ربما لم يكن أحد ليتخيّل قبل تفشّي فيروس كورونا أنّ «البقاء في المنزل» (‘stay-at-home’ order، zu Hause bleiben) -وهذا مصطلح وليس مجرد استعارة- سوف يصبح القلعة الأخيرة لحماية مساحة «المناعة» التي تُبقي «جسماً صحيحاً» في مأمن على نفسه من «العدوى». كل الإنسانية اليوم «عادت إلى المنزل»، وليس فقط إلى «مسقط الرأس» كما كان يحلو للرومانسيين أن يتقوّلوا. لكنّ الفيروس المستجدّ ليس رومانسياً بأي شكل: إنّه تهديد بلا أيّ مساحيق لمجرّد «الحياة» بوصفها مختزلة هذه المرة في مساحة المناعة التي يحتاج إليها جسم ما كي لا ينقرض، ومن ثمّة صار يجب إبقاؤها في المنزل دونما خجل يُذكر.
لقد صار «المنزل» فجأة مساحة «العالم» الوحيدة التي يلوذ بها «الأحياء» من «أجساد» بعضهم بعضاً بعد أن حوّلهم الفيروس إلى آلات عدوى تعمل ببراءة فظيعة، إذْ لا معنى للحديث عن أيّ نيّة وبائيّة قد يبطنها جسم ضد جسم آخر. إنّ المنزل/ العالم الخاص قد صار المعبد الوحيد والأخير، حيث يفرّ الناس بأنفسهم، من العدوى/ الخطر الوبائي العالمي غير المرئي الذي يجعل من كل «آخر» مهما كان نبله أو قرابته، مجرد حيوان أو كائن، ناقلاً لوباء أخرس.. ولأوّل مرة نلاحظ أنّ السؤال الرومانسي الذي طرحه هولدرلين في مطلع القرن التاسع عشر بعد أن صار الشعر هو الشكل الوحيد للمقام على الأرض: «كيف نسكن العالم؟»، قد صار فجأة سؤالاً هزيلاً وسيّئ الطرح، فجأة صار علينا أن نسأل على الأرجح: «كيف نسكن بيوتنا؟» بوصفها «العالم» الوحيد المتبقي لنا كي لا ننقرض، الوحيد المسموح به في وضع وبائي جرّد مفهوم العالم الحديث من صلابته وحوّله إلى مشهد كارثي هشّ ومعتذر.
وفي هذا «البيت» الذي يقدّم نفسه بوصفه مساحة العالم الأخيرة يشعر المرء بأنّه لم يعد يمكن تحمّل أيّ نوع من الضيافة «غير اللائقة» أي غير المنسجمة مع الحمية ضد العدوى. إنّ متوالية من القيم الأخلاقية قد انهارت فجأة، قال جبران ذات مرة: «لولا الضيوف لكانت البيوت قبوراً». ولكنّ الخوف من الوباء قد أعاد مشاعر الناس إلى بدائيّتها، حيث إنّ فرض «المسافة الاجتماعية» (social distancing) ليس مضموناً دوماً: لقد صار الاقتراب من أي جسم غريب لقاءً غير مأمون العواقب. لقد استعادت الأجسام البشرية وغير البشرية «آخريّتها» الجذرية وباتت كلّها توحي بتهديد «عدويّ» ما وإن كان غير وجود. إنّ «الآخر» بعامة قد فقد جزءاً كبيراً من «سلامته» وصار فجأة ضيفاً لا يُحتمل. وليس بالضرورة أن يكون هذا الآخر من فصيلة «البشر»: بل يمكن أن يكون أي كائن مرّ عليه الفيروس أو استوطنه. يمكن أن يكون هذا الآخر «الناقل» للعدوى أيّ «كائن تحت اليد» بتعبير هيدغر، أي أداة من أدوات حياتنا اليومية تحمل توقيع الوباء!
التفكير في «مجتمع المخاطر»
لم يعد «المنزل» ملجأً نهرب إليه من «أشخاص» يهدّدون حياتنا بل يمكن أن يكون مهرباً من «الأشياء» أيضاً. لكنّ «البقاء في المنزل» هو فنّ ضدّ العدوى وليس موقفاً ضدّ أحد بعينه. إنّه ليس «عزلاً» كما يشير إليه الفرنسيون بمصطلح من القانون الجنائي (confinement)، فالعزل عقوبة تتمثّل في حصر أو تجميع السجناء في زنزانة من أجل «احتواء» خطرهم. ثمّ صار يعني منع مريض ما من مغادرة غرفته. وفي جميع الحالات هو لا يعني سوى وضع كائن حيّ في وسط له حجم ضيق أو صغير. ولذلك لا عجب أن استعادت الدولة الفرنسية اليوم معجم «العزل» وصارت تعاقب بالـ«سجن» كلّ من ينتهك حظر التجوّل!
