في الحرّيَّة؛ الحرّيَّة بين العقل والقانون
لا يمكن تجاهل مركزيَّة مفهوم الحرّيَّة في الفكر الفلسفي الحديث إلى حدّ أن هيجل اعتبر التاريخ مسارا لانبثاق الحريَّة. ويرجع الاهتمام الكبير بسؤال الحرّيَّة إلى التطورات والتحوّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والعلميَّة التي عرفتها أوروبا القرون 17-18-19. ويكفي هنا، أن نشير إلى تحوُّل فكري بارز يمكن اعتباره ظاهرة غريبة عن الإنسان المتديِّن في ذلك العصر، ويتعلَّق الأمر بوضع الدين موضع نقد والدعوة إلى التحرُّر من قيود العقل الديني، كما حصل مع نظريَّة الدين الطبيعي، وغيرها من النظريَّات الفلسفيَّة الأخرى.
ويستمدّ مفهوم الحريَّة قوّته من تشابكه مع مفاهيم أخرى لا تقل أهميَّة عنه، من قبيل الضرورة، المسؤوليَّة، المجتمع، العقل، الرغبة.. إلخ، وهي مفاهيم ساهمت بشكل كبير في تحديد ملامح أبرز التيارات الفلسفيَّة الحديثة والمعاصرة. هذا التشابك المفهومي منح الحريَّة خصوبة فلسفيَّة، رفعتها إلى درجة الأداة المفهوميَّة التي ستعتمد عليها الفلسفة الحديثة في بلورة تصوّرها عن الإنسان- الفرد من جهة، والإنسان – المجتمع من جهة أخرى. فقد شكَّلت الحرِّيَّة المدخل الرئيسي لكل فلسفة حاولت الإعلاء من قيمة الإنسان، من خلال ترسيخ مركزيته المعرفيَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة. وإعلان استقلاليَّة إرادته عن كل القيود الخارجيَّة، وجعله كائنا ملزما بما يضعه لنفسه. لتصبح حدود الحريَّة هي حدود الإنسان؛ وهي حدود يضعها العقل في خصوصيته وذاتيته أو شموليته وموضوعيته، سواء في علاقة الإنسان بذاته أو في علاقته بالآخرين، ولا دخل للإله في ذلك أو لأية قوَّة لا إنسانيَّة.
من هذا المنطلق فإنَّ تحليل الحرِّيَّة بمعناها الحديث، الذي يبعدها عن التصوُّر الديني، يستدعي من جهةٍ أولى؛ مقاربتها في علاقتها بالعقل باعتباره أصلا للإرادة الفرديَّة، وهو ما يسمح لنا بالاقتراب من الدلالة الفلسفيَّة الحديثة للفرد التي تراهن على حريّته. كما يستدعي من جهةٍ ثانيَّة؛ مقاربة الحريَّة في علاقتها بالقانون باعتباره تجسيدا للعقل وللإرادة في العلاقة الاجتماعيَّة السياسيَّة. وهذا ما يتيح لنا الاقتراب من الدلالة الفلسفيَّة الحديثة للدولة التي تراهن على حريَّة المواطن. هذه العلاقة الثلاثيَّة بين الحريَّة والعقل والقانون، وتدخلها في تشكيل مفهومي الفرد والدولة بمعنييهما الحديثين، تضعنا أمام أسئلة ملحَّة:
ما هي الحريَّة؟ هل هي إرادة مطلقة تسع الكيان الفردي بكل مكوّناته الذاتيَّة، أم أنها إرادة محدودة بحدود العقل الموضوعي؟
-هل يمكن الحديث عن حرّيَّة فرديَّة داخل تنظيم اجتماعي محكوم بسلطة سياسيَّة تتَّخذ قرارات تهمّ شؤون الحياة الاجتماعيَّة؟ بعبارة أخرى، هل القانون المنظِّم لحياة الفرد داخل الدولة يعيق حرّيَّة الفرد أم يحقِّقها؟ وإن شئنا التدقيق، هل طاعة السلطة نفي للحريَّة أم إثبات لها؟
تقيّدا منَّا بهذه الأسئلة، سنعمل على توجيه هذا المقال وفق مسارين متكاملين: مسار سنسلِّط فيه الضوء على علاقة الحريَّة بالعقل من خلال إبراز تمفصلاتها مع مفهوم الإرادة الفرديَّة، ومن ثمّ حصر الحريَّة في البعد الفرداني؛ ثم مسار آخر سنسلِّط فيه الضوء على علاقة الحريَّة بالقانون من خلال إبراز العلاقة التمفصليَّة بين الحريَّة والسياسيَّة، حيث تمَّ حصر الحريَّة في أبعادها الاجتماعيَّة وإسقاط أبعادها الميتافيزيقيَّة، الدينيَّة والإلهيَّة.
الحرّيَّة والعقل: في الحريَّة والإرادة
لسنا نريد استنباط مجهول من معلوم إذا نحن أقررنا أن التناول الفلسفي للحريَّة من زاويَّة العقل، منذ الفلسفة اليونانيَّة، تمحور حول تحديد الحريَّة كإرادة حرَّة عاقلة وإنَّ الحرّيَّة كفعل وكممارسة ترتبط بقدرة هذه الإرادة على فعل ما تريده، أو قدرتها على فعل ما يجب القيام به 1. ويمكن القول إن بناء تصوُّر للحريَّة على قاعدة الإرادة العاقلة، توهَّجت شرارته الأولى داخل الصراع الفكري بين السفسطائيَّة والأفلاطونيَّة.
