مخازن العقول المعطَّلة
في أحد المسرحيات الكوميدية المصرية يجتمع الأشقاء لبحث كيفية حل المشكلة الكبيرة التي تواجههم، كلما يقترح أحد الأخوة اقتراحاً ما، يدور النقاش حوله قليلاً ثم يخلصون في النهاية إلى تشكيل لجنة من عدد لبحث سبل تنفيذ هذه المقترح وينتهي المشهد وقد شكّلوا عشرات اللجان لدراسة عشرات الاقتراحات والقرارات، وبالطبع كما هو متوقَّع، ستنتهي المسرحيَّة دون أن تكون أي من المشاكل قد تمّ حلها.
المشهد يقدّم سخرية بسيطة من تلك السياسة الشائعة في مجتمعاتنا ودولنا العربية في الانشغال بالإجراءات الشكلية عن تحقيق الأهداف الحقيقية، وتشكيل مؤسسات صورية تضع لها الحكومات أهدافا كبيرة وتخصص لها تمويلاً ضخماً كذلك، دون أن يجني المجتمع منها شيئا بعد ذلك، وهذه المؤسسات الصورية عادة ما تصبح عبئا على الحكومات بعد ذلك من الناحية الإدارية والتنفيذية، ثم عند أول تغيير حكومي تقوم الحكومات الجديدة عاد بوقف مثل هذه المشروعات “غير المفيدة” تحت بند ترشيد النفقات.
وهكذا تدخل المجتمعات العربية في دائرة مفرغة من التشكيلات الوهمية، دون أي إضافة حقيقية لعملية التنمية المفترضة.
ومن هذه المؤسسات التي بدأ الحديث عنها في السنين الأخيرة، المؤسسات البحثية العلمية والتي جرت العادة في أدبيات التنمية على وصفها بخزانات العقول. شرعت بعض الدول العربية مؤخرا- في العقدين الأخيرين تحديدا- في إنشاء مؤسّسات بحثية لزيادة الاعتماد على النتائج العلمية في اتخذا القرارات التنموية والسياسية.
لكن هذه المؤسسات- كغيرها من المؤسسات الصورية- لم يكن لها تأثير حقيقي يذكر على دعم عمليات التنمية أو دفع المجتمعات العربية للأمام، وهو ما يؤكده انفجار الشعوب العربية في النهاية في وجه حكامها الذين لطالما تظاهروا بالحرص على مصالح الشعوب، بينما الشعوب هي آخر من يفكّرون فيه.
واليوم، وفي إطار ما نسميه “الربيع العربي” لدينا فرصة ذهبية لإعادة صياغة المنظومة الاجتماعية والسياسية ودفعها في الاتجاه الصحيح، كي تتحول من مؤسسات موقوفة ومعطلة، إلى مؤسسات فاعلة ومؤثرة على عجلة التنمية المجتمعية.
والسؤال الذي
سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال هو: لماذا لم تنجح هذه المؤسسات العلمية في دفع
مشاريع التنمية في المجتمعات العربية؟ وقبل أن نبدأ الإجابة على السؤال، علينا أن
نوضح أننا ندرك جيدا أن التطبيقات الغربية لهذه المؤسسات ليست مثالية وأنها برغم
نجاحها في أوجه كثيرة، إلا أنها ما زالت تواجه بعض الإشكاليات التي تعيق تمام
الاستفادة منها مثل التحيز السياسي لبعض هذه المراكز لحزب أو آخر ومحاولة دعم
سياساته، ومنها أيضا فرض تصورات نمطية معينة في التعامل مع القضايا التي تخص
مجتمعات أخرى-كقضايا الشرق الأوسط مثلا- وذلك نتيجة عدم إدراك الكثير من الباحثين
للواقع الشرقي وإدراك العوامل التي تحركه في الباطن.
ودعنا الآن نحاول الإجابة على سؤالنا الأساسي: لماذا لا تنجح هذه المؤسسات في
مجتمعاتنا العربية؟
- السلطوية في المجتمعات العربية:
صحيح أن كثيراً من الحكومات العربية قد اتخذت بالفعل اتجاها لتأسيس مثل هذه الكيانات والدفع بميزانيات معقولة لتشغيلها، كما في مصر والمغرب والأردن مثلا، لكن هل فعلا تعتمد الحكومات على نتائج الأبحاث التي تقوم بها هذه المراكز في علمية اتخاذ القرار؟ الحقيقة هي أن العقلية السلطوية التي تسيطر على الحكام العرب تجعل مرجعياتهم في اتخاذ القرار لا تحترم مصالح الشعوب في المقام الأول، بل تحاول تأييد نفسها بنفسها وتعزيز سيطرتها على مقاليد الدولة والمجتمع حتى تضمن لنفسها البقاء أطول فترة ممكنة، وتضمن لنفسها-كنخب حاكمة- أقصى استفادة سياسية واقتصادية ممكنة.