لكنّ المنزل ليس دولة. وليس معبداً. ومن ثمّ فإنّ البقاء في المنزل ليس موقفاً سياسياً أو أخلاقياً من أحد، كما أنه ليس «فوبيا» هوية ضد الغرباء. هو تمرين ما بعد أخلاقي وما بعد سياسي على تحويل «البيت» إلى عالم احتمائي ضد الوباء ويجب أبداً ألا ينقلب إلى حماسة عنصريّة كما وقع في الغرب تجاه الصينيين. إنّ الأمر يتعلق بحدّ أدنى من «سياسة الحياة» من أجل «مجرد البقاء» على قيد الحياة، وليس استقالة من الإنسانية التي تجمعنا بالآخرين.
من أجل ذلك، فإنّ أخطر جانب من التفكير في «مجتمع المخاطر» الذي انتصب فجأة في كل مكان على الكوكب إنّما هو وقعه الدقيق على الحياة اليومية لأي كان في حالة محدّدة هي حالة «البقاء في المنزل» بوصفه قد صار مطلباً أمنيّاً للدول، وليس مجرد اختيار شخصي. عندئذ يتبيّـن أنّ المهمّة العاجلة المنوطة بأيّ كان في بيته، إنّما هي الدخول في تمرين ذاتي حيويّ من نوع غير مسبوق، وذلك من أجل اكتساب «الأدب الصغير» الذي يجدر بكلّ «فرد» أن يقوم به في «بيته»: إنّ البقاء في البيت طويلاً يتطلب تقنية نجاة من الداخل ليس من البدهي توفّرها لدى أيّ كان. فبعض «الأفراد» يمكن أن ينهار من الداخل لمجرّد أن يفقد روابطه العمومية مع الهوية الوظيفية التي يدّعيها بالنسبة إلى «آخر» كبير معيّن. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن اكتشاف جديد لفضيلة «الوحدة» بوصفها وضعاً عالميّاً. ذلك أنّ البقاء في المنزل ليس عزلة إلاّ عرضاً. لأوّل مرة يصبح «المتوحد» نمطاً بشرياً عالمياً يؤثّث كل ركن من أركان «مجتمعات المخاطر» التي انتصبت بشكل إجباري على «حدود» المنازل.
كانت الوحدة في السابق فضيلة أرستقراطية للفلاسفة أو ترفاً أدبيّاً للرومانسيين أو مرضاً نفسيّاً بالتوحّد، لكنّ الوباء العالمي قد جرّدها من كلّ قيمة رمزية. فإنّ الوحدة التي يفرضها الخوف الوبائي من عدوّ غير مرئيّ وينتشر بشكل سائل أو هلامي هي وحدة من نوع غير مسبوق: إنّها عبارة عن تمرين ما بعد أخلاقي على التوحّد بوصفه حمية عضوية ضد الوباء، وليس قلقاً وجودياً من الكينونة في العالم. إذ يحتاج البقاء في المنزل إلى «إتيقا» جديدة تقوم على «حماية الذات» من الداخل بوساطة الوحدة الاحتمائية وليس الرومانسية أو المرضية. لكنّها ليست بالضرورة وحدة منعزلة، بل يمكن أن تكون فنّاً مخصوصاً يعيد إلى الواجهة معنى قديماً جداً للحياة هو فن «البقاء». وهو فن توارى عن الأنظار وراء سحابة هائلة من الادّعاءات الأخلاقية «غير الحاجية» أو «الكمالية» (من قبيل السعادة والخير الأسمى والتقدم والحداثة…)، بعد أن ظنّ الإنسان الحديث أنّه لم يعد في حاجة إليه. لقد أعاد الوباء أسئلة «البقاء» إلى الواجهة بشكل مرعب، وتلاشت فجأة كل المسائل الأخرى.
اختيار حيوي
ماذا يعني اليوم «أن نبقى في المنزل»؟ أن نلغي علاقتنا اليومية بالعالم، بالفضاء العمومي، وأن نتخلى فجأة عن كل ادّعاءاتنا الاجتماعية؟ هذا البقاء ليس نابعاً عن شعور خاص بالقلق أو بالحاجة إلى الوحدة، وهو ليس عملية عزل خارجية. إنّه اختيار حيوي من أجل تحقيق مصلحة عامة هي حماية الحياة. ولذلك لا يخلو هذا السلوك من مرح معيّن، مرح المشترك القريب الذي تردّم تحت أكوام الحياة اليومية العمومية مع «آخرين» وظيفيين، وليس مع «أجسام» ننتمي إليها. ولأنّ البقاء في المنزل هو إعادة تنشيط لمنطقة «الوطن»، حيث يكون الروح «عند نفسه» كما يقول هيغل، فإنّه من المفيد أن نعرف أنّ هيغل لم يكن يفصل بين أن يكون المرء «عند نفسه» وبين أن يكون «في بيته»، ولم يكن يرى في الفلسفة غير فن بناء ذلك «البيت الصغير» في العالم، حيث يمكن للإنسان أن يشعر بأنّه «عند نفسه» أو «في بيته» أو «في وطنه» في مقام واحد.