إن الحديث عن النزعة السفسطائيَّة يرتبط بالحديث عن نزعة فكريَّة حوَّلت اهتمام الفكر اليوناني من الطبيعة إلى الإنسان. لقد أقبلت السفسطائيَّة على التفكير في الإنسان بروح تمجِّد الفرد وتعلي من قيمته، مشدِّدة على استقلاليَّة إرادته، وجعل هذه الاستقلالية محور ارتكاز تصوراتها عن الإنسان-الفرد، إن الإرادة الفرديَّة ليست موضوع استعباد، فهي موطن الفرد الذي يستدعي تطهيره من الخرافات والأساطير والأفكار الموروثة التي تجمِّد الأشياء وتشل صيرورتها. فالفرديَّة ليست تبعيَّة فكريَّة لما هو سائد من الأفكار بل هي استقلاليَّة للوعي، خاصة وأن القول بوجود حقيقة ثابتة، تعتبره السفسطائيَّة مجرد حلم لا يصمد أمام مبدأ الصيرورة والتغيُّر الذي قال به هيرقليطس، وانتقل صداه المدوي إلى الوعي السفسطائي. وعليه فإن الوعي يند عن أي نوع من أنواع تنميط المعرفة أو تجميد الحقيقة أو تحنيط الأفكار، التي تحوِّل الفرد إلى ناسك، أسير، لا يرى العالم إلا من خلال ثقوب مظلمة في معابد مهترئة، غير قادر على رؤيَّة الاشياء من خلال نوافذ وعيه الخاص. لذلك نجد أحد رموز السفسطائيَّة بروتاجوراس،يعلن ان “الإنسان مقياس كل شيء”. فالإنسان هو الذي يحدِّد الأشياء بحسب نظرته إليها، وباختلاف النظر يختلف المعنى. ولعل هذا الإقرار بالاختلاف في الوعي هو ما يفسِّر اهتمام السفسطائيَّة بالخطابة كفن يتيح إمكانيَّة التعبير الحر.
إنَّ ما تصبو إليه السفسطائيَّة من اقرارها بالاستقلاليَّة، هو أن ترمي بالفرد في قلب المسؤوليَّة، فالحريَّة بمعناها السفسطائي ليست إرادة سائبة، بل هي إرادة مسؤولة عن أفعالها. وهو ما يفيد أن القيام بالفعل مشروط بالتعقّل، من خلال الوعي السليم بالرغبات. فأن يفعل الإنسان ما يريد معناه أن يفعل ما يرغب فيه، مع ضرورة أن يضع الرغبة في ميزان العقل. فحريَّة الإرادة، إذن، لا تعني جنون الرغبة وتسيب الشهوة، بل هي اختيار مسؤول، يسعف الفرد على تفجير طاقته، وتثبيت شغفه، وبناء واقعه بوسائله الفرديَّة الخاصة واستراتيجياته الفعالة. وبذلك تتحدَّد الحريَّة كإرادة قويَّة، تستطيع أن تصنع لنفسها مجدا يجعلها أكثر تميّزا وأقوى حضورا. بهذا المعنى مجَّدت السفسطائيَّة الإنسان ليس بوصفه عقلا جامدا بل بوصفه إرادة حرَّة فعاَّلة تؤكِّد ذاتها، هذا بالضبط ما جعل من السفسطائيَّة موقفا استثنائيا داخل بنية يونانيَّة عبوديَّة؛ تجعلنا نقر أنها موقف تنويري يقف ضد استغلال البشر دينيا أو فكريا أو سياسيا، بالتحكُّم في عقولهم ورغباتهم وبالتالي في إرادتهم.
يمكن القول اذن، إنَّ اللحظة السفسطائيَّة بإعلائها من قدر الحريَّة الإنسانيَّة تكون قد ساهمت في إطلاق الصيحات الأولى للنزعة الفرديَّة بما هي استقلاليَّة ذاتيَّة، لتشترك مع اوروبا القرن الثامن عشر في خاصيَّة التنوير2.
هذا المعنى الذي أضفته السفسطائيَّة على الحريَّة، والذي تتحدَّد من خلاله الملامح الجوهريَّة للإنسان السفسطائي، سيلهم فيلسوف إرادة القوة فريدريك نيتشه، لما كتب قائلا: “إن الإرادة الحرَّة هي التحمُّل الكامل والأخير لمسؤوليَّة الأفعال؛ وافراغها من الُله، والعالم، والوراثة، والصدفة، والمجتمع”3.
إذا كان المعنى السفسطائي للحريَّة قد ألهم نيتشه، فهو على العكس من ذلك قد أثار حنق افلاطون ومن قبله أستاذه سقراط؛ الذي أسقط الهوى من مملكة الإرادة كما تبيّن ذلك قولته المأثورة التي ذكرها أفلاطون في كتاب الجمهوريَّة في محاورة سقراط وبولوسُ “إنَّ الطاغية يفعل ما يحلو له لكنه لا يفعل ما يريد”، فمملكة الإرادة هي مملكة الروح العاقلة التي تسيطر على الشهوات. في نفس السياق، وفي سعيه للإطاحة بالإنسان السفسطائي، سيحاول افلاطون تطهير أرض الحريَّة من الرغبات، لأنه سيقيم الحريَّة على التأمُّل الجدلي الذي سيخلص النفس من قيود الجسد. لتتحدّد الحريَّة باعتبارها تحررا للإرادة من ربق الميولات وانفكاكها من اسار الشهوات. وعلى حدّ تعبيره: “اننا لا نعي الحرّيَّة عندما تقع تحت وطأة الرغبات “4.
يبدو أنّ افلاطون لما جعل من الجدل معبرا رئيسيا للحريَّة، يكون قد جعل من المعرفة شرطا للحريَّة، فالتأمّل العقلي وحده كفيل بإدراك صور الخير الجزئيَّة التي تتمثَّل في فضائل النفس الثلاث: الشجاعة والعفَّة والحكمة. بهذا المعنى تأخذ الحريَّة أبعادا أخلاقيَّة تجسِّد قيادة العقل لمختلف القوى الإنسانيَّة الانفعاليَّة والغريزيَّة. وذلك من خلال وضع حدّ لصراعها. ومن ثمّة فإن الإنسان الذي تقوده الشهوات والانفعالات، لا يعرف للفضيلة طريقا ولا يعرف للحريَّة معنى. فالرجل الحرّ هو الرجل الحكيم الذي يسود العقل على رغباته وأهوائه، أما أرجل المستبد هو الذي يظل سجين رغباته وعبدا لشغفه، وهذا ما يوقعه في رذائل الأفعال، ويجعل منه آلة للشر.
ستعمل الفلسفة الدينيَّة في القرون الوسطى، على تبيئة التصوّر الأفلاطوني المثالي للحريَّة، مع توجيهات الكتاب المقدَّس، معتبرة أن تخليص الإرادة الإنسانيَّة من شرور الرغبات مشروط بامتثال العقل للتوجيهات الإلهيَّة. حرصا منها على جعل الدين مجالا لتحرير الإنسان، وشرطا لخلاصه.
