يعد الإنسان الكائن الأعظم الذي قذف به إلى معترك هذا الوجود وأعظم مشكل أيضا، لأنه وجد نفسه داخل ازدواجية/ ثنائية أنطولوجية تعبر عن كينونته، حيث ينقسم وجوده إلى جسد أو حيوانية كجانب أول منه، لكن في الجانب الآخر هناك روح أو حرية. ولا سبيل لتفسير الحب وفهم أبعاده لو اقتصرنا على إرجاعه إلى الجانب الأول «الجسد» كحاجة جنسية، غير أن الواقع سنجد الحب يتجاوب/ يتمازج/ يتماهى مع السمو السيكولوجي للموجود البشري، من حيث أن هذا الموجود سواء باتصاله بالأرض/الإنسان أو بالسماء/الله هو في حاجة ديناميكية مستمرة إلى أن يحب وأن يحب وأن يربط جميع الجسور الموصلة إلى الحياة بواسطة الكراهية أو الحب في غالب الأحايين. ورغم ما تفعله يقظة الغرائز الجنسية كونها تساعد على خلق الجو النفسي الملائم لميلاد الحب، فإن المعنى الحيوي للحب يتجلى في التحرر من العزلة النفسية، لذلك فالحب إذن هو الوعاء الذي يسمح لشخصين بأن يكونا من هما ذاك الجسد الواحد بروحين أو جسدين بروح واحدة.
والحب هنا نداء يحاول الانسلاخ عن الذات لكي ينشد الآخر مما يجعل من الذات المحبة هي الأنت/ الآخر إلا أنها غيرها، كون الحب بعيد كل البعد أن يكون تعبيرا عن النرجسية المتعالية أو التمركز الذاتي لفتح حوار جواني مع الذات، لأن كلما اتسعت دائرة حب الذات، فإنها لن تستطيع أن تستوعب حب الغير، وكما أن المرء لا يتعلم كيف يريد فإنه لا يتعلم أيضا كيف يحب، بيد أنه يجب أن يتجه دائما نحو الآخر/ الأنت ويعبر باستمرار عن وجود حبل متين بينه وبين الذات التي هي في نهاية المطاف صورة الآخر نفسها، وهو بذلك ينتقل من عالم الانشغال بالذات إلى عالم التثنية، حيث تكون المحبة والمساواة والاعتراف والتقدير والاختلاف أساس العلاقة، وبهذا المعنى لا يعني الحب أننا نحب الآخر لأننا بحاحة إليه، بل الأنا/ النحن في حاجة إليه لأننا نحبه، وهذا هو نشيد كل أناشيد الحب.
إن حب الآخر أعظم صورة من صورة حب الذات، وحبه لا يكون كما تريده الذات، بل كما هو مغاير لها ومختلف عنها، وهذا استنادا إلى الحب نفسه، كونه يفرض الثنائية باعتبارها قواما/ أساسا لإمكان بدايته وقيامه، ففي الحب إذن علاقة بين حدين لا يتمايز الواحد منهما عن الآخر إلا لكي يساند أحدهما الآخر أو كما قال الفرنسي المعاصر لويس لافل: « أنا حين أحب فإنني أتصور الآخر باعتباره مختلفا عني، ومن ثم فإنني أريده من حيث هو ذات أخرى، لا من حيث هو ذات أمتلكها أو ذات موجودة بالقياس إلي»1، لذلك ليس الحب الحقيقي هو ذاك الذي ينشد نفسه لدى الآخر، بل هو ذاك الذي يريد أن ينسي نفسه في الآخر وينبثق من داخله بلون جديد، وفي نفس الوقت يكون رائد الذات البحث عن الخير الأعظم/ حب الآخر، بحيث تكون سعادته هي الهدف الذي تعمل من أجله الذات، وتكون سعادة الذات هي النتيجة التي تترتب على تحقيق هذا الهدف، ولو أننا أخذنا بتعريف ليبنتس: « الحب هو أن تسعد بسعادة الآخر » لكان في وسعنا القول إن الحب هو القدرة على الاهتمام بالآخر والعمل على تحقيق سعادته والشعور بأن سعادتنا من سعادته، كون سعادة الذات هي أعظم هدية بإمكاننا أن نهديها للآخر، وهذا هو السبب في أن الحب كعاطفة/ كقيمة/ كجوهرة نادرة قلما تجود بها قلوب البشر.