لكنّ زمن الوباء قد غيّر من معنى «الذات» بطريقة مرعبة: لم يعد يمكن أن نستمدّ معنى «هويّتنا» من أيّ مصدر آخر غير «أجسادنا» بمجرّدها. نحن نشهد تكوّناً سريعاً لنوع من «الذات المنزلية» في زمن الوباء، ذات تعتبر «البقاء» معركة من لحم ودم، وليس موضوعة وجودية (قلق المصير) أو لاهوتية ولا حتى مشكلة أمنية.
علينا فجأة أن نتدرّب على مهمّة «عالميّة» جديدة هي «البقاء في البيت». نوع من الكينونة «مع» العائلة أو مع «من» نحب. ليس بالضرورة أن تكون «مع» أو «من» هذه «أنانة» معزولة تشير إلى «أنا» معزول. إنّ العدد هنا ليس حاسماً. ذلك أنّه حتى ولو صادف أن وجد المرء نفسه «وحده» (أي «في حضرة الغياب» لأناس كانوا هنا) في المنزل، أو كان يمكن أن يكونوا هنا يوماً ما، فهو لا يُعدّ عند نفسه «وحيداً» بالضرورة. إذْ يمكنه دوماً أن «يسكن» غياب من يحبّ دون ضرر يُذكر. ومن ثمّة هو سوف يمارس تمريناً في «البقاء مع» بقيّة نفسه كما يلتقطها من غياب من يحبّ، أو من ينتمي إليه، ولاسيّما في حالة الغربة أو الهجرة. إنّ البيت -أي بيت- يتميّز عن بقيّة المكان بعامة بأنّه مساحة «معيّة» و«رفقة» و«لعبة غياب». وبذلك فإنّ بقاء المرء «وحده» في البيت هو مجرد استعارة، إذ لا يعني ذلك بالضرورة أنّه يعاني من «الوحدة». إنّه فقط يسكن مساحة الانتماء إلى نفسه، «هناك» حيث يمكنه أن يعثر من جديد على كل علاقاته بنفسه، وعلى كل أدوات ذاته. ولا يعني الشعور «بالأمان» غير القدرة على «الكينونة- مع» أنفسنا في أيّ مكان نجح أن يكون لنا «بيتاً»، دون أن يكون الحضور المادي للآخرين عاملاً حاسماً. ذلك أنّ «الآخرين» ليسوا خارجنا بالضرورة. والآخر ليس «جحيماً» إلاّ عندما يكون «وباءً».
وهكذا فإنّ البقاء في المنزل ليس «حجراً» أو «عزلاً» إلاّ عندما يكون المطلوب هو «منع» الآخر من الدخول إلى مساحة «الذات» لأنّه صار ناقلاً «وبائيّاً» يهدّد شكل حياتنا بالانقراض، آخر يهدم حدود المناعة ويتسلل إلى خلايانا من أجل استيطانها. وإنّما من أجل ذلك فقط يكتسب «البيت» وظيفة غريبة ضدّ الأوبة: إنّه يتحوّل بسرعة إلى ورشة تمرين على الامتناع عن كل آخريّة موبوءة. لكنّ ذلك لا يفترض بالضرورة أن نكفّ عن «الكينونة- معاً» أو عن الانتماء إلى من نحب.
إنّ تفشيّ فيروس كورونا قد فرض علاقة جديدة بمؤسسة «المنزل» ومن ثمّ بمهمّة «التدبير المنزلي» كما تخيّله اليونان. إنّ «البقاء في المنزل» لم يعد مجرّد تصريف «اقتصادي» لمقولة «له»، وإنما صار «أمراً» قانونياً يهمّ الحياة مردودة هنا إلى معنى «وبائي». كلّ جسم غريب هو يحتمل «تعرّضاً» ما للعدوى. وفجأة صارت هذه الهشاشة العضوية في حاجة إلى حماية «منزلية» في غياب أيّ لقاح إلى حد الآن..
لكنّ الخوف المطْبق من الوباء أعاد إلى المنزل وظيفته البدائية: الحماية من خطر الانقراض تحت تهديد «حيوانات» مفترسة أو متوحشة سائبة في الجوار. صحيح أنّ «التوحّش» قد أخذ دلالة أخرى، لكنّ الخوف من الانقراض لم يتغيّر. ولذلك نحن نشهد عودة مثيرة للعلاقة «الكهفية» بأجسادنا: حيث يتحوّل «البقاء في المنزل» إلى تنشيط صريح، قانوني وأمني، لمقولة «العودة إلى الكهف»، إنه «البقاء في الكهف» مؤقتاً لأنّ العالم الخارجي، قد صار خطراً على الأجساد. وإذا صحّ أن الفيروسات هي في سلّم تاريخ الحياة مواد وراثية ظهرت قبل البشر على الأرض، فإنّ الأدب المناسب لمقاومتها لا بد أن يكون أيضاً «بدائيّاً».
*المصدر: الاتحاد
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.