شَيطنة التَّنوير
يُمثِّل التَّنويرُ حركةً فكريَّة فلسفيَّة، ظهرَت في أوروبَّا في القرنَين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، وسَعَت إلى تأسيس نظام مَعرفيّ، يقُوم على إعلاء العقل، وتأكيد قدرته على فهم العالم وإدراك قوانينه، بعيدًا عن التَّصوُّرات الدِّينيَّة التَّقليديَّة، والأفكار اللّاعقلانيَّة الَّتي سادت في العصور المُظلمة. ويتجلَّى معنى التَّنوير في تعريف “إيمانويل كانت” له بأنه: “خروج الإنسان من قُصوره الَّذي اقترفه في حقِّ نفسه، من خلال عدم استخدامه لعقله إلَّا بتوجيه من إنسان آخر”. والعقل الإنسانيُّ -كما يقول نيوتن- قادر على: “تفسير الظَّواهر الطَّبيعيَّة، وإدراك دوره في العالَم المجهول”.
ما يُميِّز الفكرَ التَّنويريَّ إلى جانب مُنجَزاته العلميَّة، هو نزعته العالميَّة، حيث شرَع العقلُ الغربيُّ يفكِّر نيابةً عن الإنسانية، ويتجاوز جغرافيَّة التَّفكير المَوروث؛ وهو ما جعله قادرًا على التَّأثير في الثَّقافات المختلفة، خارج نطاق الحضارة الغربيَّة. وفي سياقنا العربيِّ، ما زال مَوقف العقل العربيِّ من الغرب متردِّدًا، نتيجةً لأسباب كثيرة، أسهمَت في اختلاط صورة الغرب وتناقُضها في المِخيال العربيِّ. وأهمُّ هذه الأسباب: الحروبُ الصَّليبيَّة، والاستعمار الحديث، واشتباك مفهوم التَّنوير في العلمانيّة، وجهلُ المضمون المَعرفيّ لهذه الأخيرة وتفسيرُها دَومًا كنقيض للدِّين. وبعيدًا عن رفض الغرب أو عِشقه والانبهار به، أو حتَّى محاولة “أسْلَمة” مُنجَزاته من باب “بضاعتنا الَّتي رُدَّت إلينا”؛ فإنَّنا في حاجة إلى الانفتاح على معرفة التَّجربة الحضاريَّة الغربيَّة، الَّتي تُمثِّل واحدةً من أضخم التَّجارب البشريَّة.
النَّظرة التَّخويفيَّة إلى الغرب، لا تُبرِّر تَجاهُل منجَزاته الكبيرة، الَّتي لم تكن بِمَعزل عن استثمار منجَزات الحضارات الأخرى، ومِن أبرزها الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. فقد استفاد التَّنوير الغربيُّ كثيرًا من المنجَزات الحضاريَّة الإسلاميَّة، وبشكلٍ خاصٍّ فلسفة ابن رشد الَّذي وُصِف بأنه “الشَّارح الأكبر”. لكنَّ العقل الغربيَّ ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما استطاع أن يَهضم تلك المنجَزات تمامًا، كما هضم الفلسفة اليونانيَّة وتَجاوَزها.
لعلَّ أهمَّ ما يُقلق خصوم التَّنوير، هو طبيعة الفكر التَّنويريِّ، الَّذي لا يَقْبل أيَّ سلطة معرفيَّة تَستعلي على الإنسان أو على عقله. ورغم سطحيَّة كثير من الخطابات الَّتي تَعمل على شيطنة التَّنوير، فإنَّ النَّظرة النَّقديَّة إلى الفكر التَّنويريِّ، هي جزء من الحَراك الفكريِّ الَّذي يُنضج مشروع التَّنوير، ويأخذ به نحو الأمام. فالتَّفاعل الجدليُّ بين الأفكار الرَّافضة للتَّنوير والأفكار المؤيِّدة له، يَخدم التَّنوير في نهاية المطاف.