وإذا ما تأملنا في كوننا ننجذب لهذا الشخص دون ذاك سنجد أن الحب في حقيقته عاطفة سابقة على عملية اختيارنا لموضوع الحب، كون عندنا صورة نمطية سابقة عن كيف نرغب/نريد هذه التركيبة البشرية التي ستلعب دور البطولة في مهزلة حبنا، ولو فكرنا في الدافع الذي من أجله وقع اختيارنا على هذه المرأة أو تلك لأدركنا أن الجمال في ذاته ليس هو الدافع الذي يوقد في قلوبنا شرارة الحب، وإنما تلك الدهشة التي أثارها في حياتنا مسبقا وحب الاستطلاع الماكث في أذهاننا، لذلك فالسعادة التي تقترن بالحب لا تكون في صميم الواقع، بل في خيالنا لا غير، وبهذا المعنى سوف يصبح كل من الحبيب والمحبوب قوالب نمطية يعيدون الصيغ التي ابتكرها الحب من قبلهم ويلعبون أدوار البطولة في الحياة العاطفية، على اعتبار أن الخيال هو كل شيء في الحب.
هذا ليس من باب السلبية والسوداوية نقوله، بل من أجل ذلك السر الذي تنطوي عليه كل تربية حقيقية هو أن نتصور الإنسان أفضل مما هو عليه في الواقع، فإن الرهان الذي ينطوي عليه الحب الصحيح هو أن نتخيل الشخص على نحو ما تؤهله إمكانياته لأن يكون هو هو وينفرد بشخصيته بكل استقلالية، فالمحبين لا يحبان ما عليه كل منهما في صميم الوقع، بل هما يحبان ما يرجو كل منهما أن يصيره بدعمه من الطرف الآخر و عن طريقه، على اعتبار الحب فعل ديناميكي تنتقل عن طريقه من القيم الدنيا إلى القيم العليا، فنرى في موضوع حبنا أسمى ما هو ميسر له من إمكانيات وقدرات، وهو بذلك حرية/حركة إيجابية ندرك عن طريقها في صميم القيمة الحالية لموضوع حبنا، تلك القيم العليا الجمالية التي تكمن فيه، فالحب إذن هو القادر على فتح عيوننا الروحية أكثر فأكثر على ما للموضوع المحبوب من قيم ومثل عليا، بحيث أن المحب الحقيقي ليصبح أكثر الناس مقدرة على رؤية القيم العليا التي تكمن في باطن موضوعه، بعكس ما يتوهم أولئك الذين يزعمون أن الحب أعمى، فالحب مصباح يرينا ما لا تفطن إليه أعين الغرباء رؤيته.
الحب الأسمى يكون من أجل الحب نفسه، أي أن الإنسان في حقيقة الأمر يحب لمجرد الحب دون أن يكون هناك دافع للحب إلا هو عينه، وهذا النموذج المثال للحب قليل جدا ولا تستوعبه العقول العادية، وهو وحده القادر على تحرير الحبيب والمحبوب معا بإخراجهما من دائرة الحب العابر/ المؤقت المرتبط بمصالح سواء كانت ايجابية أو سلبية، ليدخلهما عظمة سر الحب التي هي دائرة الأبدية/ الخلود/ اللانهاية، وعندما نحاول تعليل الحب بغير نفسه نكون أمام اعلان بداية موت الحب، لكن عندما يكون علة نفسه، فنعني بذلك أننا لا نحب صفات الآخر، بل نحن نحب الآخر نفسه. ولعل هذا ما قصده مونتني حينما قال: « لو أنهم ألحوا علي قائلين: ولكن لم تحبه؟»، لما وجدت ردا على هذا السؤال سوى أن أجيبهم بقولي: «إنني أحبه لأنني أنا من أنا، ولأنه هو من هو »، وإذا ما تأملنا في قول مونتني سنجده يعني أن الحب يتجه نحو الكينونة ولا نحو الملك، وكل من يحب شخصا لجماله أو جاهه أو مكانته، فإنه لم يعرف بعد معنى الحب، لأن هذه كلها ليست سوى صفات، فهي ليست بالشخص نفسه موضوع حبنا، لذلك فهو يحب الصفات لا الشخص، أم الحب الحقيقي فإنه لا يحب الآخر لصفاته أو لمميزاته، بل يحبه لذاته فوق كل شيء وأكثر من كل شيء، فكل إنسان يفضل أن يكون الحب تلقائيا/ عفويا/ لامشروطا. إذن الحب حقيقة مطلقة ليست مقيدة بأي شرط/ قيد ولا تعرف التعليل/ التبرير، فالآخر لا نحبه لأنه هذا أو ذاك، بل لأنه الآخر وفقط، فهو ليس علة الحب، بل إن الحب هو في حد ذاته كتجربة حية يعرفنا بأسرار هذا التلاقي الأنطولوجي مع الآخر.
