، وكثير ممّن حاولوا معالجة مسألة التراث الإسلامي في القرنين الماضيين.
إنَّ تحديد المفاهيم وتحريكها وتحديد العلاقات فيما بينها وإمكانيَّة تحويلها إلى واقع معيش، ونوع من السلوكيات الفاعلة والمؤثّرة في عمليات التغيير الاجتماعي، وهو مقارب لما طرحه “كانط” في نقده للعقل النظري والعملي، ومحاكمته للدين في حدود العقل المجرّد.
في الموضوع:
المتّفق حوله أنّ الدين ليس مجرّد عقيدة نظريَّة ومفاهيم لإشباع نهم العقل، وذوق تتلذّذ به الروح مذاقا، بل الدين مسلك وفعل مؤثّر في منظومة المبادئ الفكريَّة والأخلاقيَّة، إنّه ليس عقائد مجرّدة أو طقوس شكليَّة، وقرب باطنيّ وروحيّ خالص، بل هو فعل قيمي، مؤثِّر في سلوك الفرد والمجتمع، جالب للرضى والخير والسلام. إنّه ليس بالإيمان المجرّد عن الفعل ولا بالفعل المنزوع عنه القيمة، يكون الإيمان بالله، فليس ذلك سوى وهم وانحراف عن فهم مُراد الواحد وعن دور الانسان المركزي ومحوريَّة وجوده. إنّه المفهوم الشامل للعبادة وما عدا ذلك فهو محض زيف وهذيان لفهم مبتور لله ولدينه.
إنّ أهمّ ما يميّز طروحات “فلسفة الدين” هي البحث في الجانب المعنوي والأخلاقي للدين، والتي يعتبرها أغلب الفلاسفة المتَّصدّين للبحث في المسألة أساس الدين وجوهره. «إنَّ نظام العقائد في نطاق فلسفة الدين يخلق الشروط من أجل الدراسة المقارنة للأديان، طالما أن المقابلة بين أنظمة العقائد أسهل من المقابلة بين أي مكوّنات أخرى للدين. عدا ذلك، فالعقائد تجعل من هذا أو ذاك من الموروثات الدينيَّة موضوعاً لمن يقف خارج هذا الموروث، فيصبح هذا الأخير بالنسبة له الوسيلة الوحيدة في حقيقة الأمر لفهم ما الذي يعنيه هذا الموروث بنظر من هو داخله.
قد تنشد فلسفة الدين الغربيَّة أهدافاً مختلفة. ويعدّ الموقف النقدي الرافض للدين والدفاع عنه من المواقف الحدّيَّة القصوى. وبصفة عامَّة فإنَّ البحث الفلسفي المعاصر للدين لا يضع نصب عينيه أهدافاً بهذا القدر من الوضوح الذي تفترضه هذه المواقف. فهذا من شأنه، فيما يُعتقد، أن يناقض الحياد الأكاديمي الموضوعي»[10].
ليس هناك صورة نمطيَّة لمسمَّى “فلسفة الدين” وإنّما هنالك رؤى واتِّجاهات وقراءات متفاوتة العمق والإحاطة بفحوى الخطاب، لكن يقينا ثنائيَّة العقل والوحي تمثِّل الأساس التي تبنى عليه مختلف الانشغالات المعرفيَّة في الفلسفة والدين، بدءا من البحث في الوجود ومسائل الميتافيزيقا، إلى محاولة تحديد مفهوم “الله” المتعالي والمنزّه في ألوهيته، وصولا إلى تحديد مفهوم للرّبوبيَّة وفاعليّتها في تسيير الكون وضبط حركة الإنسان وتموقعه في هذا الوجود.
