سلايدرفكر وفلسفة

عالَميَّة الإيمان أَمْ عَولمة الدِّين؟

يعتقد كثير من أتباع الأديان، أنَّ ديانتهم هي الأنموذج الأمثل للدِّيانة العالميَّة، ويُبالغ بعضهم فيَقصُر تلك العالميَّة على تعاليم دينهم، دون أن يتنبَّهوا لِأبعاد هذا الادِّعاء وإشكالاته المختلفة؛ إذِ العالميَّة ليست مجرَّد افتخار بخصوصيَّات عَقَدِيَّة نظريَّة. والنَّظريَّات -مهْما كانت جميلة ومُقْنعة- تَهتزُّ أمام الممارَسات القبيحة للأَتباع/التّابعات، وخاصَّة عندما يفتقدون القدرة على احترام الاختلافات، أو عندما تفُوق رغبةُ الانقسام عندهم/هنّ قيمةَ الوَحْدة والاجتماع.

إنَّ “عالميَّة الدِّين” وَفْق صيغتها العَقَدِيَّة الجامدة، قد تُمثِّل شكلًا آخر من أشكال “المَركزيَّة العَقديَّة”، الَّتي لا تختلف كثيرًا عن “العَولمة الثَّقافيَّة”، الَّتي تُمثِّل في كثير من الأحيان صيغةً شكليَّة لتمرير “المَركزيَّة الغربيَّة”. وعلى ذلك، فإنَّ فرْض نماذج ثقافيَّة أو دينيَّة جاهزة، ومحاوَلة تعميمها وعَولمتها، يتنافَيَانِ وقيمةَ التعدُّديَّة والاختلاف.

تزداد أهمِّيَّة الحديث بعالميَّة الدِّين، مع تنامِي قدرات العقل الدِّينيِّ على اكتشاف المشترَكات الكبرى، الَّتي يلتقي عليها الناس. وهذا يتطلَّب أن يكُون الفكر الدِّينيُّ أكثر إنسانيَّةً وعقلانيَّة، وأقرَبَ إلى هموم الإنسان وتطلُّعاته. ومِن أكبر الأديان ذات الصِّبغة العالميَّة، تَحضر أمامَنا البُوذيَّة والمسيحيَّة والإسلاميَّة. فهذه الأديان الثلاثة تجاوزَت في دعواتها المجموعات الإثنيَّة، والحدود الجغرافيّة الَّتي بدأتْ منها. وهنا، نجد بوذا يقول لأتباعه: “اذهبوا أيها الرُّهبان، وتجوَّلوا من أجل خير ورفاهيَة النَّاس”. والمسيح يأمر تلاميذه قائلًا: “فاذهبوا وَتَلْمِذُوا جميعَ الأممِ” (متّى 28: 19). أمَّا القرآن الكريم، فقد أكَّد عالميَّة الرِّسالة الإسلاميَّة كما في قوله تعالى: {وما أرسلنَاكَ إلَّا كافَّةً للنَّاسِ بشيرًا ونذيرًا ولَٰكِنَّ أكْثرَ النَّاسِ لَا يعلَمُونَ} [سَبَأ: 28].

لقد مثَّل الإيمانُ باللَّه “ربِّ العالمين”، عقيدة راسخة في الأديان الإبراهيميَّة، حسب ما نجدها في الكتاب المقدَّس في وصف الله بأنَّه: “مَلِكَ الْعَالَمِينَ”، و”رَبَّ الْعَالَمِينَ الْعَظِيمَ” (المكابيِّين الثاني 7: 9 – 12: 15). وفي العهد الجديد، يؤكِّد بولس هذه العقيدة بقوله: “بالإِيمَانِ نفْهَمُ أنَّ العالمينَ أتْقنتْ بكلمةِ اللهِ” (رسالة بولس إلى العبرانيِّين 11: 3). ويصِف القرآنُ الله تعالى بأنَّه “ربّ العالَمين”، في أوَّل سورة منه: {الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. وأيضًا يصفُهُ بأنَّه {خالقُ كلِّ شيءٍ} [الزُّمَر: 62]، و{ربُّ كلّ شيءٍ} [الأنعام: 164]. وهو أيضًا {مَلِكِ النَّاس، إلَٰه النَّاس} [النَّاس: 2-3].