إن السمة الأساسية التي ينفرد بها الحب هو أنه يقبل الآخر كوحدة/ كمركب/ ككل متجانس دون تفتيت عناصر ومقومات شخصيته، كونه لا يسعى إلى غربلة مميزات المحبوب لكي يأخذ بعضها ويطرح البعض الآخر أو يتخير فيما يريده وما لا يريده، وإنما يجب أن يقع اختيار شخصية محبوبه بأكملها ويقبل كل ما تنطوي عليه من مزايا وعيوب. وعلى حين أن هناك هواة في الحب يعرفون كيف يصنفون طبائع النساء وكأنها بضائع، وكيف يأخذون من هذه بطرف ومن تلك بطرف آخر، نجد جماعة المحبين هم على العكس تماما من جماعة الهواة، باعتبار الحب عندهم ليس عملية اختيار/ انتقاء لبعض الصفات أو الطباع في كل واحد، بل هو انتخاب إجمالي لهذا الكل باعتباره شخصا حيا هو غاية في ذاته. إذن المحب يتقبل شخصية محبوبه بأكملها ويريد موضوع حبه على ما هو عليه وبما يتسم به من صفات سواء سلبية أو ايجابية، لا على نحو ما نريده أن يكون، وكل حب يشترط شروطا سرعان ما يفقد طابعه الحيوي بوصفه حبا، ليتحول إلى شيء آخر غير الحب، أما الحب الحقيقي يراهن على هذا القول: «لتصبح ما أنت كائنه» لدرجة أن تصبح العيوب مصدر سحر الحبيب، فشأن الحب دائما أن يبتلع/ يهضم عيوب المحبوب، ليحولها إلى محاسن ومزايا، وينتقل من التركيز على نعرات التباعد إلى وسائط للتقارب والتقابل، إنني أحب تعني « إنني لأهوى الأرض التي يدوسها بقدميه والهواء الذي يتنسمه، وكل ما تلمسه يداه، وكل ما تنطق به شفتاه، أجل إنني أهوى كل نظراته وكل حركاته، وأنا أحبه بأكمله حبا جما، حبا كاملا غير منقوص»2. غير كافي أن يحب الحبيب محبوبه كله، وإنما يجب أن يحبه لوحده دون سواه، وبمعنى آخر لا يحبه بالإضافة إلى جانب موجود آخر قادر على أن يشكل موضوع الحب، والمحبوب هنا يصبح بمثابة آخر يطرد جميع الآخرين، فيصبح بالنسبة إلى المحب مركز للعالم كله وما دونه هوامش، فالحب لا يقبل المشاركة/ التعدد/ التنوع، فهو لا يعرف سوى بطل حبه الأوحد الذي هو بالنسبة إليه كل شيء.
سيبقى الحب في آخر المطاف هو الحل الأمثل لمشكلة الوجود الإنساني أو للإشكالات التي تقلق الإنسان وتدفعه للبحث عن جواب لها في دواليب الحياة، فلا تغرق في الحياة بحثا عن أنثى، وإنما اغرق في الأنثى بحثا عن الحياة على حد تعبير حسين البرغوثي، ومعنى ذلك أن موضوع الحب هو الحياة بالنسبة للحبيب، كما أن الحب هو الترياق المضاد للعزلة النفسية باعتبار الآخر كيانا يحمينا منها وبه ومعه يتم تشكيل حياة بكل الألوان على تلك الأرض التي لم تطأها قدم، اثنان يذهبان إلى هناك.. إلى النرڤانا كسعادة قصوى تتجاوز كل معاني الألم، حيث تكون حالة بديلة للوعي. بالحب نحيا ونحيا لنحب وبه نحيي الموت نحول الموتى إلى أحياء، لأن الذي يحب شخصا فكأنما يقول له إنك لا يمكن مطلقا أن تموت بالنسبة إلي، أي أن الكائن المحبوب لا يمكن أن يكون غائبا حتى وإن مات حقا، فهو حاضر دائما وأبدا بالنسبة إلى تلك الذات المحبة التي ارتبطت به، فجو المحبة هو الجو الروحي الأوحد الذي تتنفس به الذوات الإنسانية، والقادر على تعليمنا القيم الأنطولوجية التي تنسج خيوط هذا التلاقي البشري المذهل الذي اسمه «حب.»
____________________
البيبليوغرافيا :
1 – Louis La velle, “De l’acte”, paris, aubier, 1949.
2 – E. Bronté : ” Les Hauts De Hurle. Vert”, trad. franç.