ترتيبا على المعنى الأفلاطوني للحريَّة كإرادة عاقلة متحرِّرة من الرغبة، سيملأ كانط دلالة الحريَّة بأنفاس العقل الأخلاقي؛ بدلا من الروح الدينيَّة، معلنا ميلاد الشخص الأخلاقي الحرّ بما هو استقلاليَّة ذاتيَّة، لكونه شيئا في ذاته، قبل أن يكون ظاهرة، لذلك فإنَّ الحريَّة كخاصيَّة للشخص لا يمكن أن نفهمها في حدودها التجريبيَّة، فالإنسان يتصوَّر نفسه حرا حتى ولو كشفت التجربة عكس ذلك. وهذا ما يجعل من الحريَّة فكرة خالصة، أو مفارقة، لا يمكن إدراك مضمونها إلا إذا تحدَّدت كاستقلاليَّة أخلاقيَّة تخضع فيها الإرادة لذاتها باعتبارها علَّة ذاتها. اي ان فعل الإرادة يبدأ من الإرادة نفسها، فالشخص هو الذي يخلق الطابع الخلقي للفعل. لذلك فالإرادة لا تتَّصف بخاصيَّة الحريَّة إلا في مجال الأخلاق. وفي هذا المجال يمكن أن ننتقل من التفكير في الحريَّة إلى معرفتها، من خلال ممارستها، أو بالأحرى الانتقال من الحرىيَّة كفكرة ترنسندنتاليَّة إلى الحريَّة العمليَّة. باعتبارها إرادة تتصرَّف وفقا لقانون أخلاقي عقلي يتَّصف بالكونيَّة والشموليَّة، هو بمثابة قاعدة عقليَّة تضعها الإرادة لنفسها ولا تأتيها من الخارج. وهذا ما صرح به كانط في قوله: “من المستحيل، أن نتصوَّر عقلا يستمد، وهو في وعيه الكامل، توجيها من الخارج لأحكامه، لأن الذات ستعزو إلى دافع، لا إلى عقلها، تحديد مكانتها للحكم”5”. إنها إرادة عاقلة، هي غاية ذاتها، لا توجِّهها رغبة أو يقودها هوى أو تحرِّكها منفعة، بل ما يحرِّكها هو الواجب الأخلاقي المطابق للقانون الأخلاقي للعقل. فالإنسان ككائن عاقل لا يمكن أن يعزو أفعاله إلى دوافع أخرى غير عاقلة؛ وإلا سيظل خاضعا لمملكة الطبيعة، لا يستطيع التحرُّر من ضرورتها. ما نريد قوله هو أن كانط اعتبر الحريَّة إرادة خيِّرة، وهي خيِّرة في ذاتها، ليست مشروطة بالمصلحة أو المنفعة؛ وليست وسيلة بل غاية في ذاتها، لكونها هي الخير في ذاته. فلا دخل للسماء أو للمجتمع في التوجيه الأخلاقي للشخص. فهذا الكائن بطبيعته العاقلة لا يمكن أن يكون موضوع وصاية أخلاقيَّة. وهذا ما جعل مشروعه الأخلاقي متمركزا حول الشخص الأخلاقي كعلَّة وكغاية قصوى لكل فعل أخلاقي، لتظهر الحريَّة مع كانط، بظهور الشخص الأخلاقي، فهو حريَّة أخلاقيَّة، متعاليّة عن أيَّة علَّة خارجيَّة أو طبيعيَّة، إنه إرادة خاضعة لقانون العقل وحده، كقانون أخلاقي. إن الشخص إذن، فاعل أخلاقي وليس مفعولا للأخلاق. فأفعاله الأخلاقيَّة ليست مجرد ردود أفعال تعبر عن أهواء وانفعالات، لا يستطيع من خلالها التحرُّر من مملكة الطبيعة والانتقال إلى مملكة الإنسان أو مملكة الإرادة.
هكذا ستأخذ الحرّيَّة، كإرادة عاقلة، صفة التعالي عن الطبيعة، لتصل إلى مرتبة الكرامة الإنسانيَّة. فإن تكون إنسانا يعني أن تكون أفعالك الأخلاقيَّة تطبيقا عمليّا لإرادتك الخيِّرة او بالأحرى العاقلة، من خلال تفعيل أوامرها الأخلاقيَّة الكليَّة والشموليَّة. لكن هل الإرادة لا تكون حرَّة إلا بخضوعها التام للعقل؟ الا تتعدَّى حريَّة الإرادة حدود العقل؟
لن يوقف ديكارت حرّيَّة الإرادة على تطابقها مع العقل؛ فهي حريَّة ترتفع إلى مستوى أعلى من الفهم، لأن الإرادة لا حدود لها، لدرجة انه يماثل بينها وبين الحريَّة الإلهيَّة. فقد كتب في هذا الصدد: “أما الإرادة أو حريَّة الاختيار، التي اختبرها في نفسي، بحيث لا أتصور غيرها، أوسع منها ولا أعظم، إنها التي تجعلني أعرف، خاصة، أني على صورة الله. ومثاله”6. تتحدَّد الإرادة كحريَّة اختيار فهي بمثابة القدرة على فعل شيء أو عدم فعله دون إكراه من قوة خارجيَّة. أمَّا عدم الاختيار أو اللامبالاة فهو أدنى درجات الحريَّة. وبذلك يكون ديكارت، قد فصل بين الإرادة والعقل؛ فهدا الأخير يعاين الأفكار الواضحة والمميَّزة لكنه لا يرغم النفس على فعلها او عدم فعلها. فالإرادة هي التي تصدر الحكم، وإذا كان حكمها سيئا، تقع في الخطأ، والعكس صحيح، يقول ديكارت في التأمُّل الرابع” ونظرت حينئذ إلى نفسي نظرة تعمُّق واستقصاء وأخذت أتحرَّى عن خطأي الذي يدل على أن فيّ نقصا؛ فوجدت أنه يعتمد على علتين: هما قدرتي على المعرفة وقدرتي على الاختيار؛ أي على الحكم.”7على هذا الأساس، تعتبر الإرادة الحرَّة كملكة للاختيار مدخلا للسوء أو بالأحرى للخطأ إذا استسلمت للهوى بشكل مطلق.