مِن الطَّبيعيِّ أنْ تَرفض النُّظمُ القمعيَّة والعقول الأُحاديَّة الإيمانَ بربِّ “العالمين”، ويتبيَّن لنا ذلك في سؤال فرعون لموسى: {ومَا ربُّ العالمِينَ} [الشُّعَراء: 23]. فسؤال فرعون هذا، هو أقربُ إلى السُّؤال الاستنكاريِّ الَّذي يشكِّك في الإيمان بربِّ العالمين. وربَّما يعُود ذلك إلى أنَّ هذا الإيمان ينطوي على الاعتراف بمساواة النَّاس، وباشتراكهم في المرتبة الوجوديَّة الَّتي تَجمع بينهم في الخضوع لذات القوانين. وهو ما يتعارض ومصلحةَ المستبدِّين والطُّغاة، في جميع العصور والدُّهور.

يستمرُّ الجدل في مجتمعاتنا المعاصرة بين المحلِّيَّة والعالميَّة، سَواء في القضايا الدِّينيَّة والثَّقافية أم السِّياسيَّة والاقتصاديَّة. وهنا، يرى الكثيرون/ات أنَّ “عالميَّة الدِّين” بمعناها الواسع، يمكن أن تُضعف الشُّعور بخصوصيَّة المعتقدات الدِّينيَّة المحلِّيَّة، الَّتي تشكِّل جزءًا أساسيًّا من الهُويَّة القوميَّة والوطنيَّة في كثير من مجتمعاتنا الإنسانيَّة.

لا يمكن -برأيي- للعقل المُسْلم أن يصُوغ خطابًا عالميًّا، دون أن يميِّز بين الأحكام الدِّينيَّة العمليَّة المتمثِّلة بـ”الشَّريعة”، والمبادئ والقيم الكلِّيَّة الَّتي تتمثَّل بـ”أمّ الكِتاب”. ولا يمكن لهذا الخطاب أن يتقدَّم، دون أن يتعرَّف بعُمق إلى التُّراث الإنسانيِّ العالميِّ، وما يتضمَّنه من مشترَكات واختلافات. وأيضًا لا يمكن لأي خطاب دينيِّ أن يَبلغ مرتبة العالميَّة، ما دام مُصرًّا على تسويغ التَّمييز والعدوان تحت ذرائع دينيَّة. ففِكرة الحقِّ الدِّينيِّ في الاستيلاء على الأرض، واستعمال القوَّة في نشر المعتقدات، لم تعُد تُقنع كثيرًا من أتباع الدِّين نفسه، فضلًا عن غيرهم.

يؤكِّد القرآن أنَّه لا يمكن لنا أن نفهم رسالة الإسلام، إلَّا من خلال التَّعرُّف إلى قصص الأمم السابقة وتجاربهم. ولعلَّ الفهم المعاصر لتلك الرِّسالة، يحفزنا على توسيع دائرة المعرفة والقراءة، لتشمل جميع التَّجارب الإنسانيَّة القديمة والحديثة، الَّتي كشفت عنها الدِّراسات الاجتماعيَّة المعاصرة. فالإيمان بـ”عالميَّة الدِّين” لا بدَّ وأن يقُوم على الإيمان بعالميَّة الحضارة الإنسانيَّة، وعلى بناء معرفةٍ موضوعيَّة بالتُّراث الإنسانيِّ، وأيضًا على العمل على تعميق الإحساس بالقيم الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة المشترَكة، بين مختلف الأمم والشُّعوب.
________
*المصدر: تعددية.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عامر الحافي

أستاذ العقائد بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية، نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية، باحث وأكاديمي أردني، شغل منصب سكرتير تحرير المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، ورئيس قسم أصول الدين في جامعة آل البيت. من أهم مؤلفاته ابن رشد في اللاهوت المسيحي، ومحبَّة القريب في الإسلام، والأصوليات في الأديان، الأحزاب السياسية في إسرائيل، العبادات في الأديان، مقدمة التلمود البابلي، نظرة الاسلام للأديان الأخرى، الإسلام والأديان من الحوار إلى الأصولية.

مقالات ذات صلة