إنّ فهم الوجود على قاعدة الحقيقة والاعتبار، هو تأسيس للقول بتعدُّد تمظهرات الوجود، حتى يتحقَّق التّجاوز لمقولة اللاوجود غير موجود، وهو ما أوجد مساحة للمتعالي ضمن السياقات المعرفيَّة لاحقا، إنَّها عمليَّة ربط بين الأفكار المنتجة للمعرفة وليست توهّما أو تحايلا على العقل. فمنذ أن تسمّت الميتافيزيقا بالفلسفة الأولى كانت بدايات “فلسفة الدين” في مَنْطَقَةِ مفاهيمها وإخضاعها لضوابط العقل. كما أنَّ محاولة تحديد مرجعيَّة حاكمة للقيم والأفكار، وحصرها في الله أو الإنسان، كان مدار تغذية للتّباين في النّاتج الفكري الذي لامس حدود نفي كلّ طرف للآخر، ضمن منحى حدّي مغلق، فاقد للتّنسيب الموضوعي، إنّها ليست سوى امتداد للقديم ضمن الموروث الفلسفي اليوناني، «وإذا كان بعض الفكر الديني قد انطلق من سؤال مفاده أيّهما الأصل في الدين، وما هو محور الأديان … الله أم الإنسان؟ … فإنَّنا نعتقد أنّ ذلك حصل بتأثير من اتّجاهين فلسفيّين عبَّر عنهما كلّ من “بروتاغوراس” الذي نادى بأنّ الإنسان هو معيار كلّ شيء، ومنه نشأت النّزعة السفسطائيَّة والتّشكيكيَّة، وفلسفات الرّيبة والوجوديَّة الحديثة، والعدميَّة التي أعلنت عن تكامل دورها التّنويري بإعلان موت الإله … ففي اعتقادها أنَّ الإنسان الذي خلق الله على صورته ما عاد بحاجة إليه ليملأ الفراغات المعرفيَّة، وجاء العلم ليبرز قدرته في تسخير العالم وإعادة صنعه وإنتاجه.
أمّا الاتِّجاه الثاني، فهو المتمثِّل بالفلسفة السقراطيَّة التي مفادها حبّ الحكمة، والحكيم هو الله وحده. وما للإنسان إلّا السعي، بحبّ ودهشة وشغف وعقل، نحو الله الحكيم، وإفادته حكمته، والحكيم هو: أصل علّي لا يمكن التنبّه للأشياء وحقائق المعلولات إلّا به ومنه وفيه»[11].
وأيّا يكن “موت الإله”، سواء بمعنى موت مفهوم الإله الذي أوجده الإنسان (علماء الدين أو رجال الدين) بالمعنى الأخصّ، (وهو الأرجح فهما وتأويلا)، أو بمعنى الله كمثل أعلى مطلق، ينزع الإنسان إلى الارتباط والإيمان به، وهو المختلف في توصيفه ووصفه. فإنّ الحقيقة هي أنَّ معرفة الوجود تتربَّع على عرش المعرفة البشريَّة، «فإذا كانت هناك في الحقيقة علاقة معرفة اتّحاديَّة، فلابدّ أن تتحقّق بين العالَم الباطني والعالَم الخارجي للفيلسوف، وبين الطبيعة وما بعد الطبيعة للعالَم، وبين أعماق الوجود وظواهره في أيَّة درجة ومنزلة كانت، حتى نستطيع عن هذا الطريق معرفة ذواتنا والواقعيّات التي حولنا. ولن تكون العلاقة سوى المعنى الإطلاقي للوجود، وليس أيّ إطلاق وإنّما “الإطلاق المَقسمي” له. لأنّ مطلق الوجود هو المفهوم الوحيد الذي يقبل الانطباق والاتّحاد المنطقي مع كلّ شيء من الأشياء، سواء أكان من الظواهر أم من الأعماق، وسواء أكان ذهنا أم خارجا، طبيعة أم ما بعد الطبيعة، واجبا أم ممكنا، فيعرّفنا على ما في الوجود من حقائق وروائع»[12].
