العرب من الاستنارة إلى التشرذم
سيقول مؤرخو العرب بعد مئات السنين: إنّ العربَ قد عاشوا في القرن العشرين بالرغم من كلّ تناقضاتهم السياسية والفكرية؛ أزهى أزمنتهم الحديثة، بعد أن أحيت فيهم مشروعات النهضة مجالات العقل والاستنارة والإبداع، وأنهم قد نفضوا عنهم غبار الماضي، وخرجوا من سكون أكفان القرون التي سبقت اللحظة الزمنية للقرن العشرين ليلبسوا أثوابًا جديدة، وقد أبدعوا بعد أن انفتحت عقولهم، وتعاملوا مع أصالتهم، وخلقوا لهم أشياء جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل، بل إنهم انسجموا مع مشروعهم النهضوي ويقظتهم الفكرية، وناضلوا من أجل أن يكون لهم مكانهم تحت الشمس، لكنهم انتكسوا انتكاسات مريرة عند نهايات القرن العشرين، ودخلوا زمنًا اختلفوا فيه عن أزمنة استنارتهم النهضوية، بافتقادهم الوعي بالتقدّم، فتغيّرت حالاتهم، وتبدّلت أوضاعهم، وازدادت تناقضاتهم وباتوا يكره بعضهم بعضًا، وأخذوا يزيفون تاريخهم، ولم يتعلّموا منه شيئًا، فهم لم يتوقفوا عن مشروعهم واستنارتهم فحسب، بل تراجعت خطاهم تراجعًا مخيفًا؛ إذ غلبت عليهم الجهالة، وتفشّت في أوساطهم الأميّة، وخبا فيهم الوعي بالزمن، بل ماتت فيهم جذوة التفكير والعقل، واندلعت عندهم الحروب، وعمّت في نفوسهم الكراهية! والأخطر من هذا وذاك ما حدث في مجتمعاتهم ونسيجهم الحضاري من تمزّقات جراء أسباب غير مباشرة ما كانوا يحسبون حسابها أبدًا لا في مرحلة الاستنارة الأولى، ولا في مرحلة الليبرالية الناشئة، ولا في خضم المدّ القومي العربي ونزاعاتهم الباردة، وصولًا إلى مرحلة الحروب المجنونة وأزمنة المستبدّين والطغاة، وخصوصًا بعد سنة 1979م، تلك السنة التي اعتبرتها أخطر سنة في القرن العشرين؛ إذ سحبت منهم مشروعاتهم الأولى، فتأخرت ثقافتهم، وتقلّصت علاقاتهم المتمدّنة، وباتوا يبحثون لهم عن حلول بليدة من العصور الوسطى! كيف؟
مشروعات نهضوية عربية
قبل أن نحلل هذه اللحظة العربية الراهنة التي يكتنفها الغموض ويميّزها الاقتتال والتشرذم بأنواعه. دعونا نحلل باختصار ما كان عليه العرب إبان القرن العشرين؛ كي نرى حجم الهاوية التي انزلقوا فيها اليوم وبات من الصعوبة الخروج منها. مسترشدين بتطوّر أجيالهم المعاصرة التي بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر؛ حيث كانوا قد انفتحوا على العالم، فترجموا جملة من الكتب الممتازة، وتأسّست مدارسهم الأولى، وطوّروا لغتهم العربية القاموسية، وعرفوا تأسيس الصحافة من جرائد ومجلات، وطوّروا أساليبهم الكتابية وفنونهم الأدبية وطرائق عيشهم. وفي غضون ثلاثين سنة مع دخولهم القرن العشرين، بدؤوا يشعرون بضرورة النهضة والتخلص من الأجنبي وتكوين الأوطان الحديثة، فعُرفوا فيما بين الحربين العظميين بوجود رجالٍ بُناةٍ أوائل كانوا وراء تأسيس عدد من المؤسّسات والوزارات والمجامع العلمية والجامعات، وتطوّرت الثقافة العربية تطورًا إبداعيًّا، وفكروا بالاستقلالات الوطنية؛ إذ عرفوا قيمة أوطانهم، وقوة مجتمعاتهم وروعة ازدهارهم الحضاري، وكيفية استرجاع زهرة ماضيهم المتمدّن، كما عرفوا القوانين وتناغموا عربيًّا مع بعضهم الآخر باستحداث الإذاعات العربية، والسينما، ودور النشر العربية. ويكفي على سبيل المثال لا الحصر، ظهور امرأة أسطورية عربية التفوا حولها ليسمعوها، وهي تشنف آذانهم بالطرب العربي الأصيل حتى أسموها: «كوكب الشرق»، فكانت وحدها عاملًا نهضويًّا وظاهرة تنويرية في تجمّعهم، وهي فنانة قلما يجود الزمان بمثلها، جاءت من ريف مصر العربي لتوحّد الأسماع والأذواق العربية بين المشرق والمغرب العربيين على مدى خمسين سنة مضت.