وهذا ما يجعل النتيجة العلمية آخر ما تعتمد عليه الحكومات في عملية اتخاذ القرار، وذلك أن النتائج العلمية والبحثية لا تحاول إلا الوصول إلى الحقيقة الواقعة بغض النظر عن المصالح المتباينة للأطراف السياسيين.
فعلى سبيل المثال، لو أن بحثاً استطلاعيا وجد أن أحد أحزاب المعارضة يجني شعبية متزايدة، فلن تستطيع أبدا الصحف والأوساط الرسمية الاعتراف بهذه النتيجة، بل ستسمر إلى الأبد في تأكيد الشعبية اللامتناهية للحاكم وحزبه وحكومته.
وهكذا تجد المؤسسات البحثية نفسها خارج منظومة اتخذا القرار، بل وأيضا تستخدم لإضفاء الشرعية على وجوده الحكومات المتسلطة والتي لا ترى إلا نفسها.
- الاستقلال السياسي للمؤسسات البحثية:
وجود مثل هذه المؤسسات في بلاط الدولة أو حوله يضفي عليها “المظهر الديمقراطي” ويعطي للمراقبين من منظمات المجتمع المدني وغيرها، ذلك الانطباع الكاذب بأن تلك الحكومات إنما تعتمد في قراراتها على نتائج علمية حقيقية، مما يضيف إلى شرعية وجودها، ويساعدها على أحكام السيطرة على إرادة شعوبها باستخدام ذلك في الإعلام الرسمي وأدواته.
وقد رأينا في مصر مثلا قبيل الانتخابات التشريعية لعام 2010 كيف ظلت تردد قيادات الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، أن نتائج استطلاعات الرأي تؤكد تفوقه على منافسيه في الانتخابات-وكان منهم جماعة الإخوان المسلمون الحاكمة الآن-وأن شعبية الحزب في تزايد واضح.
ولم تكن ثمة حقيقة واحدة في كل هذا الكلام، بل كانت هذه الأبحاث واستطلاعات الرأي موجهة في اتجاه واحد فقط، وهو تأييد ودعم البرامج الانتخابية لمرشحي الحزب الحاكم وإيهام الشعب بأن فوزه أمر طبيعي لأن شعبيته كبيرة.
- ضعف التمويل الحكومي:
من الطبيعي أن لا تستثمر الحكومات العربية بالمعنى الفعلي للكلمة في مثل هذه المؤسسات البحثية، بل تعمل لتصبح لافتة تضعها وتتشدق بها وكفى، ولا تضع فيها استثمارات وتمويل مستدام لائق.
والحق أن سمة هذا النوع من المؤسسات خاصة فيما يخص التمويل، فهي مؤسسات لا تدر ربحاً لنفسها في المقام الأول، وبالتالي لا ينتظر ذلك اليوم الذي تعتمد فيه المؤسسة البحثية على نفسها في التمويل والنفقات، بل تستمر على الدوام في الاعتماد على الجهات المانحة والحكومات في تمويلها ودفعها للتوسع وزيادة طاقة العمل البحثي بها.
لذلك فالتمويل المستدام المباشر هو نوع التمويل الذي تحتاجه مثل هذه المؤسسات البحثية، وهو ما لا توفره الحكومات العربية عادة، وذلك أنها في الغالب لا تدرك القيمة التي تدرها هذه المؤسسات بشكلٍ غير مباشر على عجلة التنمية، وهذه القيمة يمكن ترجمتها أيضا إلى أرقام تفوق بكثير مقدار ما تنفقه الحكومات في دعم هذه المؤسسات.
ما أريد أن أقوله هنا، أن الاستثمار في مؤسسات البحث أو الـthink tank تجارة رابحة لكن ربحها يأتي بشكل غير مباشر لا يظهر في ميزانيات الدولة، لكن الخسائر الفادحة الناتجة من إهمال البحث العلمي ونتائجه هو الذي يظهر بالفعل في هذه الميزانيات، وتعاني منه الشعوب في النهاية.
- فساد منظومة البحث العلمي والتعليم:
المشكلة ليست كلها حكومية كما قد يبدو من حديثنا السابق، فالأمر في النهاية-ومن زاوية أخرى- يعتمد على وجود طاقات وكوادر بحثية جادة تعمل داخل المجتمع المعني وتهتم بمشكلاته، وهو ما لا يتوافر بسهولة في الحقيقة داخل مجتمعاتنا العربية بسبب فساد المنظومة التعليمية ومنظومة البحث الأكاديمي، والتي تخرج سنويا كوادر غير مدربة على مناهج البحث العلمي السليمة، وغير قادرة على قيادة منظومة بحثية في اتجاه فاعل ومؤثر.
ذلك أن غالبية الكوادر البحثية التي تخرجها منظومة التعليم العربية قد اعتادت هي الأخرى طول سنوات الدراسة على كتابة أبحاث صورية ومقلدة فقط بغرض جمع الدرجات وتحصيل الشهادات العلمية وإرضاء الأساتذة، وهذا الاتجاه إلى التبعية والشكلية هو ما تدعمه منظومة التعليم السلطوية وتزرعه في الباحثين بقصد أو بغير قصد.