وتأسيسا على ذلك فإنَّ “فلسفة الدين” تعتبر من أكثر المحاولات جدّيَّة في معالجة أهمّ القضايا الدينيَّة التي أغرقها التّناول الكلامي والنّسق المذهبي المغلق، في متاهات كلاميَّة تأويليَّة مرتبكة، مبنيَّة ومنحازة إلى محاولة ضبط مسار لغوي بحت، قائم على حدود فهم اللفظ والمعنى المختزل، دون اعتبار للاتّجاهات العقليَّة والمقاصديَّة المفتوحة على الواقع والمستقبل، أو معالجتها بأدوات معرفيَّة جديدة تتوسّل بها مختلف العلوم الإنسانيَّة ومناهجها.
ما نلاحظه في كثرة الارتباك بين كثير من المتكلّمين والحكماء المتألّهين، مردّه إلى عدم الاستقرار المنهجي في تناول مباحث العقيدة، وزخم المفاهيم والاصطلاحات التي أتت على جلّ أنشطة الاشتقاق، وكذلك كثرة المترادف في لغة نصّ الوحي وإن حاول ولا زال البعض إنكار وجود “الترادف” كسبيل منهجي للإفلات من تعقيدات القراءات والتّأويلات الفجّة وغير المنطقيَّة أو التي تبدو أنّها تناقض العقل والواقع، وعليه فحتى الفلسفة لا تستطيع ان تقدّم تعريفا مسوّرا بالمعنى المنطقي لمفهوم “الله تعالى”، فالأكثر موضوعيَّة وانفتاحا هو التعريف الموحى به، المتعدّد الصور والدلالات العقليَّة والوجدانيَّة، كما أنّ تعريفات الوحي هي تعريفات محفّزة للعقل على البحث، وتنويع طرق الكشف فتراوحت بين العقلنة والذوق والحضور.
لمّا كان اللاهوت الطبيعي يُعنى بتقديم مستمسكات عقليَّة ومنطقيَّة على وجود الله تعالى، فإنّه في جهة ما يمثّل محاولة إلى إيجاد مسافة بينه وبين تفسيرات وتبريرات “الدين الوحياني” لأكثر المسائل التي تمثِّل قاعدة البناء الاعتقادي وأصولا محدّدة لماهيَّة الدين. إنّ الجدل الحاصل في فلسفة الدين بين إمكانيَّة تبرير وجود الله تعالى من عدمه وفق السياقات الفلسفيَّة والعقليَّة هو الفكرة التي تحرّك انشغالات فلسفة الدين، وهو أيضا الأساس العقلي في التأسيس لنظريَّة إيمانيَّة لها مبرّراتها العقليَّة الموضوعيَّة والمنطقيَّة، وهو ما أثّر على نظريَّة المعرفة.
وكما أنّه «من المفيد جدّا هنا الاستفادة من مخزونات الفكر البشري، سواء كان هذا المخزون الفكري دينيّا أو غير ديني، إذ وإن كنّا ننتمي إلى جغرافيَّة فكريَّة معيّنة، لكنّ هذا لا يمنع من علاقة تعارفيَّة معرفيَّة تمكّننا من الاستفادة من أيّ نتاج معرفي ينسجم مع منظومتنا الفكريَّة، ونتجنّب أيّ نتاج لا ينسجم معها، ويعدّ بمقاييسنا أنّه غبر صحيح وساقط معرفيّا»[13].
فالإيمان بالله تعالى وإن تعدَّدت ماهيته بين المعطى الوحياني الواضح في سعي الإنسان الدّؤوب إلى الارتباط بالمطلق، وإثبات أصالة الفطرة الإنسانيَّة، وبين النّاتج العقلاني المتراوح بين كونه (الإيمان بالله تعالى) افتراضا يختزل قيمة معرفيَّة حقيقيَّة، أو كان صورة من صور الحياة المعقّدة، فإنّ ذلك وبوجه ما يبعده عن التجريد الميتافيزيقي، ويركِّز له حضورا في ثنايا حياة الإنسان، وفي المحصَّلة نجد أنفسنا أمام مسمَّى جديد هو الدين التاريخي والوحي التاريخي، الذي يمثِّل مجموع القراءات والتفسيرات والتأويلات التي وصلتنا بفعل مراكمة معرفيَّة في علاقة العقل بالنص، لذا كان من الضروري رسم حدود فاصلة بينهما عند الاشتغال على هذا المبحث.