عوامل الفشل وخطورة عام 1979م وبدء الزمن الكسيح
ومع نهايات الحرب العالمية الثانية، تفاقمت تناقضاتهم السياسية والأيديولوجية بحدوث انقلابات عسكرية ووصول ضباط ثكنات إلى سُدَّة الحكم ليحكموا من دون أيّة حكمة، ولا أي دهاء، ولا أيّ معرفة بطبيعة المجتمعات، مع أحزاب سياسيّة شمولية متشدّدة لا تفقه طبيعة الحياة الحزبية، وشغلوا الناس بتوافه الأمور وبالشعارات الخاوية. ناهيكم عن الانتقال من قوة العقل إلى العيش في الأوهام، فازداد جموح خيالهم للخروج إلى العالم كأمة موحدة من دون أية دراسات ومفاهيم؛ إذ إنهم لم يدركوا حجم التنوّعات والتباينات فيها، ولم يتدارسوا الخلل الذي كان فيها، فكان أنْ دفعوا أثمانًا باهظة من الضحايا والخسائر أمام أخطر تحدٍّ خطير واجهوه ممثلًا في إسرائيل، ومع تفاقم الانقسامات السياسية والثقافية والصراعات الأيديولوجية جراء التأثر بالحرب الباردة في العالم، بقي الوعي الجمعي بالاستنارة قويًّا، والأمل بالنهضة ساري المفعول، وخصوصًا لدى جيل جديد كان يطمح لبناء المستقبل أسوة بالأمم الأخرى حتى عام 1979م الذي أعتبره فاجعةً تاريخية؛ حيث هبّ إعصار مظلم للمرة الأولى بوصول رجل دين معمّم إلى أعلى سلطة في إيران، ومباشرة قال بتصدير ثورته الطائفية باسم الدين نحو مجتمعاتنا التي بدأت تهتز خلاياها الراكدة، وعندما سمعنا بمصطلح «الصحوة الدينية» قلنا: يا عجبًا! هل كانت مجتمعاتنا بلا دين حتى تصحو؟!
ومنذ تلك اللحظة البائسة، بدأ زمن كسيح تفاقم فيه الاستبداد من قبل حكّام جائرين حاربوا الاستنارة والانفتاح وآمنوا بالانغلاق والتفرّد بالسلطة، مع تبديد الثروات، وجعل الشعوب تلهث وراء لقمة العيش والسكن والعمل والأمان، بل وصل الأمر إلى إصدار قرارات جنونية، بإشعال حروب، وقصف مدن، وإفقار شعوب؛ فبدأت تنحسر القوى الاجتماعية الفاعلة، وتنكمش الحياة الإبداعية لدى العرب، وبدأ الوعي يَذْوِي، ودخل العرب في مرحلة حروب أهلية وداخلية وإقليمية قاتلة، في لبنان والعراق واليمن والجزائر وسوريا والسودان، وغيرها. وكانت هذه المرحلة كافية لخلق مافيات وعصابات وجماعات إرهابية، مع زيادة الانحرافات الفكرية بانعدام العقل والركض وراء الأخيلة والأوهام!
الدخول في بحر الظلمات، وتشكّل البنية العمياء
وعندما خرجنا من القرن العشرين كان عمالقة الأدب والفكر والطرب والثقافة والإبداع يغادرون الحياة واحدًا تلو الآخر. وغرقت مجتمعاتنا في لا وعي جمعي بالظلام الدامس، وأخذ الناس يفكرون بماضويات الزمن بعد مغادرتهم الاستنارة نهائيًّا، بل وصل الأمر إلى تكفير المبدعين والمفكرين والمؤسسين البناة الأوائل، وخصوصًا عندما غدت السياسة –على أيديهم- ممزوجةً بالإسلام السياسي، فتفاقم حجم الجماعات والأحزاب الدينية المتشدّدة بعد عام 1979م مع انقسام المجتمع العربي انقسامات حادة، وبدأت الطائفية تلعب لعبتها سياسيًّا وإعلاميًّا وثقافيًّا، بل انقسم كلّ المثقفين العرب انقسامات حادة مع غياب العقل وانكماش النخب المبدعة وتقلّص إنتاج القوى الفاعلة في أغلب مجتمعاتنا، وباتت الأوضاع تنتقل من سيئ إلى أسوأ بدخول القرن الحادي والعشرين.