ولا يعني ذلك خلو المجتمعات العربية من العقول، بل على العكس، المجتمعات العربية مليئة بالعقول النيرة والباهرة، إلا أن منظومة التعليم لا تدعم هذه العقول بالأدوات العلمية اللازمة لاستثمارها وتوصيل الفائدة المرجوة منها المجتمع.
- ضعف الثقافة العلمية في المجتمع:
يتخطى الأمر أيضا مؤسسة التعليم إلى المجتمع ككل، فالثقافة العلمية لا تحظى بشعبية كبيرة بين الأوساط الاجتماعية في معظم المجالات، وأعني هنا بالثقافة العلمية قيمة احترام النتائج العلمية في العلاقات الاجتماعية، وتعزيز قيم الموضوعية والعملية والفاعلية بين الأفراد في المجتمع.
فالثقافة العربية يغلب عليها الطابع الكلامي أكثر من الطابع العملي الفاعل ويغلب عليها إهمال مرجعيات الواقع والنتائج في صالح الحفاظ على مجموعة من المعايير والإجراءات تتعلق بمرجعية الهوية والدخول في معارك كلامية غرضها الدفاع عن الهوية- والتي لا يهددها فعلا سوى عدم فاعليتها- والتي لا يدافع عنها كذلك إلا قوة الواقع المعبر عنها والقدرة على التأثير في المجتمعات الأخرى.
وربما يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، على رأسها تلك التصورات الدينية الرجعية التي تسيطر على عقول الشعوب العربية، والتي تضع نفسها في مواجهة العلم وكأن بينها منافسة ما، أو كأن أي نجاح للعلم كمرجعية اجتماعية، يعد انتقاصا من سلطة الدين على البشر، وهو ليس صحيحاً بالمرة. بل على العكس، ليس ثمة أي تعارض بين الدين والعلم، فكل منهما يجري على مضمار مستقل ولا ينافس أحدهما الآخر في بضاعته.
فالدين إنما يناقش الأمور الماورائية والكونية بالأساس، ويضع تصورات معينة عن النفس البشرية ثم يبني على هذه التصورات قيما مرجعية لحياة البشر مستمدة من طبيعتهم الإنسانية، وهذه القيم مجال عملها النفس أولا بتزكيتها ثم المجتمع ببحثه عن السلام والحرية والفاعلية والقدرة.
والعلم في ذلك إنما هو وسيلة لتحقيق هذه القيم التي يدفع إليها الدين والتي منها الفاعلية والنجاح والقدرة والتأثير. والدين الإسلامي خاصة- وكما نعتقد نحن فيه- هو أكثر الأديان احتراما لقيمة العلم وتأثيره وقدرته على تعزيز قيم الفاعلية والنجاح.
فنحن نعتقد أن الدين الإسلامي كان أحد أهم أهدافه نقل البشرية من الغربة في عالم الماورائيات وتغييب الواقع إلى بناء الحضارة الإنسانية القائمة على العلم وإدارة الواقع، وهو ما يؤكده ذلك الدفع المستمر من القرآن للتفكر في الكون والتأمل فيه وبحث تغيراته وتطوراته والجري وراء معرفة الحقائق الكونية. فنقرأ في القرآن الكريم على سبيل المثال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت/20.
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) آل عمران/191. (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) الذاريات/20.
وغير ذلك الكثير من النصوص الواضحات، فالمتأمل للنص القرآني يدرك بحق أن القرآن لم يكن نصاً رجعياً يريد أن يعود بالناس إلى عصور سحيقة، كما أنه لم يكن نصاً يريد أن يلتقط صورة اجتماعية معينة أو شكلا اجتماعيا معينا ويجعله هو النموذج الذي يجب على الناس في كل العصور والبلدان أن يتمثلوه للحصول على مفتاح الجنة، بل على العكس، فهو يطلق العقول والقلوب لتنطلق إلى أرحب الآفاق من الإبداع والابتكار والاختراع، جاعلاً لذلك مجموعة من القيم الروحية العميقة الحاكمة، والتي هي قيم فطرية وإنسانية في النهاية تقع في المنطق الأعمق من المشترك الإنساني الأكبر، وكأن ذلك الدين قد أتى ليرد البشرية إلى فطرتها التي ضلّت عنها بفعل المادية والصراع والأنانية، وما أشبه ذلك الواقع الذي نزل فيه القرآن بالواقع الذي يعيشه العالم اليوم، وما أحوجنا إلى تمثل هذه القيم المركزية التي يطرحها القرآن، دون ذلك التشويش الذي صنعه أولئك الذين يستخدمون الذين كسلاح مسلط على عقول ورقاب وإرادة الشعوب، ذلك الدين الذي لم يأتِ إلا تحريراً للإرادة وإطلاقاً للعقول وشحذ الهمم والطاقات البشرية كي تنطلق دون قيود إلى الحقيقة .. التي هي “الله” في المبدأ والمنتهى.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.