الشعوب التي تريد التقدّم تفكر أولا في بناء الإنسان وتنمية قدراته ومواهبه وابتكاراته، فالإنسان أو العنصر البشري هو الضامن الأكبر لتقدم أية دولة وازدهارها، ففي العالم العربي يأتي العنصر البشري في آخر اهتمامات الحكومات والمسؤولين، فهناك قسم من هذا العالم العربي لا يهتم بأي شيء سواء كان ذلك الشيء إنسانا أم بُنى تحتية أو ما شابه نظراً للفساد المستشري في دواليب هذه الدول التي يعاني أغلبها من الفقر والحاجة، وهناك قسم آخر أنعم الله عليه بمداخيل هائلة من بحار النفط التي تسبح تحت أرجلهم، فشيدوا البنايات والمؤسسات والطرق والمشاريع الضخمة، وكان الإنسان آخر ما فكروا فيه، ولم ينتبهوا إلى أهميَّة بناء هذا العنصر، إلا في السنوات الأخيرة، مما حدا ببعضهم إلى القيام ببعض المحاولات رغم أنها تبقى محتشمة ودون المستوى المطلوب في ظل وجود كل تلك الإمكانيات المادية الهائلة.
الإنسان ليس مجرد كائن حي يجب أن يوفر له ما يأكله وما يشربه ليحس بالرضا والأمان ورغد العيش، إن بناء الإنسان أكبر من هذا بكثير، فتنمية الإنسان تستوجب الاهتمام بشقيه الروحي والمادي، وإذا غلب احدهما على الآخر لا تتحقق إنسانية الإنسان ولا يتحقق الاستخلاف الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يتحقق في هذه الأرض بواسطة الإنسان الذي اختاره لذلك، لقد اختار الله جل وشأنه الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وذلك بتجسيده لمجموعة من القيم التي تجعل الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وذلك بتجسيده لمجموعة من القيم التي تجعل هذا الإنسان يتفرد ويتميز عن غيره من المخلوقات الأخرى، إنسان يعتمد السنن الكونية التي تسير هذا الكون ويسير وفقها، سنن فهمتها الشعوب المتقدمة التي نالت نصيباً كبيراً من التقدم والازدهار والرقي، وهو تقدم ليس مادياً فحسب كما يعتقد الكثيرون، إنه تزاوج جميل بين التقدم المادي والفكري والمعرفي في آن، فلا يخفى على المتتبع مدى التطور المادي الهائل الذي وصلت إليه شعوب أمريكا وأوروبا، ولا يخفى كذلك التقدم المعرفي والفكري الذي وصلوا إليه في مجالات الفلسفة والطب والرياضيات وغيرها من حقول المعرفة المختلفة، هذا دون إنكار بعض المشاكل التي يعانون منها جراء تغليبهم للجانب المادي.
لقد ضيع العرب قيمة الإنسان، وقلما كان اهتمامهم بها كبيرا، لذلك ما زلنا نرى اليوم في جل البلدان العربية جيوشاً من الأميين تقدر بالملايين، وملايين أخرى من الناس افتقدت إلى الإبداع والابتكار، وأصبحت مثل الآلات تستهلك فقط ولا تبذل أي جهد من أجل الإنتاج والإبداع، لقد نتج عن عدم الاهتمام بالإنسان وتنميته في العالم العربي، أمراض مستعصية لا دواء لها غير تغيير النظرة إلى قيمة الإنسان في هذا المجال الذي يفترض أن يكون حيويا في هذا العالم.
لقد نتج عن عدم الاهتمام بالإنسان في العالم العربي مشكل أكبر وأعمق وهو الاستهزاء بقيمة الحياة، فمع غياب دور حقيقي وفعال للإنسان غاب أيضا أي طعم وأية أهمية لقيمة الحياة، فالإنسان الذي يحا ويعطي قيمة للحياة هو الإنسان المبدع والمبتكر الذي تعتبر الحياة لديه مختبراً حقيقياً من أجل عيش تجارب متنوعة في الحياة، الأكيد أنها ستكون في صالح إنسانية الإنسان لأنه تسقى من معين الإيمان بالسننية، والدور الفعال والمؤثر للمعرفة والعلم في صناعة الإنسان المبدع والخلاق.
لقد سادت حالة من الاستهتار بالحياة في العالم العربي بلغت مداها في السنوات الأخيرة مع ظهور أناس يروجون لفكر متطرف مقيت يمجد العنف بكل أشكاله، بل ويدعو إلى فقدان الحياة من أجل جنة لا توجد إلا في أذهان هؤلاء المستهترين بالحياة، إنه الفكر الذي ذهب ضحيته آلاف الأبرياء في العالم، فكر يغتال الحياة ويحرم الآخرين من حياتهم بدون أدنى وجه حق، غنه الفكر الذي كلف المسلمين كثيراً، وصورهم بأنهم أولئك الناس الممجدون للعنف والقتل ما أضر بهم ويدينهم أيما يكون الضرر.
إن قيمتي الإنسان
والحياة مترابطتان، ولا يمكن فصل أي منهما على الأخرى، فحيثما وجد الإنسان الذي
يحظى بكل حقوقه والمجسد لقيم الاستخلاف والفعل الخير الابتكار والإبداع المفيد
للبشرية، ثمة تكون الحياة، حياة تكون كل ثانية فيها غالية ولا تقدر بثمن، فقيمة
الوقت هي الأخرى مرتبطة بطريقة الحياة، فحيثما تكون الحياة التي تؤطرها أهداف
سامية وقيم عليا تسمو بالإنسان، يكون تقدير أكبر للوقت ولعامل الزمن الذي يقدر فقط
المحبون للحياة والمقدرون لقيمتها، وهؤلاء لن يكونوا إلا أناسا راقين في تفكيرهم
وفي طريقة عيشهم لهذه الحياة.
لقد أصبح ملحاً الآن وأكثر من أي وقت مضى تغيير النظرة إلى هاتين القيمتين
العظيمتين، خاصة في المنطقة العربية التي تعتبر من أكثر المناطق في العالم
استخفافا بهاتين القيمتين المميزتين، تغيير لن يتأتى إلا بقراءة معاصرة للنصوص
الدينية التي يردد على مسامعنا كل يوم كثير من رجال الدين فهمهم لها، فهم يذل
الإنسان ولا يقيم اعتبار لقيمة الحياة لديه، يجب أن يتغير هذا النوع من التفكير
الذي يرسم الإنسان وكأنه في سجن كبير اسمه الدنيا لا يملك فيه أي حق او هامش
للحركة والفعل والإرادة، تفكير يعتبر حياة الإنسان بلا قيمة بحكم أنها زائلة لا
محالة، هذا الزوال يجعل الإنسان يستهتر بها.
إن رد الاعتبار لقيمتي الإنسان والحياة سيجعلنا نعيش حياة مغايرة تماما، حياة كلها إبداع وابتكار وفن وتواصل فعال وتقدم وازدهار، حياة تجعلنا حقا خلفاء حقيقيين لله في هذه الأرض، وما لم تغير هذه النظرة سنبقى كما نحن ولو قمنا بمئات الثورات وأسقطنا آلاف الأنظمة.