من التّمظهرات الجالبة للانتباه في الفلسفة التحليليَّة القديمة أنّها تأثّرت بالنظرة التجريبيَّة العقلانيَّة، ولم تهتمّ بدراسة “فلسفة الدين” باعتبارها جزءا مكوّنا للميتافيزيقا التي لا تعدو في نظر أغلبهم سوى مبحث خاوٍ من كلّ الدلالات العقليَّة، ولا فائدة تُرجى من الاشتغال عليها. ولم تعد فلسفة الدين لاهتمام الفلسفة التحليليَّة إلّا بعد انكفاء الوضعيَّة المنطقيَّة عن نفسها وفقدانها لبريقها وحيازتها للاهتمام، ذلك أنّ أكبر القضايا علميَّة، يمكن تركها أو إبطالها، لأنّ هذه القضايا بما هي عبارات ومقولات، فهي قابلة للتّصحيح من حيث المبدأ.
فظهرت المقاربات والتقاطعات بين مبحث الأخلاق والفضيلة وظاهرة الإيمان بالغيب، وعليه بهتت القطيعة بين المباحث الابستيمولوجيَّة والميتافيزيقيَّة وأضحيا متقاربين يمكن رصد حالات الجدل والتفاعل بينهما.
هكذا ظهرت اتّجاهات قويَّة في التفكير ترى أنّ المقوّمات الأساسيَّة للشخصيَّة الفردانيَّة أو الجمعيَّة (الأمَّة) والإناسيَّة هي العقل والأخلاق، وأنّ كلّ حالات الترقّي والانحطاط إنّما أساسها هاتين المفردتين ومدى تجلّيهما في حياة الإنسان، وهو ما أثبت مركزيَّة العقل والوحي في بناء الأمم والحضارات، وتحديد مدى تطوّرها أو انحطاطها.
في محاولات التفاعل والنقد والتجديد، حاول بعض المفكِّرين العرب وغير العرب من المسلمين الاشتغال على هذا المبحث متسلّحين بالطروحات الغربيَّة وبمخزون تراثي لا زال فيه بعض المشكلات إن من ناحية علاقته بالنصّ أو بالمنتوج العقلاني الكلامي والفلسفي، وبروح قتاليَّة شرسة في رفض القراءات السائدة ومحاولة تفنيد قيمتها العلميَّة.
وتراوحت هذه القراءات بين محاولات التأصيل والتثبيت أوّلا، فالأخذ بآليّاتها في عمليَّة استنهاض للأمَّة والدفع بها نحو تغيير واقعها وتثبيت قيمها الأخلاقيَّة، والتحرُّك نحو الكمالات الحضاريَّة وفق رؤيَّة مقاصديَّة تعتمد مبدأ تحريك وتفعيل المفاهيم الإسلاميَّة المتكثّرة في متون العقائد والمدوّنات الفقهيَّة، وجعلها أدوات تغيير للواقع البائس، وبين اتّجاه سعى جاهدا في حصر ثمار البحث في “فلسفة الدين” ضمن المسألة المعرفيَّة التي تعدّ أساسا لأيّ بناء حضاري متميّز.
إنّ الاشتغال على موضوع “فلسفة الدين” هو تتويج لمحاولات سابقة اشتغلت على الدين باعتباره أهمّ الطّروحات التصاقا بحياة الإنسان تفكيرا وممارسة. فإبراز قيمة التصوّرات الدينيَّة، المعرفيَّة والمنهجيَّة، ضمن المعطى الحضاري للإنسان هو ما مكّنه من تحقيق راهنيّته، وكونه المشروع الضّامن لإنسانيَّة الإنسان بعيدا عن التّشييء والتبضيع الذي لا زال يلازمه بفعل مادّيَّة الحضارة الغربيَّة ومركزيّتها.