يتبيَّن إن ديكارت جعل من الذات سيدة القرار، ليحمل الإنسان مسؤوليَّة اختياراته، ممهدا بذلك لبزوغ فهم جديد لفكرة الحريَّة الفرديَّة، ومن ثم المساهمة في إعطاء دفعة قويَّة لتبلور مفهوم جديد للفرد. ينبني على كونه مجموعة من القدرات الذاتيَّة، التي تؤهِّله للمعرفة من جهة، ولاتِّخاذ القرار من جهة أخرى. لقد منح ديكارت مجالا واسعا للإرادة الفرديَّة، تجاوز حدود العقل؛ غير إنه لم يستسغ تمرّدها عليه، واعتبر هذا التمرُّد من مسبِّبات الوقوع في الخطأ، ليظل التصوّر الديكارتي لحريَّة الإرادة وفيا للتصوّر اللاهوتي التراجيدي للحريَّة الذي حمّل حريَّة الإرادة عبء الشرور والرذيلة؛ وبرأ الله من أخطاء الإنسان.
بعيدا عن هذا التقليد الفلسفي الذي قابل في تصوّره للحريَّة بين العقل والأهواء؛ وأقر بوجود إرادة حرة؛ سيبلور اسبينوزا تصورا مغايرا للحريَّة، انطلق فيه من الجمع بينها وبين الضرورة، نافيا القول بوجود إرادة حرَّة. هذا القول الذي يرجعه سبينوزا إلى وعي الإنسان بأفعاله وجهله بعللها الحقيقيَّة؛8 معتبرا أن الإنسان جزء من الطبيعة، محكوم بقوانينها مثله مثل سائر الموجودات. فلم يعد الإنسان امبراطوريَّة داخل امبراطوريَّة؛ كما كان الاعتقاد سائدا. لقد غدا الإنسان كنفس وكجسم، موجودا وجوده ضروري. فهو كائن فرض عليه أن يبذل جهدا للاستمرار في وجوده. وهذا الجهد هو الرغبة conatus. والرغبة وعي بالشهوة؛ والشهوة بتعبير سبينوزا هي جهد النفس والجسم معا 9. ولا يمكن للإنسان التصرُّف خارج هذه الماهيَّة. تماشيا مع ذلك، لم تعدّ الحريَّة تأخذ معنى مواجهة الضرورة؛ بل التصرُّف وفقها، من خلال المعرفة العقليَّة الواضحة بالرغبة، حتى تكون الرغبة فاعلة، يعبّر بها الإنسان عن ذاته، ولا تكون غريبة عنه، بل نابعة منه وتابعة له. إن المعرفة العقليَّة بأصل الرغبات، هي القدرة الأصيلة في الإنسان، والتي ينبغي أن تنبثق عنها أفعاله. ويتصرَّف انطلاقا منها ليرتقي بسلوكه من مستوى الانفعال إلى مستوى الفعل؛ وينتقل بذاته من حالة السلبيَّة إلى حالة الفاعليَّة الايجابيَّة. إن المعرفة العقليَّة بالدوافع الحقيقيَّة للفعل، تمكّن الإنسان من التحرُّر من الأحكام المسبقة والأفكار النمطيَّة والانفعالات السطحيَّة، التي لا علاقة لها بأفعاله. هكذا، إذن، تتحدَّد الحريَّة كتدبير عقلي للرغبات يبرز تحرُّر الفرد من سطوتها وهيجانها وهنا تأخذ الحريَّة دلالتها الايتيقيَّة؛ التي تتمثَّل في السيطرة على الأهواء والتحكُّم في الانفعالات، وليس التخلص منها، كمدخل أساسي لعقلنة السلوك الإنساني. وسيعمل اسبينوزا على تطعيمها بدلالة سياسيَّة في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة”؛ هذه الدلالة التي سنقف عليها فيما بعد.
وبغيّة انتزاع مصداقيَّة الحريَّة من مصادقة العقل كان من الضروري توسيع معنى الحريَّة ليغطي مساحة الوعي الفردي بمختلف مكوناته الذاتيَّة. وهذا ما ستضطلع به الفلسفة المعاصرة، خصوصا الفلسفة الوجوديَّة التي حاولت توسيع دائرة النزعة الإنسانيَّة كنزعة فرديَّة. حيث ستزيد من العمق الانطولوجي لمعنى الحرّيَّة لترفعها إلى مستوى الوجود. ستنظر إلى الحريَّة من منطلق أن الإنسان موجود أولا وبعد ذلك تتحدَّد ماهيته.
سيجعل سارتر من الحريَّة مركزا للوجود الإنساني بل ماهيَّة له؛ لما جعل منها قدرا للإنسان. لأن هذا الأخير موجود لذاته منفتح على ممكنات لا حصر لها، تعكس سيرورة التحوُّل المستمر كسيرورة هدم وبناء، فالحريَّة عدم في قلب الوجود؛ على حد تعبير سارتر؛ يقتلع بها ذاته مما هي عليه نحو ما ستكون عليه. وهنا يبدو جليا مراهنة الوجوديَّة على الفعل، الذي يتحدد كقدرة على تغيير الأوضاع، يتحدَّد معه الإنسان كمشروع. إن الإنسان مشروع يحيى ذاتيا وليس شيئا آخر قبل ذلك المشروع.10- فهو يصنع نفسه بنفسه، ومنه فإن الإنسان هو الحريَّة نفسها.
هكذا يقدِّم سارتر الحريَّة كحقيقة واقعيَّة تترجمها مجموع أفعال الإنسان التي يحقِّق بها نفسه بشكل مستمرّ كمشروع مفتوح على المستقبل. فالفرد يلقي بنفسه في المستقبل من خلال الأفعال التي يقوم بها؛ ومن تم يتحمَّل مسؤوليَّة وجوده وطبيعة مصيره. فلم تعد هناك غاية كونيَّة أو إلهيَّة تتحكَّم في مسار حياته الشخصيَّة، كما لم تعد هناك قوة مفارقة تخط قدره، وتجري حياته في مجراها. لقد حاولت الوجوديَّة أن تخلص الوعي الفردي من ثقل الضرورات والإكراهات، لتجعل منه وعيا منخرطا في سيرورة حياته التي تعكس تدفقه الحرّ ولا دخل لقيم دينيَّة او تاريخيَّة او سياسيَّة فيما سيكون عليه.
مجمل القول، إنَّ مقاربة الحريَّة من جهة العقل تتجذَّر في أرض ميتافيزيقيَّة أخلاقيَّة وأنطولوجيَّة شهدت صراعا فكريا يصعب الحسم في تحديد الرأي الذي يمكن ترجيحه، لدرجة تبدو فيها الإرادة الحرَّة، متأرجحة بين الموضوعيَّة التي ترتبط بالضرورة العقليَّة، وبين الخصوصيَّة التي ترتبط بالذاتيَّة الفرديَّة.