دعاةُ التَّنوير في عالَمنا العربيِّ، ليسوا بمَعزِل عن مشكلات مجتمعاتهم، لكنَّ ذلك لا يبرِّر التَّنصُّل من فريضة التَّنوير، واستجلاء تمثُّلاتها المختلفة في الشَّرق والغرب. أيضًا لا يَنتقد التَّنويريُّون المعتقدات الدينيَّةَ لِكونها دينيَّة، وإنَّما لتَناقُضها مع العقل، ومحاولةِ فرضها على الناس بالقوَّة. وهذا النَّقد يمثِّل مَطلبًا دينيًّا، كان من واجب العقلاء من المؤمنين القيام به من تِلقاء أنفسهم.
لم يكن ظهور تيَّارات الإسلام السِّياسيِّ، وصعودُ الحركات والتَّنظيمات الإسلاميَّة المتشدِّدة، نتيجةً لردِّ فعل على التَّيَّارات الفكريَّة الوافدة من الشَّرق أو الغرب، بقدر ما كانت ردًّا على مشكلات داخليَّة، مِثل غياب الحرِّيَّات والعدالة الاجتماعيَّة، أو تَسلُّط النُّظم القمعيَّة.
عندما يكُون رفضُنا للتَّجارب الحضاريَّة، قائمًا على ادِّعاء امتلاكنا الحقيقةَ المطلَقة، فإنَّنا أحوَجُ النَّاس إلى الاستنارة والتَّنوير. وهنا، نَلحظ أنَّ كثيرًا من دعاة الفكر الدِّينيِّ، الَّذين يرُوقُهم القَولُ بأنَّ التَّنوير جاء نتيجةً لاستبداد الكنيسة، وإخفاق الفكر الدِّينيِّ المسيحيِّ، يصبحون غير آبِهِين أو حتَّى قادرين على مراجعة تُراثهم الدِّينيِّ، أو محاولةِ تأسيس خطاب معرفيٍّ جديد، يُسهم في نهضة مجتمعاتهم وأوطانهم.
أيضًا يَفقد التَّنوير رُوحَه، عندما يكُون محاكاةً أو تقليدًا. لذلك، لسنا في حاجة إلى “تنويريَّة سلَفيَّة” تَستنسخ تجربة التَّنوير الأوروبّيَّة، باعتبارها أنموذجًا قياسيًّا من العقلانيّة البشريَّة. فـ”الأُصوليَّة التَّنويريَّة” لا تَختلف عن “الأُصوليَّة الدِّينيَّة”، وكِلتاهُما تَسعى لإعادة إنتاج مشروع قديم خارج سياقاته. أيضًا لا يختلف المثقَّف التَّنويريّ “النَّفعيُّ”، عن المثقَّف الدِّينيِّ “النَّفعيِّ”؛ إذ كِلاهما يبحث عن مصلحته الضَّيِّقة، من خلال صيغة تُحافظ على الرَّاهن بكلِّ سيِّئاته وقُبحه.
ينجح التَّنوير عندما يَخرج عن نزعته النُّخبويَّة الاستعلائيَّة، وينخرط في المجال العامّ. وهذا يتطلَّب حياديّة الدَّولة في الشَّأن الدِّينيّ، كما في الشَّأن الفكريِّ عمومًا. فالسُّلطات السِّياسيَّة ليست هي من يُحدِّد ما الشَّكلُ الصحيح “المَسموح به”، أو غير الصَّحيح “الممنوع” من الأفكار المتداوَلة بين النَّاس. وينجح التَّنوير أيضًا، عندما نُدرك أنَّه يمثِّل نهجًا معرفيًّا ذاتيًّا، قادرًا على إحداث التَّغيير الَّذي يَطمح إليه النَّاس. فالتَّنوير هو مُهمّة تَستكمل مسيرة المُرسَلين، الَّذين جاؤوا ليُخرجوا أقوامهم من ظُلمات الجهل والخُرافة والاستبداد، إلى نور العقل والمعرفة والرّشاد.
_______
*المصدر: موقع تعدّديَّة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.