لعلّ “فلسفة الدين” في ظل حالات التفسّخ الحضاري بمعناها القيمي وما ترتّب عنه من شرخ مسّ هويّتنا بفعل هذا الاستقبال الفجّ لمسمّى “حداثة” بدت في معظمها غريبة عن مرجعيَّة الأمّة في فكرها وقيمها، إنّها حداثة الآخر المغاير والمختلف عملت النّخب السياسيَّة والفكريَّة على توطينها في ثنايا النفوس والعقول دون البحث عن المشترك بين المشروعين، لكنّ الحقيقة المبنيَّة على الموضوعيَّة والتّنسيب تجعلنا نتأنّى في الحكم عليها بهذه الإطلاقيَّة إذ «لم تصبح هموم الفلسفة الإسلاميَّة المعاصرة هي هموم الماضي، من مثل: قدم العالم، وحريَّة الإرادة، وكلام الله، والذات والصفات، بل أضيفت إليها هموما جديدة فرضتها صدمة الحداثة، كالنهضة، والعلاقة بين الدين والدولة، والوحدة سواء أكانت قوميَّة أم إسلاميَّة، وشكل الحكومة، والعلم والدين، والعلاقة مع الغرب… إلخ. ويكشف صعود الأصوليَّات المنغلقة، إلى الآن، عن فشل ذريع للفكر العربي المعاصر عن تقديم إجابات ناجحة على كلّ تلك الهموم»[14].
وبما أنّ العلوم تتمايز من حيث الموضوعات فإنَّ غاية “فلسفة الدين” في أهمِّ مباحثها وضمن مقدّماتها هو تقديم تعريف للدين يكون الأكثر عقلانيَّة وتماهيا مع الوحي، تعريف يحدّد ماهيته ويبرز ثوابت مكوّناته المحدِّدة لبقيَّة التصوّرات الرّاشحة عنه، وهو ما يساعد في تجليَّة الغوامض التي كانت سببا في التعامل السلبي مع الدين من قبل كثير من المفكِّرين والفلاسفة والعلماء المؤسِّسين، خاصَّة وأن كل العلوم تقريبا تتقاطع في نقاط معيّنة مع الدين وهي ترتبط به إمّا تفسيرا أو نقدا أو تفكيكا وتركيبا.
لقد كان أقصى ما طرح في التصوّرات الدينيَّة هو الرؤيَّة الكونيَّة بمختلف مواضيعها الفلسفيَّة التي يقع إثباتها ومعالجتها بالطريقة العقليَّة، إذ أنّ مجمل ما توصَّلت إليه الدراسات الموضوعيَّة المتعلِّقة بمسألة الدين تؤكِّد أنّه لا وجود لرؤيَّة كونيَّة مستقلَّة عن الفلسفة، لا سيّما في الجانب النّظري منه وهو المسمَّى بـ “العقائد”، لأنّه يشتمل على الأسس الفكريَّة التي تسعى إلى تقديم رؤيَّة كونيَّة بشأن العالم، رؤية تؤسِّس لمختلف المفاهيم والتصوّرات الدينيَّة، التي تعتبر خلفيَّة نظريَّة وحاضنة للمسائل العمليَّة أو العبادات.
إذن ما تطمح فلسفة الدين إلى تثبيته إنّما هو ذاك الذي يتَّحد في جوهره بالثابت العقلي والمنطقي للفلسفة. لقد جاء المشترك المعرفي بين الدين والفلسفة كجهد لنظريات المعرفة بمختلف اتّجاهاتها، إنّها صناعة للوعي العاقل للذات، المندفعة إلى تحقيق التوافق بين الفلسفة والدين، أو الحكمة والشريعة. ومهما كانت حاجة فلسفة الدين إلى برهنة وتدليل من جانب العقل الفلسفي، فإنَّ واقعيّتها تكتسبها من التطور الحاصل في المسار المعرفي ضمن سيرورتها التاريخيَّة، لذلك تتعدَّد أشكال الإفصاح عن ذاتها، وتنساب سيَّالة مع حركة الوعي الإنساني.