وهذا ما سيفضي بنا إلى الانفتاح على المقاربة السياسيَّة لمفهوم الحريَّة، كمقاربة اجتماعيَّة، تحاول التوفيق بين الذاتي والموضوعي في الحريَّة الإنسانيَّة، من خلال رصد دلالة الحريَّة في علاقتها بالقانون.
الحريَّة والقانون: في الحريَّة والسياسة
إنَّ تحليل مفهوم الحريَّة في المجال السياسي يقتضي تفكيك مختلف أبعاد علاقة الحريَّة بمفهوم القانون. وفي هذا الإطار، سنعمل على إبراز تشكُّل مفهوم الحريَّة السياسيَّة داخل نظريَّة العقد الاجتماعي، وهي نظريَّة تبلورت بشكل واضح في الفلسفة السياسيَّة الحديثة التي واكبت التطوّرات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي عرفتها المجتمعات الغربيَّة في العصر الحديث.
إنَّ معظم أفكار نظريَّة العقد الاجتماعي، جاءت لتعيد النظر في أصل الدولة وشروطها وغاياتها. وقد ركزت بشكل جوهري على مشروعيَّة السلطة السياسيَّة، كمشروعيَّة تستمد وجودها من الوجود الإنساني، وليس من الوجود الإلهي. محاولة بذلك إسقاط الوصاية الإلهيَّة على حياة الناس الإجتماعيَّة. فمشروعيَّة السلطة تقوم على تنازل الأفراد عن بعض من حريتهم لصالح الحاكم، مقابل حمايَّة الحقوق الأساسيَّة، التي تعتبر ممارستها ممارسة فعليَّة للحريَّة. ستحرص هذه النظريَّة على مأسسة الحريَّة، محاولة تشييدها على مفهوم القانون، حتى يتسنَّى لها بناء دلالة سياسيَّة جديدة لمفهوم الطاعة، بعيدة عن معاني القهر والاستبداد والاستعباد. وبالتالي التمكُّن من توثيق الصلة بين الحريَّة والسلطة السياسيَّة.
في مشروعها التجديدي هذا، ستعمل هذه النظريَّة على اجتثات أحد أقوى الأسس اللاهوتيَّة للدولة وهو القانون الإلهي، ليتأتَّى لها تخليص المجتمع من مختلف المفاهيم السياسيَّة التيولوجيَّة التي ألبست السلطة السياسيَّة زيّ القداسة، وبرّرت الأحوال السياسيَّة والاجتماعية اللاإنسانيَّة، بالقدر وبالمشيئة وبالغايات وبالابتلاءات الإلهيَّة. هذه المفاهيم التي كانت وراء ترسيخ وعي سياسي لدى الأفراد مهووس بفكرة الضرورة الإلهيَّة، التي جعلته عاجزا عن إدراك العلاقة الموضوعيَّة بين الواقع الاجتماعي والممارسة السياسيَّة، وعن إدراك دور الفرد وأهميته في تشكيل الواقع السياسي، وفي تقرير مصيره الاجتماعي، من خلال المساهمة في امكانيَّة تطويره وتغييره. ويعتبر مفهوم القانون الطبيعي الآليَّة المفهوميَّة التي استندت إليها نظريَّة العقد الاجتماعي، لتخليص الأرض الإنسانيَّة السياسيَّة من القانون الإلهي، وطرد الإله من المدينة، وهذا ما فسح المجال لتشييد مفهوم الحرّيَّة على دعامة القانون الإنساني، وبالتالي تثبيته في تربة الدولة، ونفث روحه في أنفاس السلطة.
لقد اعتبرت نظريَّة العقد الاجتماعي إن القانون الطبيعي هو القاعدة الكونيَّة التي تسري على الجميع، فهو تعبير عن ضرورة طبيعيَّة؛ في حين إن القانون الإنساني أو بالأحرى القانون الوضعي هو المجال الفسيح للحريَّة. هو الأرض الرّحبة للإرادة الإنسانيَّة. ان هذا التمييز هو ما سيبرِّر تركيز فكرة العقد الاجتماعي على مفهوم الحق الطبيعي كأداة مفهوميَّة لتحليل مشكلة العلاقة بين القانون والسلطة والحريَّة. فهل يمكن الحديث عن حريَّة داخل السلطة؟ كيف تتحدد الحريَّة مع تواجد قوانين مقيّدة؟ كيف تجتمع الحريَّة والطاعة في بيت واحد؟
سنركِّز في مقاربة هذا الإشكال على رائدين من رواد نظريَّة الحق الطبيعي وهما باروخ اسبينوزا ثم جون جاك روسو. الأول بنى مشروعه الفكري السياسي على أسس أنطولوجيَّة جديدة كسرت المسافة بين العقل والجسد، وجمعت بينهما في الرغبة الإنسانيَّة او CONATUS، متجاوزا بذلك المقاربات الاأطولوجيَّة التي كانت سابقة عليه. أما الثاني فهو الفيلسوف الذي دفع بنظريَّة العقد الاجتماعي إلى أبعد حدودها، وعرفت به أكثر من هوبز و جون لوك الذين سبقوه لها، فكتابه “العقد الاجتماعي” نال شهرة كبيرة وكانت لأفكاره آثار قويَّة على الثورة الفرنسيَّة في القرن الثامن عشر(1789)،لدرجة أنه اعتبر إنجيلا للثورة التي تولّت شرح مبادئه.11
ستعلي الفلسفة اسبينوزيَّة من شأن الحريَّة في الممارسة السياسيَّة، فالحياة الاجتماعيَّة السياسيَّة تعتبر الواجهة الأساسيَّة للمشروع الأنطولوجي لسبينوزا، هذا المشروع الذي جعل من « CONATUS » دعامته المفهوميَّة الجوهريَّة. ويقصد به الجهد الذي يبذله الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة، وبشكل مستمر، للحفاظ على استمراريَّة وجوده من خلال تطوير حياته نحو الأفضل. هذه الضرورة الأنطولوجيَّة تستلزم حياة مدنيَّة سليمة تحترم طبيعة الإنسان، حياة مدنيَّة تنبني على سلطة سياسيَّة، تستطيع النهوض بالحياة الاجتماعيَّة للأفراد، من خلال إقرار قوانين عاقلة تنظم العلاقة بينهم، وتسمح بممارسات مدنيَّة معقلنة تساهم في إنتاج فضاء سياسي أخلاقي إنساني لا مجال فيه لسطوة الانفعالات أو لحماقة الأهواء أو لهمجيَّة الرغبات، يتيح للحاكم والمحكوم الانخراط الفعلي في المجال العمومي كمجال أخلاقي عقلي حرّ. من هذا المنطلق سيحرص اسبينوزا على إيلاء عناية كبيرة لمفهوم الطاعة خصوصا في كتابه” رسالة في اللاهوت والسياسة”، حيث سيمنح دلالة جديدة لهذا المفهوم توثّق الصلة بين السلطة و الحريَّة والقانون، إلى حدٍّ سيجعل من الحريَّة غاية للدولة.