لقد سجّل العرب في أكثر من مكان حالةَ انتفاضة مع تضخم قوة بشرية عربية شابة عانت في نهايات القرن العشرين التصلّب السياسي، واستبدادية الحكّام، وتبديد الثروات، وغلبة الإعلاميات الكاذبة والمخادعة بوعود في الإصلاح؛ فكانت لحظة 2010م التي أسموها: «الربيع العربي» تحمل في جوفها أسرار انتحارها؛ إذ استُلبت تلك الثورات استلابًا من قوى الظلام لتبدأ مرحلة ثلاثين سنة نعيشها اليوم؛ حيث يكتنفها الغموض ويسودها الإرهاب، ويميزها الاقتتال والتشرذم بأنواعه. ولعلّ أقسى ما يمكن تخيّله اختراق إيران لمجتمعاتنا باسم الطائفية ليتفجّر المزيد من الحروب والاقتتالات والتمزّقات الاجتماعية، والانقسامات الفكرية. لقد هُتكت أستار الثقافة العربية، وأصبحت عدة مدن وعواصم عربية ميادينَ لصراعات دموية مع ازدياد حجم التخلّف والتضليل، وابتذال التربويات والثقافات والفنون، وهجرة الملايين من العرب من أوطانهم بحثًا عن أوطان جديدة لهم فيما وراء البحار.
إن مأساة العرب اليوم ومحنتهم التاريخية تبدو للمؤرخ بنيويةً عمياءَ يستعصي حلّها؛ إذ تتشكّل من هياكل صعبة جدًّا، وهي: شمولية الحياة المعيشية، وغياب الحرّيات، مع استفحال التشبّث بالسلطة، وقهر الإبداع وانعدام فرص نضوج المبدعين، وتفاقم الإرهاب باسم الدين والنزول من سماحته إلى المعتقدات الرخوة، وغلبة الأساطير والخزعبلات، ومحنة الطوائف والملل والأقليات التي غدت تناحر الأغلبيات ردًّا على ثارات سيكولوجية قديمة، وكأنّ مجتمعاتنا لم تعرف التعايش والوئام منذ آلاف السنين.
هل من استعادةٍ للتنوير والعقل؟
لا أعتقد أبدًا أن الحالةَ التي يعيشها العرب اليوم مع غلبة المشكلات غامضةٌ للمفكّر بعيد النظر وعميق الرؤية، لكنها تبدو غامضة لتلك الجماهير العريضة التي تفاقم حجم الجهل عندها حتى بالأساسيات والبديهيات العامة. وممّا زاد من تفاقم حجم المحنة العربية اليوم: الوسائل الحديثة التي هي نتاج حقيقي للعولمة التي يمرّ بها العالم اليوم، فإنْ كان العالم يعيش ثورة معرفية وعلمية واسعة الأبعاد، فقد غدت هذه الوسائل الجديدة ليست سبيلًا للتواصل مع ثورة المعلومات، بل أدوات قهرية الاستخدام بتوظيفها في سفاسف الأمور، وفي توزيع العنف والعنف المضاد، فضلًا على دورها في حدوث صدوع واسعة في البنى الفكرية والقيم الأخلاقية مع انعدام التربويات القوية.
إنّ استعادة الاستنارة العربية بحاجة إلى مشروعات تحديث واسعة النطاق في العقلية وتبديل الذهنية من كونها مركّبة ومنغلقة ومتناقضة إلى موحّدة ومبسطة ومنفتحة بتغيير المناهج التربوية والتعليمية، واستحداث قوانين جديدة، وزرع قيم فكرية نظيفة تتقبّل الأشياء، وتخليص المجتمعات من ترسُّباتها وأمراضها المستعصية، إضافة إلى ولادة نخب لها ثقافتها الحقيقية التي تعتني بالمبدعين، وإشباع الناس لحاجاتهم الضرورية، وتهذيب أذواقهم، وتجديد أساليبهم في الحياة، وزرع قيم جديدة في التعايش مع الآخر، وتقبّل أفكاره الإيجابية مع احترام الزمن، ودقة الإنتاج، ونقد الظواهر، وإتاحة الفرص للحرّيات، وتهذيب الأذواق، وتجديد القيم، والاعتناء بالثقافة العامة، وتحديث المؤسسات في الدولة.
إنّ تنوير العقل من أصعب المهام التي تناط برجالٍ بُناةٍ من النهضويين الحقيقيين الذين لديهم القدرة على تربية أجيال جديدة كي يكونوا مادة أساسيّة في ازدهار العرب إبان القرن الحادي والعشرين. وهذا لا يتحقق في ظلّ الأوضاع الحالية التي وصلت إلى درجة أدنى من الاهتراء. إنني واثق بقدرة مجتمعاتنا العربية على الاستجابة للتحدّيات التاريخية، وكما أنجبت في الماضي أجيالًا من المبدعين والعمالقة في الفكر والأدب والفن والعلوم وصنع الحياة المتحضرة، فإن أبناءهم وأحفادهم لهم القدرات نفسها، وخصوصًا في توظيف وسائل العصر الحديث ليتفوّقوا في مجالاتهم ويكون لهم تأثيرهم في هذا العالم.
_____
* ملف العددان ٤٨١ – ٤٨٢ نوفمبر – ديسمبر ٢٠١٦م – كتاب الفيصل.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.