إنّ المعادلة التي أسّست لانقلاب في المعرفة الدّينيَّة عبر التاريخ هي المقاربة بين الاتّجاه الأنثروبولوجي والاتّجاه الثيولوجي في عمليَّات التغذيَّة المعرفيَّة، وفي تقديم تصوّر واقعي من حيث الإمكانيَّة في التحقّق والتغيير الواقعي لحياة الإنسان.
هكذا تعدم عمليَّة الفصل بين الاعتقاد والممارسة، وبين الإنسان وفلسفة التاريخ، فلا إمكان منطقي أو واقعي للفصل بين العقل والوحي، ولا استقامة لأحدهما منعزلا عن الآخر. ففلسفة الدين مجالها ملء الفراغات بين عالمي الغيب والشهادة وإقامة نسق من العلاقات التكامليَّة بينهما ممّا يمهّد للكمالات الأخلاقيَّة، وينهي حالات الغربة بين الثّنائيات النّشطة، الغيب والشهادة، الروح والجسد، العقل والوحي.
[1] – ر: الرفاعي عبد الجبار: تمهيد لدراسة فلسفة الدين، ط1، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2014، ص ص 8-12.
[2] – هيغل فريديريك: فلسفة الدين، الحلقة الثانيَّة، ضمن الأعمال الكاملة، ط1، 2002، ترجمة عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة، القاهرة، مصر، ص ص 13ـ 14.
[3] – شقير الشيخ محمد: دراسات في الفكر الديني (فلسفة الدين والكلام الجديد)، ط1، 1429هـ – 2008م، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ص 65.
[4] – علي خاني محمد فتح: فلسفة الدين عند ديفيد هيوم، ط 2016م – 1437هـ، ترجمة، حيدر نجف، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة، العتبة العباسيَّة المقدسة، العراق، ص 15.
[5] – وهذا خاص بالفلسفة الغربيَّة أساسا كما هي عند هيجل وكانط وسبينوزا، أمّا في الفلسفة الإسلاميَّة فلا نقف أثرا لذلك في غير ما خلّفته فلسفة الإشراق والعرفان في تناولهم لوحدة الوجود.
[6] – وفق المعنى والاستعمال المنطقي.
[7] – عبد الرحمان طه: العمل الديني وتجديد العقل، ط 2، 1997، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ص 9.
[8] – جرادي شفيق: مقاربات منهجيَّة في فلسفة الدين، ط 1، 1425هـ / 2004م، معهد المعارف الحكميَّة، بيروت، لبنان، ص 8.
[9] – الحصادي نجيب: آفاق المحتمل، د ت، منشورات جامعة قاريونس، ليبيا، ص 6.
[10] ـ كميليف يوري أناتوليفتش: فلسفة الدين الغربيَّة المعاصرة، ترجمة، هيثم صعب، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السوريَّة للكتاب، سوريا، 1989، ص 30.
[11] ـ جرادي شفيق: إلهيات المعرفة (القيم التّبادليَّة في معارف الإسلام والمسيحيَّة)، 1427هـ / 2006م، معهد المعارف الحكميَّة (الدراسات الدينيَّة والفلسفيَّة)، بيروت، لبنان، ص ص 4،5.
[12] ـ اليزدي مهدي الحائري: هرم الوجود، ترجمة، محمد عبد المنعم الخاقاني، دار الروضة، ط1، 1410هـ / 1990م، بيروت، لبنان، ص 8.
[13] – شقير الشيخ محمد: دراسات في الفكر الديني (فلسفة الدين والكلام الجديد)، ص 9.
[14] ـ الخشب محمد عثمان: نقد الفلسفة الإسلاميَّة المعاصرة (الهشاشة النظريَّة والتفكير خارج التاريخ)، بحث محكّم، نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم العلوم الإنسانيَّة والفلسفة، الرباط، 2015، المملكة المغربيَّة، ص 3.