يقول سبينوزا: “إنّ الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو أن يقع الفرد تحت نير الآخرين، بل تحرير الفرد من الخوف…أي أن يحتفظ الفرد بحقّه الطبيعي في الحياة دون إلحاق الضرر بالغير”12. فالدولة هي المجال الاجتماعي الذي يحصِّن قدرة الأفراد على الفعل بتحرير عقولهم من مثالب الخوف ومن تهوُّر الانفعالات، مما يمكِّنهم من النهوض بإنسانيتهم وتطوير وجودهم. إنَّ الدولة بهذا المعنى جماعة سياسيَّة عاقلة، يسودها القانون ولا يسودها الحكَّام أو القوَّة. وطاعة السلطة فيها هي عينها طاعة للقانون، ما دام القانون هو العقل الذي يؤطِّر الحقّ الطبيعي ويوجهه، فأن يتمرَّد الفرد على السلطة بعصيانه للقانون، ويتصرَّف، بموجب الحق الطبيعي، أي وفق قراراته الشخصيَّة، سيؤدي به ذلك إلى الانزياح إلى الشهوة فيقع في رذائل العنف والمكر والخداع… لأن تغليب الشهوة على العقل يجعل من سلوكات الإنسان مجرد انفعالات غالبا ما تسفر عن صراع وصدام بينه وبين الآخرين؛ فيصبح الخوف هو الرابط ا بين الناس. ان حالة الطبيعة هاته، لا تسمح للإنسان بأن يتصرف وفق العقل الذي يعتبر القدرة الوحيدة لدى الإنسان، الكفيلة بالارتقاء بسلوكاته من مستوى رد الفعل إلى مستوى الفعل. لذلك فإنه من الضروري أن يوجّه الأفراد شهواتهم بالعقل من خلال التوافق على قوانين تنظّم ممارساتهم داخل الجماعة السياسيَّة. إنها الجماعة السياسيَّة التي تدبر رغبات الأفراد، انطلاقا من قوانين، تسري على الجميع، الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، النساء والرجال. لتحول دون تسرّب الشهوات إلى العلاقات الاجتماعيَّة، ودون الوقوع في العنف أو في كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بحياة الآخرين ويهدِّد وجودهم ويعيق تدفّق CONATUS.
هكذا يكون سبنوزا قد جعل من القانون المدني ومن الحياة السياسيَّة وسيلة لتحرير الأفراد من عبوديَّة الانفعالات وعشوائيَّة الشهوات التي تضعف درجة الحفاظ على الوجود؛ وتضع حدّا لعبوديَّة السلطة التي ليست سوى وسيلة لتوفير شروط انسانيَّة تحافظ للأفراد على حقّهم الطبيعي في استخدام العقل أي في التفكير والتعبير. لذلك فالسلطة السياسيَّة مطالبة بتجنّب العنف والتجهيل والمراوغة والخداع.
بناءً عليه، تتحدَّد الحالة المدنيَّة، كما قدمها اسبينوزا، كامتداد معقلن للحالة الطبيعيَّة حيث تمَّ إلحاق حالة الطبيعة بالحالة المدنيَّة، ولم تعد الحالة الأولى ماضيا متأزّما أدى إلى تولد الدولة، كما أبرز ذلك توماس هوبز. إنَّ دولة سبينوزا متجذّرة في الطبيعة الإنسانيَّة فهي تعكس العقل كقدرة طبيعيَّة تحرص على ضبط الهوى كقدرة طبيعيَّة أخرى. وعليه فان في طاعة القانون حريَّة تتمثَّل في التحرُّر من عبوديَّة الأهواء وعبوديَّة الحكام. إنها استقلاليَّة ذاتيَّة عن الهوى، تتمثَّل في الالتزام بالقانون المدني، الذي يعتبر في حدِّ ذاته التزاما بالعقل، وتحرّرا من الخوف من الآخرين. بذلك تعتبر طاعة القانون شرطا جوهريا في تطوير العلاقات الإنسانيَّة المدنيَّة. في حين أن في خرق القانون عبوديَّة للأهواء، لا تزيد العلاقات الإنسانيَّة إلا رداءة، لأنَّ الأهواء تفرق ولا توحد، وتجعل الضعيف تحت رحمة القوي، والمحكوم تحت رحمة الحاكم. وهذا ما جعل اسبينوزا يشدِّد على عدم التمرُّد على القوانين، وعصيان السلطة حتى ولو كانت هذه القوانين محط نقد ورفض. فالقوانين وحدها تحدِّد الخير العام. والمواطن الحقّ هو الذي يحترم قوانين الجماعة السياسيَّة التي تصبّ في المصلحة العامَّة، ومنه في مصلحته الشخصيَّة. إنَّ طاعة المواطن للقانون ليست عبوديَّة للسلطة أو للحاكم بل طاعة للحق.
فالدولة المدنيَّة، هي دولة الحريَّة، فهي جسم سياسي متآلف يتشكل من أناس عقلاء وأحرار. إنها فضاء سياسي تتضافر داخله قدرات الأفراد وتتوحد قوتهم حول المصلحة العامَّة، من خلال طاعة السلطة بماهي طاعة للقوانين وطاعة للعقل. أمَّا الدولة المتوحِّشة، فهي دولة تعادي الحرّيَّة، عندما تبثّ الخوف في نفوس الأفراد، وتحرص على ترهيبهم باستمرار، لتلجم أفواههم وتقيد عقولهم، فتهدر حقّهم في التفكير وحقّهم في التعبير وفي مختلف الأفعال والممارسات التي تطوّر وجودهم. إنَّ الشعوب التي تحكمها أنظمة سياسيَّة استبداديَّة، تعيق كل إمكانات الحريَّة التي تتمثَّل في تثبيت القانون، وتقديم المصلحة العامَّة، وتوفير الشروط الأخلاقيَّة للحوار البناء، وللتفكير الحر، وللتعبير الحر… فتتحوَّل شعوبها إلى شعوب بربريَّة، تضع القانون تحت نعالها، فتستعبدها الشهوات وتسجنها الأهواء. في مثل هذه الدول تتحوَّل القوانين إلى قرارات شخصيَّة تصبُّ في مصلحة شخص أو فئة معيَّنة، ليتحوَّل المجتمع إلى ضيعة من العبيد يمتلكها عدد قليل من الأسياد.
من المؤكَّد أن مثل هذا الوضع لن يرضي فيلسوفنا، ولن يرضي أي شخص يعرف معنى الحريَّة داخل الدولة، لذلك أعطى اسبينوزا مشروعيَّة للعصيان-رغم كونه حالة انفعاليَّة- في مثل هذه الدول. فالعصيان يستمدّ مشروعيته السياسيَّة من الحقّ في الحرّيَّة، واستمراريَّة الدولة مشروطة برعايتها لهذا الحق؛ا لذي يعتبر شرطا أساسيا يمكن الأفراد من المثابرة على الاستمراريَّة أو بالأحرى تطوير الوجود.
عموما جعل اسبينوزا من الحريَّة عنوانا بارزا للسياسة، يكفل وضع حدّ للتصادم بين السلطة والحرّيَّة الفرديَّة، ويتيح إلى حدّ ما، توافقا بينهما، يسمح برفع درجة التعايش بين الحريَّة والقانون إلى مستوى عال. لتتحدِّد الحرّيَّة بمعناها السياسي كواقع اجتماعي، مؤسَّساتي، قار تصونه السلطة التي تحرص على احترام القوانين13
ستزداد العلاقة بين الحريَّة والقانون، وبين الحريَّة والسلطة السياسيَّة لدى جون جاك روسو قوَّة رسوخا، من خلال محاولته إيجاد صيغة اجتماعيَّة تسمح بتعايش الإرادات، توحيدها في إرادة واحدة هي الإرادة العامَّة، التي سيؤسِّس لها أخلاقيّا بمفهوم الحقّ الطبيعي.
سيصوغ جون جاك روسو تصورا جديدا لحالة الطبيعة، يسحب عنها طابع الوحشيَّة الذي وسمها بها توماس هوبز، في كتاب “الليفياتان. فهي بالنسبة لروسو حالة سعادة وهناء، تقوم على المنفعة والشفقة- وحالة الطبيعة كما صرح بذلك روسو في كتابه “اصل التفاوت بين الناس” مجرد افتراض فلسفي استدعته منهجيَّة تحليل ونقد المجتمع-والأمن والسلام، نظرا لاكتفاء الإنسان الطبيعي بحاجات طبيعيَّة جد محدودة، يستطيع إشباعها دون حاجة إلى التنافس والصراع مع الآخرين. إضافة إلى ذلك فهو بطبعه لا يرغب في إلحاق الاذى بغيره-14. انطلاقا من حالة الطبيعة يكشف لنا روسو أن القاانون الطبيعي بما يفرضه على الإنسان من إشباع غريزة البقاء، من خلال الاستجابة لحاجيات بسيطة ومحدودة، يقي الإنسان التصادم مع الآخرين ويقوي لديه الشعور بالرأفة اتجاههم. إنه قانون يلغي كل أسباب التفاوت والتفاضل بين البشر، قانون يحقِّق المساواة والحريَّة وبالتالي كل أسباب الصراع. لقد أراد روسو من ثنائه على حالة الطبيعة أن يكشف مساوئ المجتمع الاصطناعي ويعري تهافت الإنسان المدني على الثروة والسلطة وكل الخيرات على حساب معاناة وآلام الآخرين، ممَّا يكون وراء هدر الحقّ الطبيعي في الحريَّة والمساواة.
ولإخراج المجتمع الاصطناعي من هذا الوضع المأزوم الذي ينسف الحريَّة كحقٍّ طبيعي، صاغ روسو نظريته في العقد الاجتماعي، باعتبارها وصفة سياسيَّة أخلاقيَّة، تسمح للفرد أن يتَّحد مع الجماعة دون التنازل عن حريته، بحيث لا يكون تابعا لأي أحد سوى إرادته. لذلك سيضع روسو تصوّرا شموليا للإرادة العامَّة بماهي إرادة كل فرد، تتحقَّق من خلال تنازله عن حقوقه تنازلا تاما 15. وبموجب هذا العقد يصبح القانون المدني تعبيرا عن إرادة الجميع، ومن ثم عندما يطيع الفرد القانون فهو لا يطيع أحدا بل يطيع نفسه ويخضع لإرادته. وما دامت الإرادة العامَّة تجمع كل الإرادات، فهي تعبير عن ما يصبو اليه الجميع، أو بالأحرى تعبير عن المصلحة العامَّة، المتمثِّلة في الحريَّة والمساواة. والحريَّة التي يقصدها روسو هي طاعة القوانين التي يساهم الفرد في وضعها، فهي حرّيَّة اخلاقيَّة لكونها امتثال الفرد لإرادته، ومدنيَّة لكونها التزام الفرد بالقانون. هكذا يحكم الفرد على نفسه أن يكون حرّا بالعقد.
وبما أنَّ الإرادة العامَّة تنشد المصلحة العامَّة، فهي التي تسنّ القوانين التي تعلوا على جميع الإرادات الجزئيَّة، مما يجعل منها الأساس الشرعي للسيادة. من هذا المنطلق اعتبر روسو الحكومة مجرد وسيط بين المواطنين والإرادة العامَّة فهي صلة الوصل بينهما بحيث تحرص على تنفيذ القوانين وحماية الحريَّات المدنيَّة والسياسيَّة.
إنَّ الحريَّة بالنسبة لروسو لاتتحقَّق إلا داخل المجتمع الذي يسود فيه الكل على الكل، ولا يخضع فيه أحد لأحد. لأن السيادة هي نفسها إرادة عامَّة يساهم الجميع في بلورتها، وبذلك يصبح المواطن سيد نفسه في ارتباطه بجماعته برابطة القانون.
مجمل القول، تشكِّل فكرة التعاقد الاجتماعي منعطفا قويا في النظريَّة السياسيَّة، لكونها أضفت طابعا اجتماعيا جديدا على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، قوامه الاعتراف بإرادة الفرد كشرط جوهري في مشروعيَّة علاقات السلطة، وفي مشروعيَّة مختلف الممارسات الاجتماعيَّة التي أصبحت عبارة عن التزامات توافقيَّة، تعبِّر عن حريَّة الافراد. لتضع بذلك حدّا لكل أشكال الاستبداد والخضوع والإكراه. ستصبع فكرة العقد الاجتماعي تعبيرا عن ظهور الذات الفرديَّة الحرة كمحور ارتكاز الحياة السياسيَّة. بعدما جعلت من فرضيَّة حالة الطبيعة تأصيلا للحريَّة والمساواة، باعتبارهما مبدأ وغاية كل حياة سياسيَّة اجتماعيَّة. بذلك يمكن اعتبار هذه النظريَّة نظريَّة سياسيَّة في الحريَّة؛ أعلنت ميلاد الفرد-المواطن الحر- كفاعل اساسي في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وجعلت من فاعليته واستقلاليته شرطا لمواطنته، ضاربة في العمق تدخل العوامل الثقافيَّة والطبيعيَّة والاقتصاديَّة في تحديد موقعه في مختلف العلاقات الاجتماعيَّة، متجاوزة بذلك المجتمع التقليدي الذي يربط موقع الفرد من السلطة ومن القانون بانتمائه الثقافي والطبقي والاقتصادي. وهذا ما جعل الفكر السياسي المعاصر يعيد بعث روح هذه النظريَّة، حيث نسجِّل لها حضورا قويّا لدى المفكِّر الأمريكي جون راولز في نظريته في العدالة حيث جعل منها دعامة اساسيَّة لتحقيق العدالة في المجتمع الليبرالي.
ختاما يمكن الإقرار، أن الحريَّة في غنى دلالتها تتَّخذ أبعادا أخلاقيَّة وسياسيَّة وانطولوجيَّة، كلها ترتكز على مفهوم الاستقلاليَّة باعتبارها من جهة أولى، تحيل إلى الفرد كإرادة حرَّة تتحمَّل مسؤوليَّة أفعالها، وهي مسؤوليَّة نابعة من كونه كائنا يحظى بملكة العقل التي تخوله التفكير في الفعل من حيث دوافعه؛ وأهدافه؛ وكيفيَّة تحقيقه، ونتائجه عليه وعلى غيره …ومن جهة ثانية، تحيل إلى الفرد كإرادة حرَّة مواطنة تتحقَّق من خلال طاعة القانون الذي يساهم في وضعه، لتأخذ الاستقلاليَّة معنى الحريَّة المدنيَّة. يتبين جليا، إذن، إنَّ تأسيس الحريَّة على مفهومي العقل والقانون، يمنحها دلالتين متكاملتين: دلالة ذاتيَّة، تعتبر فيها الحريَّة استقلاليَّة ذاتيَّة تستمدّ مشروعيتها؛ على مستوى الفرد كفرد، من العقل. ثمَّ دلالة موضوعيَّة تعتبر فيها الحريَّة استقلاليَّة موضوعيَّة، تستمدُّ مشروعيتها على مستوى الفرد كعضو داخل جماعة سياسيَّة؛ من القانون.
وغني عن البيان أننا اليوم، في أمسِّ الحاجَّة إلى بناء الحريَّة بهذا المعنى المزدوج والمتكامل في وعينا العربي، حتى تتمكَّن مجتمعاتنا العربيَّة من تجاوز معضلاتها السياسيَّة، المرتبطة بالاستبداد والطغيان واستعباد البشر من طرف الحكَّام، والتهافت اللامشروع على السلطة والمال العام. وحتى تتمكَّن من تجاوز أزماتها الاجتماعيَّة، والثقافيَّة المرتبطة بتراجع الوعي بقيمة الفرد وأهميَّة استقلاليته في مواجهة التحدّيات المحليَّة والعالميَّة؛ لأن المجتمعات اليوم لا يغيرها الحكام بل يغيرها المواطن. ولن يتأتَّى ذلك إلا بتحرير العقل لعربي بواسطة المعرفة والعلوم من المعتقدات السائدة التي تضع حدا لإعمال العقل في علاقة الإنسان العربي بذاته، وكذا في علاقته بجماعته، وتفسح المجال للخرافة والأسطورة المؤدلجة، التي لا زالت تغزو وعيه الذاتي ووعيه السياسي، وتجعله في حالة قصور فكري، تفقده الشعور بفرديته وبأهميته في تحديد مصيره داخل جماعته. إضافة إلى ذلك لا بد من تحرير السلطة من البنيات التقليديَّة، التي تحوّلها إلى ملكيَّة خاصة أو حظوة أو موروث تاريخي.
1-ليبنتز”مقالات جديدة في الفهم الإنساني” الكتاب الثاني نشرة جاك برانشفيك، فلاماريون،1990، صفحة 137
2-عبد الرحمان بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربيَّة للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت،1984 ، صفحة592.
Par-delà le bien et le mal, coll « 10/18 », U. G. E., 1976 3-
4-ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة علم السياسة، صفحة167
5-“تاسيس ميتافيزيقا الاخلاق كانط ترجمة دلبوس صفحة 183-184
6-روني ديكارت، تاملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان امين، المركز القومي للترجمة، القاهرة،2009، صفحة 187
7-المصدر نفسه، صفحة،185
Spinoza, Lettre à Schuller, trad. R. Misrahi, coll. « Bibliothèque de8
La Pléiade », Gallimard, 1954, pp. 1251-12
L’ethique.vrin.proposition7.scolie de la proposition 8.3éme –partie9-
l’existentialisme ets un humanisme ;ed.Galimard ;1996.p3-10
-11ف.فولغين؛”فلسفة الأنوار”ترجمة هنريبت عبودي، دار الطليعة، لبنان، الطبعةالأولى؛2006، ص232
-12رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الهيئة المصريَّة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، صفحة.44
13- Alain Billecoq, Questions politiques, Quatre études sur l’actualité du Traité- Politique,- 13 132, Paris, L’Harmattan, 2009
14-أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بوليس غانم، اللجنة اللبنانيَّة لترجمة الروائع، بيروت؛1972صفحة 36
15-جون جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي”، ترجمة عزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربيَّة بيروت، الطبعة الاولى؛2011؛ص93.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.